الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

«أيام مع الإمام الخميني» لأسعد حيدر.. رؤية فاحصة للثورة الإسلامية

خالد بريش *

شكلت الثورة الإيرانية تسونامي، طالت ارتداداته العنيفة مجتمعاتنا العربية بنسبة وتناسب، وسرقت الأضواء وتصدرت أحداثها وأخبارها الصفحات الأولى للصحف، وأغلفة المجلات العربية والدولية. وكان من بين أوائل المهتمين بها في الصحافة العربية، الإعلامي اللبناني المخضرم أسعد حيدر، الذي كان له السبق قبل غيره من الإعلاميين العرب في إجراء حوار مع الإمام الخميني في منفاه الباريسي (نوفْل لوشاتو) وتقديمه للعالم، فلفت إليه الأنظار، كما لم يفعل أي صحافي آخر.

بعد مضي أكثر من أربعين عاما على الثورة الإيرانية، يعود حيدر إلى صندوق ذكرياته، منسقا لمجموعة من المقالات التي نشرها في حينه. فيخرجها في كتاب صدر مؤخرا عن دار الفارابي في بيروت، بعنوان «أيام مع الإمام الخميني وبدايات الثورة» والكتاب كما يصفه صاحبه في مقدمته.. «كتابي هذا ليس بحثا معمقا عن الثورة… إنما هو انتقاء اختياري لذكريات ومقابلات مع شخصيات رسمت معالم كثيرة لإيران».

عبر مقالات يقدمها حيدر، تأتي رسائله التي على القارئ التقاطها، ليفهم ذلك العالم المعقد لثورة ورجالها. مُعلنا أنه أعجب بهذه الثورة، لكنه لم ينتم إليها، أو كان أحد أفرادها، وأنه بقي يعض بالنواجذ على عروبته، ممررا في مقدمته بعض النقد الهادئ، حول تدخل إيران في سوريا، والبلاد العربية الأخرى، الذي عمق الخلاف السني الشيعي، وكذلك للحرس الثوري الذي أنشئ لحماية الثورة، فأصبح يمسك بمفاصل الدولة أمنيا واقتصاديا، وبقرار الحرب والسلام.

وهو بذلك يعيد ترتيب فسيفساء الأحداث، ووضع كثير من الأوراق في مكانها، ويوضح علاقة الثورة الإيرانية بالشارع العربي، ويحمل القارئ إلى البدايات، وكواليس ما جرى حول الخميني، وكيف سعى أسعد حينها للقاء صادق قطب زاده، وإبراهيم يزدي، فقال له الشيخ محمد منتظري: «ليسوا مهمين سوى هنا. المهم بينهم هو ذلك المدني الواقف دائما في المنزل الثاني» ويقصد أبو الحسن بني صدر، الذي له عبارة رددها في لقاءاته الصحافية. يقول ما معناه: عندما استقللنا الطائرة، ورأيت كيف التفَّ رجال الدين حول الخميني. وكيفية تعاملهم معنا، أدركت أن الثورة قد خُطِفَت، وأن دورنا قد انتهى.

منهجية العرض:

تأتي المقالات المختارة لتتمم بعضها وتعطي القارئ فكرة واضحة عن التوازنات داخل منظومة الحكم الإيرانية، والتيارات الفكرية والسياسية من الأقصى إلى الأقصى يمينا أو يسارا. وكذلك للمعتدلين البراغماتيين، وحتى المنفيين منهم. أسلوب قائم على ربط للأحداث ببعضها، ذو طابع أدبي يرتقي بلغة السياسة الفجة، تاركا مجالا للقارئ للحكم، والذهاب بعيدا في استنتاجاته وتوقعاته.

كذلك سعى أسعد حيدر في كتابه إلى كسر الكثير من التابوهات، وتطرق إلى المواضيع الأكثر حساسية في الثورة الإيرانية، عندما ناقش في لقاء مع الصحافي الإصلاحي المعروف عزت الله سحابي، قضية «ولاية الفقيه» التي قام على أساسها حكم الخميني، والتي قال عنها سحابي: «لا أعتقد أن مسألة ولاية الفقيه ستلغى بسرعة من الواقع، لكن ربما يصحح معناها ومفهومها… في داخل المجتمع نرى باستمرار اعتراضات واسعة على هذا المفهوم لولاية الفقيه، ولهذا نرى أنه في المراحل المقبلة، فإن التفسير الآخر الذي يقلل من سلطة الولي الفقيه سيكون هو الراجح».

الشخصيات وأدوارها:

شكلت الشخصيات التي أجرى معها حيدر لقاءاته، ترابطا موضوعيا قويا، في حبكة تحكي قصة ثورة، أصبحت اليوم في حاجة للثورة، وتُشْعر القارئ بأن كل الشخصيات الوارد ذكرها مهمة دورا ورأيا، فلا توجد شخصيات ظل، أو ثانوية. ففي الثورات الكل يلعب في الوقت نفسه والاتجاه نفسه من أجل الثورة. مع العلم أن معظم الذين أجرى معهم أسعد حيدر مقابلاته كانوا يظهرون على صفحات الصحف للمرة الأولى في سبق صحافي خاص.

بداية بـ «ضمير الثورة» آية الله منتظري كما يصفه. ويقول هو عن نفسه «أنا الأم الحقيقية لهذه الثورة والباقون هم الأم المرضعة» ومع ذلك أقصي عن خلافة الخميني لسببين مهمين ذكرهما أسعد حيدر في كتابه. أولهما؛ تفضيله البقاء في قم، وعدم ذهابه إلى طهران لمواجهة استحقاقات الخلافة.

وثانيهما؛ كشفه لما سمي فضيحة ماكفرلين وصفقة الأسلحة عبر إسرائيل. مرورا بآية الله بهشتي، الذي كان يخيف الجميع بلا استثناء. وعلي أكبر محتشمي، أحد أهم مراكز القوة في الثورة الإيرانية حينها. وأكثر من لقاء مع أبي الحسن بني صدر أول رئيس للجمهورية، الذي كان يود الذهاب بإيران إلى مكان آخر غير الذي هي فيه اليوم، لكنه أبعد لأسباب كثيرة، أهمها يتلخص في اعتباره الخميني لا يعرف إلا في إطار ما كتبه في الشؤون الدينية. وأن مقدرته العلمية والمعرفية محدودة… ولأن بني صدر كما يقول معارضوه، أراد أن يكون ديغول إيران. والدستور لا يسمح له أن يكون أكثر من الملكة إليزابيث. ومع ذلك بقي ذلك المفكر الأكاديمي في منفاه، حالما بأن يستدعيه الخميني ليقول له: «تعال نُعِدْ قطار الثورة إلى سكته الأصلية».

ولقاء آخر مع شاهبور بختيار، الذي أعلن بصراحة وجرأة: «ليذهب رجال الدين إلى مساجدهم». شارحا جهل الأمريكيين في السياسة التي اختطوها في إيران، مضيفا «الأمريكيون كانوا يقولون، إذا ذهب الشاه وحل الفراغ في إيران، فإن الخطر سيكون حقيقيا. أما حيث توجد كلمة «الله أكبر» فإنه لن يكون هناك دور للشيوعيين، لذلك عمدوا إلى تكبير حجم الخميني عبر وسائل الإعلام كلها».

إيران والعرب والثورة الفلسطينية:

كان للثورة الفلسطينية دورا هاما في الثورة الإيرانية، والتي كان السيد هاني فحص في البداية مهندسها، فقدمت الثورة الفلسطينية للإيرانية التدريب لعدد كبير من كوادر الثورة الإيرانية، من بينهم؛ جلال الدين فارسي، ورفيق دوست، ومحمد صالح الحسيني. أما السبب الرئيس في فشل تلك العلاقة، يرجع لكون الخميني ومن حوله، أرادوا وضع حركة «فتح» في إطار الالتزام العقائدي للثورة الإسلامية، في الوقت الذي كان فيه أبو عمار يقاتل على كل الجبهات، من أجل قرار فلسطيني مستقل، كاشفا بعض أسباب إقصاء الخط القريب من العرب، وإقامة علاقات عربية إيرانية استراتيجية صلبة، بعدما أقصي علي أكبر محتشمي، وحسين مصطفى الخميني، ومقتل الشيخ محمد بن آية الله حسين منتظري في انفجار مجلس الشورى، وكذلك اغتيال محمد صالح الحسيني، في حادث غامض في بيروت، بالإضافة إلى اندلاع الحرب العراقية الإيرانية، التي أحدثت زلزالا وشرخا نفسيا لدى المؤيدين لعلاقات عربية ــ إيرانية.

صورة عميقة:

لا ينسى أسعد حيدر دوره ومهمته كصحافي يعطي القارئ مفاتيح المواضيع، فيمرر له آراءه بكل ما يجري بين السطور، فاتحا أعينه على الفواصل المهمة.. ففي زيارته الأولى لطـــــهران بعد الثورة مباشرة سأل عامل الاســــتعلامات في الفـــندق عن سفارة فلسطين لكي يبدأ منها عمله، فقال له العامل «إنها قريبة.. وبعيـــــدة عنا»! متناولا مستقبل النظام، ودور ولاية الفقيه بعد خامنــــئي، ناقلا ذلك عن ثعلب السياسة الإيرانية علي أكبر هاشمي رفسنجاني قبل وفاته، الذي طرح تشكيل هيئة من ثلاث شخصيات سياسية، أو علمية معروفة. وليبقى الكتاب حاويا للكثير من الأحداث المهمة، التي يتم اكتشافها في كل مرة قلبت الأيدي صفحاته.

٭ كاتب وباحث لبناني

المصدر: القدس العربي

التعليقات مغلقة.