الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

ذكورية العرب وكراهية الآخر حين ترتبان الاستبداد

عمرو حمزاوي *

ليست وقائع الاستبداد هي المسؤولة بمفردها عن تشويه إنسانيتنا في بلاد العرب. وليست كارثة إخفاقنا الجماعي في الانتصار لحقوق الإنسان والحريات وفي بناء المجتمعات الحديثة المستندة إلى المساواة والتسامح وفي التمكين لدول وطنية لا تختزل في حكم الفرد أو في حروب الطوائف وصراعات العصبيات وتلتزم مؤسساتها قيم العدل وسيادة القانون وتداول السلطة عبر الاختيار الشعبي الحر هي وحدها التي تلقي بنا إلى هاوية الجهل والتطرف والعنف والإرهاب. وليست ثلاثية اغتيال العقل والاحتفاء بالعبث وإماتة حريات الإبداع والفكر والرأي التي يمررها المستبدون وخدمتهم من مكارثيي تبرير المظالم والانتهاكات هي وحدها التي تباعد بيننا وبين مسارات التقدم والتنمية المستدامة.

لا، ليست الحقائق الكبرى للمجتمعات والدول الوطنية والحياة السياسية والمجال العام هي المتسببة بمفردها في مأساة العرب المعاصرين.

ألسنا كأفراد متورطين في تشويه إنسانيتنا حين نستسيغ في مجالنا الخاص التمييز ضد الآخر الديني والعرقي والاقتصادي-الاجتماعي، ونروج لروايات صريحة الطبيعة العنصرية تنزع عن الآخر كل قيمة أخلاقية وإنسانية ووطنية؟

ألا تتشوه إنسانيتنا في سياقاتنا الأسرية بسبب استمرار التمييز ضد النساء وتعريضهن لجرائم العنف الجسدي والنفسي ثم بتبريرنا لها باستدعاء أنساق تقاليد بالية وادعاء زائف بالاستناد إلى التعاليم الدينية؟

ألسنا باستساغتنا التمييز ضد الآخر وباضطهاد النساء بمسؤولين عن مظالم وانتهاكات صارخة للحقوق وللحريات سرعان ما تتسع دوائرها وتتنوع أنماطها وتتعدد هويات مرتكبيها في المجال العام؟

ألا تستغل منظومات الحكم المستبدة والسلطوية، وإن جزئيا، اعتياد الناس على التمييز والاضطهاد في المجال الخاص لكي تمرر قمعها واسع النطاق وقيودها وملاحقاتها وصنوف عقابها التي لا نهاية لها؟

أليست المسافة الفاصلة بين تجريدنا الآخر من كل قيمة أخلاقية وإنسانية ووطنية وبين توظيف المستبدين والحكام السلطويين لذات الأداة بهدف تخوين وتشويه معارضيهم واستباحة حقوقهم وحرياتهم وكرامتهم الإنسانية، هذا إن لم يكن المستباح هو دماءهم وأجسادهم؟

في كافة هذه الأطر، يحول التفكير العقلاني تماما كما يحول إعمال المتبقي لنا من ضمير أخلاقي دون إنكار تورطنا الفاضح في جرائم البدايات التي تسيطر على مجالنا الخاص وتسلمنا إلى المجال العام مشوهي الإنسانية.

في مجالنا الخاص تتقولب وقائع الاستبداد في سلطة ذكورية تستند إلى الفكرة الحمائية التي تعهد إلى رب الأسرة بمهمة حماية أعضائها وتخضعهم في المقابل إلى إرادته الانفرادية وتلغي إرادتهم الحرة وتعرضهم للرقابة والمساءلة والمحاسبة وتمنعهم دون مساءلة أو محاسبة حاميهم. وتتشابه وقائع الاستبداد الذكوري في المجال الخاص مع وقائع استبداد الحاكم الفرد ومنظومات الحكم السلطوية في المجال العام، بل أن الإحالة إلى الفكرة الحمائية تستنسخ من دور رب الأسرة ويدفع بها باتجاه سلطة العاهل / القائد / الزعيم / البطل المنقذ / المخلص المنوط به حماية «المصلحة الوطنية» و«الصالح العام» لإضفاء شرعية زائفة على صلاحياته المطلقة وعلى إلغاءه لإرادة الأفراد الحرة وعلى استثنائه من قواعد الرقابة والمساءلة والمحاسبة.

يعني قبول الاستبداد الذكوري في الحياة الأسرية والاستسلام لمظالمه وانتهاكاته أو الصمت عليها مسؤوليتنا المباشرة عن استنساخ نموذج استبدادي مشابه في المجال العام وفي إطار المجتمع والدولة الوطنية. ويستحيل من ثم إلى استمرارية فاسدة صمت بعضنا على المظالم والانتهاكات واسعة النطاق التي يرتكبها المستبدون وعلى كوراث القمع والعصف بسيادة القانون وإهدار قيم الرقابة والمساءلة والمحاسبة التي تتورط بها مؤسسات الدولة التي يخضعها المستبدون لسلطانهم ويعرضون تماسكها ومصداقيتها بين الناس لأزمة وجودية حادة.

أما اغتيال العقل وطرائق التفكير العلمية والموضوعية وحريات الإبداع والفكر والرأي المستندة إليه، فيحدث في المجال الخاص كما في تفاعلاتنا كأفراد مع وسائط مجتمعية كالنظم التعليمية والهيئات الدينية ومؤسسات العمل والنشاط المهني تهيئة كارثية للمجال العام وعموم الأطر المجتمعية ومؤسسات الدولة الوطنية للتورط في الجنون. ننتقل من الاستبداد الذكوري في الحياة الأسرية فنلتحق بوسائط مجتمعية تخاطبنا دون شرح بقوائم الصواب الخالص والخطأ الكامل وبثنائيات الحلال والحرام وبقواعد المسموح والممنوع، وتفرض علينا الحقائق المطلقة والرأي الواحد دون نقاش، وتمارس الاستعلاء برفض النقاش ورفض الحوار العلمي والموضوعي وبإنتاج وترويج الاتهامات بالجهل والفساد (النظم التعليمية) والكفر (الهيئات الدينية) والتورط في التخريب (مؤسسات العمل في القطاعين العام والخاص) باتجاه الأفراد المتمسكين بحقهم في احترام العقل وبحقهم في الحرية.

وعندها تصبح جد قصيرة تلك المسافة الفاصلة بين حقائق اغتيال العقل في السياقات المباشرة لحياتنا وبين اغتيال للعقل واحتفاء بالعبث تمارسه منظومات حكم مستبدة وسلطوية تميت السياسة وتحاصر المجتمع المدني وتهجر المواطن من المجال العام إن امتنع هو أيضا عن الاحتفاء بالعبث.

وعندها يصطنع الاستبداد آخره، يصطنعه من كل صوت يطالب بالحق والحرية، من كل مواطن يرفض الخضوع لإرادة من يحكمون ويملكون ولا يحاسبون، من كل فرد يقاوم الإدماج في حشود هويتها الوحيدة هي الاصطفاف وراء المستبد وطاعته. يصطنع الاستبداد آخره، يصطنعه وفقا لتصنيفات دينية ومذهبية وعرقية وفكرية واهية ثم يعمل فيه التهديد والتعقب وانتهاك الحقوق وسلب الحريات والتعذيب والقتل والتهجير والإبادة الجماعية. يصطنع الاستبداد آخره، وحين تبتعد التصنيفات الواهية والجرائم الكارثية عنا ننزع إلى الصمت طمعا في الخبز والأمن أو خوفا من التعقب والقمع ونترك الضحايا تارة لمآلاتهم وتارة لتضامن يأتي من وراء الحدود.

* كاتب مصري

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.