الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الدّيمقراطية يبنيها الدّيمقراطيون.. وليست وحيًا يُوحى!

عزالدين بوغانمي *

الديمقراطية يبنيها الديمقراطيون. ونحن في تونس عندنا طبقة سياسية على اختلاف توجّهاتها، تشترك في كونها وريثة الاستبداد وسليلته، وغير مؤمنة بالدّيمقراطية.

ولأنّ الاستبداد اختطف الدّولة، وجعلها في خدمة النخبة الحاكمة، وأكره النّاس على القبول بسياساته في كلّ مجالات الحياة، وفرض عليهم الإذعان باستخدام البطش.، فقد تبيّن بعد 14 كانون الثاني/ جانفي أنّ هنالك شروخ ثقافية عميقة غطّاها الاستبداد، تمنع قيام إجماع داخلي على الدّولة، على مضامين الدّيمقراطية، على هويّة البلاد وعلاقتها بالخارج، على منوال التّنمية … الخ

ولأنّه ليس هنالك دولة واحدة مُستقرّة في العالم دون إجماع على هذه الأسس. ولأنّ التعدّدية الحزبيّة في ظلّ غياب الإجماع تتحوّل إلى ما يُشبه الهويّات المتصارعة. ولأنّ الدستور والانتخابات في ظلّ غياب الإجماع تولِّدُ نظام حكم مُفتّت ودولة منقسمة. فنحن نرى ذلك بأمّ العين في مجلس نوّاب الشّعب. ونراه في النّزاع بين رئاسة الجمهورية ورئاسة البرلمان حول الصّلاحيات. ونراه في عجز الحكومة على القيام بِدوْرِها.

والحل الوحيد الممكن، الذي ظللنا نُكرّره منذ 2011، هو التخلّي عن كل الأفكار التي تؤدّي إلى التّناحر. والتعاون مع بعضنا البعض على بناء منظومة أفكار وطنيّة جديدة، تؤسّس للتّضامن والتعايش والتعاون واحترام القانون. وهذا لا يمكن أن يتمّ دون تواضع الجميع، ودون توفّر حدّ معقول من الشعور بالمسؤولية والكرم الأخلاقي لدى النّخب المدنية، يٌمكّنها من الجلوس حول طاولة الحوار الوطني للتّفاهم على حماية تونس من الهلاك.

وبالمناسبة، هذا هو جوهر الثّورة، وجوهر التّقدّم، وجوهر الوطنية، وجوهر الإسلام في نفس الوقت.

وما تبقّى من شعارات هو مجرّد عبث خارج سياق التّاريخ. ولا يساعد إلّا على العنف وتدهور الأوضاع، والعودة عشرات السّنين إلى الوراء.

وفي انتظار ذلك، يجب على القوى الوطنية والديمقراطية عدم خشية الجماعات المتطرفة وتهديداتها. والالتحام بالشعب حيثما كانت الاحتجاجات وتبنّي مطالبه، والمحافظة على سلميتها.

وهنا لابد من التوقف لمناقشة ظاهرة، قد يكون بعضكم تساءل عنها قبلي.

وأنتم تُتابعون ممارسات بعض الكُتل في مجلس نوّاب الشعب؟ لماذا يجذب الخطاب العنيف الدّموي الإقصائي جمهوراً أوسع مئات المرّات ممّا يجذب الخطاب المدني السّلمي الديمقراطي؟

هنالك سبب مرتبط أساسًا بطبيعة جيل مخدوع، وُلِد على أمل أحلام الثورة. ثمّ أُصيب بالإحباط. وشيئاً فشيئاً. فقد الثقة في الأحزاب السياسية. ولأنّه يتحرّك ضدّ “السيستام”(1) من خارج المنظومة الحزبية، فإنّ الإصرار على المطالبة بالعيش الكريم في ظل انعدام الثقة، جعله جمهوراً قصووياً إلى أبعد الحدود. ولعلّ الحركة الأكثر تعبيراً عن القصووية وعن سقوط “الباراديغم”(2) القديم حيث القرار في المركز، هو غلق أفواهنا.

هنالك أيضاً عامل كوني يُغذّي انجذاب الفئات الشبابية للخطاب العنيف. فاليوم في كل دول العالم، وبسبب الأضرار المعيشية الفادحة الناجمة عن أزمة النظام الرأسمالي، المتفاقمة بالكوفيد وبالنزاعات المسلحة على النفوذ، وبسبب الاستهلاك الفاحش، مقابل الفقر الفاحش، أصبح منسوب العنف لا يُطاق في كل الاحتجاجات التي تبدأ سلمية في أكبر مٌدن العالم، ثمّ تتحوّل إلى المواجهة وكسر العِظام.

لا شكّ أنّ مثل هذه العوامل تساعد على تفسير الظاهرة. ولكن يبدو أنّ العامل المحدّد والرّئيس في توسّع جماهيرية الجماعات العنيفة وانجذاب أعداداً غفيرة من السكان لها، هو اقتناع تلك الشرائح الاجتماعية الأكثر حرماناً وتهميشاً والمتأهّبة للتمرّد، بأن السلطات جائرة ومخادعة، وبأنها أقلية منتفعة على حساب بؤس الأغلبية، وبأنّها تملك قوّة البوليس، ومحمية من الخارج.

وهذا يجعل الجمهور المسحوق ميّالاً لجماعات لا تنتظم في حزب، بل هي جماعات غامضة المعالم ولا تشبه مكوّنات “السيستام”، مثل جماعة الائتلاف، يبدو خطابها زاداً روحيّاً، ومصدر قوّة مُضادّة، وتوحي بامتلاك أنياب حديديّة قادرة على المواجهة، وتتحدّى أعلى مقامات القضاء، وأعلى مؤسسات الحكم. ولا تخشى العواقب، بما يعطي الانطباع على التفرد بالقوة والشجاعة. ومن هنا تسير الألوف وراء جماعات لا تتمتّع بأيّة موهبة ولا أيّة صدقية، ولكنّها تُضمِرُ مِقداراً من لغة جاهزة للعنف وجاهزة لإعادة إنتاجه واستخدامه.

أعتقد أنّ هذا ما يُحدِثُ الفارق بين شعبية القوى العنيفة، وشعبية القوى الديمقراطية المدنية. إذ تبدو هذه الأخيرة، في نظر الناس، ضعيفة وبلا أنياب أمام “سيستام” تقوده نُخَب ظالمة فاسدة، ومستعدّة، من أجل حماية منافعها، لارتكاب أبشع الجرائم، بحيث يصعب الرهان على الديمقراطيين المسالمين في أيّ تغيير، مقابل قوى متطرّفة تستحضر أمجاد التاريخ الجهادي ومستعدة للتضحية. فهذا الشباب الممعوس بالفقر والتّهميش، ليس عنيفاً بطبعه. ولا تُحرِّكه آيات الجهاد والتكفير نحو العنف. بل بالعكس تماماً. يعني درجة الحرمان ومنسوب الشعور بالخديعة، وانسداد الأفق، والعجز عن افتكاك الحق في حياة كريمة، هو الذي يولّد الحاجة لإحياء معاني الشهادة واستعادة الذاكرة القديمة التي ارتبطت بالفتوحات والانتصارات التاريخية.

مُخّ الهدرة(3)، القوى اليسارية والديمقراطية في تونس، هي قوى مدنية مُسالمة لا تجرحُ خدّاً، ولا يمكنها إقناع ملايين الشباب المهمشين بقدرتها على مواجهة العنف. وفي نفس الوقت ليس بوسعها تبنّي عقيدةً عنيفة، ولا حَمْل خطاب عنيف، ولا استخدامه بِأيّ حال من الأحوال. أضف إلى ذلك غياب أيّ سياسية رسمية، وأيّ جهد أهلي، لنشر ثقافة مدينة حقيقية تُساعد هذا الشباب المُنفجر على التمييز بين طريق الحرية والرّخاء، وبين طريق العنف والخراب.

إذن ما العمل؟

في رأيي، الحـل الوحيـد الممكـن، والمتـاح لربـح المعركة ضد التطـرّف، هـو تعـاون جميع القـوى الوطنيـة والديمقراطيـة المنـاهضة للتطـرف والإقصاء، تعـاوُناً وثيقـاً، والالتحام بكل أشكال الاحتجـاج والعمل على تأطــيرهـا، وانتــزاع تأييــدها. وهـذا أمــرٌ يتطلب المنـاقشـة والاقتنـاع. ثم التفـاهم عليـه وكتابتـه. وبعد ذلك المرور للعمل(4).

هوامش المحرر:

(1) نظام، ذهنية، ثقافة، سلوك ونمط حياة

(2) النموذج القياسي أو المثال الكامل

(3) كلام لا طائل منه

(4) هذا كله يصح على جميع البلدان العربية الثائرة

————————————————

* سياسي وباحث تونسي

المصدر: الحوار المتمدن

التعليقات مغلقة.