الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الجغرافيا السياسية والهوية الوطنية للسوريين

ريمون المعلولي *

يُعدُّ الشعور بالانتماء إلى وطن، مع وعي الهوية الوطنية وإدراك خصائصها الجوهرية المميزة، من العوامل الأساسية في توحيد أبناء الوطن/ الأمة. ولأن الانتماء والهوية الوطنية يرتبطان بجغرافيا سياسية محددة بمساحة معروفة، وحدود واضحة، تعرّض السوريون منذ عام 1916 وسايكس بيكو -وخاصة النخب- لأزمة على مستوى إدراك الهوية الوطنية ووعيها، أو لاضطراب على مستوى وحدة الهوية الوطنية، بسبب التناقض بين الجغرافيا المتخيلة، والواقعية لسورية من جهة، وبينهما وبين ولاءاتهم السياسية من جهة أخرى (دينامية التناقض وعدم استقراره).

شهدت الجغرافيا السياسية لسوريا الكبرى، كما كانت معروفة، سلسلة من التغييرات المتعاقبة، حيث تحوّل الكيان الجغرافي الواحد، وتبلغ مساحته 338 ألف كم مربع، إلى أربعة كيانات جغرافية: سورية الحالية، لبنان، شرق الأردن، وفلسطين مع وعد بلفور لليهود في فلسطين. وبين عامي 1920-1921، أصدر الجنرال غورو سلسلة مراسيم التقسيم، وبدأت بفك أقضية بعلبك والبقاع وراشيا وحاصبيا، عن دمشق في 3 آب/ أغسطس 1920 ، ثم إعلان لبنان الكبير في 31 آب/ أغسطس 1920 ، وترسيم الحدود مع تركيا في العام ذاته، وبموجبه تنازلت سلطة الانتداب عن مساحات واسعة من الأراضي السورية التاريخية، ثم بدأت ترسيم حدود دمشق وأعلنت دولة حلب ودولة العلويين، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1920 ، وأعطت لواء إسكندرونة والجزيرة الإدارةَ الممتازة، في تشرين الثاني/ نوفمبر 1920، ثم أعلنت دولة جبل الدروز في 4 آذار/ مارس 1921، وفي عام 1939 تخلّت لتركيا عن لواء إسكندرونة.

كيف تفاعل السوريون – النخب الفاعلة- مع هذه الوقائع؟

منذ بدء العمل على تأسيس المملكة السورية (1918- 1920) مرورًا بالمراحل التي أعقبتها، حتى تحقيق الجلاء الناجز عام 1946، لم يلق الكيان المنبثق على اتفاقية سايكس بيكو، ثم سان ريمو، أيّ اعتراف من قبل غالبية السوريين، فكان كيانًا إشكاليًا نُظر إليه باعتباره كيانًا غير مكتمل، ووجد هؤلاء أنفسهم في مأزق كبير حول كيفية التعامل معه، وقد كافحوا من أجل منع نشأته على الصيغة التي أرادها له الفرنسيون، لكونه يتناقض مع ما كان يطمح إليه رجالات العهد الفيصلي الذي عُدَّ عهدًا قوميًا عربيًا وضع نصب عينه العمل على تحقيق الوحدة الكبرى انطلاقًا من سورية الكبرى، وقد بذل فيصل ومن سانده من وطنيين جهودًا لإحلال الوحدة القومية، وفي تلك المرحلة، نادى معظم الأحزاب بالفكرة العربية القومية، مثل الجمعية العربية الفتاة، وحزب الاستقلال العربي، وجمعية العهد السوري. فيما قَصَرَ البعض الآخر برنامجه على “سورية الكبرى”. وهذا ما طالب به مندوبو المؤتمر السوري العام 1920، أمام لجنة كراين “استقلال سورية الطبيعية التام”، مع التأكيد على سلامة فلسطين، وعدّها جزءًا من سورية الطبيعية، مع الدعوة إلى تقوية العلاقات القومية والثقافية مع باقي الشعوب العربية، والانضمام إلى الوحدة العربية عند قيامها، وقد ضمّن هذا المطلب في مواد الدستور “القانون الأساسي للمملكة السورية”، وأيّده حزب الاتحاد السوري، والحزب الوطني السوري، إذ لم يكن ممكنًا النظر إلى سورية الوليدة في تلك المرحلة كدولة منتهية، بل باعتبارها جزءًا من أمةٍ، أو من وطنٍ أكبر. ما جعل الإشكالية الجغرافية حاضرة، بصفتها مسألة جوهرية، في معظم التعاريف السياسية التي قُدّمت حول الأمة.

وبقيت سورية، بالنسبة إلى زعماء الحركة الوطنية، جزءًا من سورية الطبيعية، خصوصًا في سنوات العشرينيات، كذا فعل “حزب الشعب” (الذي أسسه عبد الرحمن الشهبندر)، وقادة الثورة السورية الذين لم يعترفوا بحدود الكيان الجديد، فجاء في نداء سلطان الأطرش (زعيم الثورة) عام 1925 مطلب “وحدة البلد السورية ساحلها وداخلها، والاعتراف بدولة سورية عربية واحدة”. وتضمن مشروع الدستور الذي وضعته الجمعية التأسيسية السورية في عام 1928 عددًا من المواد التي أعلن فيها أن سورية، بما فيها لبنان وفلسطين وشرق الأردن، وحدة واحدة لا تتجزأ، الأمر الذي دفع سلطة الانتداب إلى المماطلة في إصداره إلا بعد شطب المواد المتعلقة بوحدة البلاد السورية[1].

وقد لخّص فان فروزن المسألة بقوله: “إن الاقتطاعات العديدة من سورية، منذ بداية هذا القرن، قد وقفت حائلًا دون نمو أي ولاء متلاحم أو محدد للدولة السورية كوطن٠ وما زالت تأثيرات هذه التغييرات الحدودية على التكامل الوطني واضحةً حتى الآن؛ فمن ناحية، نجد أن هذه الحدود تراعى من الناحية الفنية فقط، وأن الهوية العربية أقوى بكثير من الهوية السورية، وفي الوقت عينه، نمت فكرة الكيانات ما دون الوطنية. فقد تشظى الولاء نحو كيانات أكبر من الوطن السوري الراهن، ونحو كيانات أصغر: إقليمية ودينية أو طائفية أو اثنية، في مقابل عدم نمو ولاء وسط”: ولاء وطني[2]. ويعلق فان دام، على ما تقدم: “عندما نالت سورية استقلالها عام 1946، كانت دولة في كثير من النواحي، دون أن تكون أمة، كانت كيانًا سياسيًا دون أن تكون مجتمعًا سياسيًا[3].

وبعد الاستقلال، تحوّلت سورية إلى ساحة لصراع إقليمي ودولي، وهذا ما جعل الحفاظ على استقلالها أولوية وطنية. ثم ما لبثت البلاد أن انقسمت سياسيًا إلى تيارات، أدت إلى تصورات متباينة وغير ناضجة بل قلقة، عن الهوية السياسية للكيان الجديد؛ فمنها من تمسك بوحدة سورية الحالية، وتبنى الليبرالية السياسية والاقتصادية لإدارة البلاد، ومنها من تبنى الأيديولوجيا القومية ونادى بالوحدة العربية وتجاهل الجغرافيا السورية وطنًا نهائيًا للسوريين، فيما حلم الإسلاميون بدولة تمتد لتشمل كل الشعوب الإسلامية، بينما تبنّى “حزب الشعب” تحقيق فكرة “الهلال الخصيب”، ومال “الحزب الوطني” إلى التقارب مع السعودية ومصر، منعًا لقيام وحدة عربية تتسبب في حدوث اختلال في التوازن الإقليمي، وما زال بعض السياسيين يؤمن بفكرة “المملكة الهاشمية الكبرى”. وإلى جانب تلك الهويات، كانت الهويات الصغرى ما دون الوطنية تغطي المشهد الاجتماعي على مستوى الطوائف والإثنيات والمجموعات الأخرى.

وهكذا، أدت التصورات المتباينة عن حدود سورية، وعن خارطتها الجغرافية، إلى ولادة هويات متعددة تتباين الواقعية منها عن الممكنة، والأخيرة عن المتخيلة التي يمكن أن تلبي طموحات التيارات المختلفة، ولكل هوية حواملها الاجتماعية-السياسية.

في عام 1963، وصل “حزب البعث” إلى السلطة، وتمكن من تأجيل الصراع بين القوى المختلفة لمصلحة الفكر القومي العربي، وتحولت سورية إلى “قطر عربي، هو جزء من وطن عربي”، موعود بنجاح قيام الوحدة العربية.

ومع بداية ثورة آذار 2011، ارتفع شعار “الشعب السوري واحد”، وسرعان ما امتد على كامل مساحة سورية، وكأن ملامح هوية وطنية سورية تعددية بدأت تتبلور ديمقراطيًا، من خلال مناهضة الاستبداد، بحسب تعبير عزمي بشارة[4]، أو لنقل بدأت ولادة إرادة استنهاض روح الوطنية السورية، فهي المرة الأولى بعد الاستقلال التي وجدت الوطنية صداها لدى غالبية السوريين.

بعد مرور عشر سنوات، على انطلاق الثورة السورية، وما لحق بها من كوارث، وصلت الحال إلى تحكم قوى الأمر الواقع المسلحة، ذات الولاءات السياسية والأيديولوجية المختلفة والأجندات غير الوطنية، حيث تقاسمت الجغرافيا السورية، بمعونة ودعم قوى إقليمية ودولية، وهذا ما يجعل مستقبل سورية غامضًا ومفتوحًا على احتمالات عديدة، قد يكون أسوأها تكريس سورية دولة فاشلة بنظام متهالك وتابع! وقد يكون هناك اتفاق إقليمي-دولي يُشرعن تقسيمها الراهن إلى دويلات، على أسسٍ تلبّي هواجس بعض الاثنيات والطوائف! وقد يجري اتفاق على طائفٍ جديد، يأتي بتوافق طائفي-اثني يُنهي الحرب، ولو مؤقتًا، ويؤدي إلى حلّ ما لبعض المسائل العالقة بين الأطراف السورية المتصارعة! وقد يجري اتفاق دولي-إقليمي على استبدال رأس النظام الحالي برأس عسكري آخر، يعيد إحياء الاستبداد، ويتمكن من ضبط الوضع المنفلت أمنيًا، بهدف حماية بلدان وأنظمة دول الإقليم!

ويبقى خِيار القوى الوطنية الديمقراطية قائمًا، بشروط من أهمّها أن يتمكّنوا من الاتفاق على صياغة رؤية وطنية تستمدّ نسغها من المصلحة العليا للسوريين، وأن يوحّدوا صفوفهم على برنامج عمل وطني، يستقطب كل السوريين، بغض النظر عن انتماءاتهم الاثنية والدينية والسياسية، وأن يُحسنوا العمل السياسي، ويعيدوا طرح القضية استنادًا إلى قرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالمسألة السورية، ويؤسسوا لمرحلة جديدة، تبدأ فيها عملية إعادة بناء نظام سياسي جديد يقطع مع النظام السابق، ويؤدي إلى قيام الدولة الوطنية السورية ذات الطابع الديمقراطي التعددي، والبدء في وضع أساسات بناء الثقة بين المكونات الثقافية المتنوعة، استنادًا إلى عقد اجتماعي جديد، يسمح بوضع حدٍ لحالة التوتر بين تلك المكونات، وهي حالة بلغت أوجها هذه الأيام، وذلك من خلال تبني الدولة الوطنية لمبادئ المواطنة المتساوية المُحصَّنة بدستورٍ يفتح آفاقًا جديدة لوطن حرّ وعادل.

 [1] – زغير، خلود. 2020. سورية الدولة والهوية، قراءة حول مفاهيم الأمة والقومية والدولة الوطنية في الوعي السياسي السوري (1946-1963). المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ط1 بيروت.

[2] – Michael H. Van Dozen, 1972. ‘Political Integration and Regionalism in Syria’, The Middle East Journal, Vol. 26, No. 2, pp. 123, 125-6).

 [3] – فان دام، نيكولاس. 1995، الصراع على السلطة في سورية- الطائفية والإقليمية والعشائرية في السياسة (1961-1995)، مكتبة مدبولي، القاهرة ص 22

 [4] – بشارة، عزمي 2013، سورية درب الآلام نحو الحرية-محاولة في التاريخ الراهن، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

* باحث وأستاذ جامعي سوري

المصدر: حرمون

التعليقات مغلقة.