علي أنوزلا *
سيدخل عام 2020 سجلات التاريخ، بوصفه العام الذي شهد أكبر جائحة في القرن الواحد والعشرين انتشرت على نطاق دولي واسع، وتعدّى عدد ضحاياها الملايين، منتشرين في كل الدول بدون تمييز بين الغنية والفقيرة منها. ومع اقتراب نهاية هذا العام، بدأت تلوح تباشير مطمئنة حملتها الإعلانات المتتالية عن اختراع لقاحاتٍ في الشرق والغرب، من شأنها أن تحدّ من انتشار الوباء في أفق القضاء عليه مستقبلا. ومع اقتراب نهاية عام الجائحة، من دون أن يعني ذلك نهاية الجائحة نفسها، لا بد من التوقف عند دروس مستخلصة منها، فقد علّمت جوائح كثيرة عاشتها الإنسانية في الماضي بني البشر دروسا كثيرة. وعلى الرغم من مآسيها، فإنها ساهمت في تطور العلم وتقدم البشرية، فربّ ضارة نافعة، وكم من نقمةٍ في طيها أكثر من نعمة.
لقد شكلت جائحة كوفيد 19 أكبر اختبار للبشرية في عدة مجالات، بدءا من أنظمة الصحة العالمية، والأوضاع الاجتماعية، وحالات الاقتصاد، والتعاون الدولي، والبحث العلمي. وأكثر من ذلك، وضعت منظومة قيم الأخلاق على المحك، ودفعتنا إلى إعادة الاعتبار لمفاهيم مثل الحرية والحق في الحياة، فالجائحات، بطبيعتها، لا يمكن التنبؤ بها، وأكثر من ذلك يصعب تخمين وقت وقوعها أو مكانه. إنها أشبه بتسونامي غير مرئي، يباغت البشرية ليذكّرها بقوة الطبيعة، ويلفت نظرها إلى الضعف البشري، كلما اعتقد الإنسان أنه تقدّم وتطور، وتبدَّى له أنه أصبح قاب قوسين أو أدنى من الإمساك بقوة الطبيعة والتحكّم فيها وتسخيرها لخدمته. لذلك كان من الطبيعي أن يكون أول ردود الفعل التي واجهت به البشرية بدايات انتشار الجائحة مطلع العام الحالي هو الذهول، والخوف من عواقب هذا الفيروس وانتشاره، لأننا اعتقدنا أن عهد الجوائح ولّى إلى غير رجعة، وأن الكوارث لا تحل إلا بالآخرين هناك في بلدانهم وقارّاتهم البعيدة عنا. وساهم الانتشار المحموم لأخبار انتشار الفيروس ومخاطره وعدد إصاباته، مع ما رافق ذلك من إشاعات وتهويل وتخويف، في بثّ الرعب والخوف من اقتراب البشرية من وضع حد لنهاية وجودها على الأرض. وأدّى الإغلاق العام الذي شهدته أغلب الدول إلى تضخيم هذا الشعور بقرب النهاية العظمية. وعمليا عطّل كبريات الاقتصاديات العالمية وسرّح ملايين العمال والموظفين، وقطع أرزاق أضعاف هذه الأعداد من الكادحين الساعين إلى الرزق يوميا.
وفي المقابل، أظهر هذا الوباء ما هو جميل في الإنسان، قدرته على الصبر والتحمّل، وشجاعته لحظة المواجهة وحاجته إلى التعاون والمؤازرة والاجتماع، وإيجاد لحظات الفرحة، وبعث الأمل في النفوس الجريحة والخائفة. لقد جعلتنا الجائحة نعيد اكتشاف هشاشتنا وضعفنا البشري، وأعادتنا بتواضع إلى حالتنا بشرا، بعدما اعتقدنا اعتقادا رمزيا مخادعا بأن الإنسان لا يُقهر، وهو الذي عرف كيف يتعايش، في الماضي، مع أوبئة مثل الطاعون أو الكوليرا أو الأنفلونزا الإسبانية، وينتصر عليها على الرغم من كل الخسائر البشرية التي كانت تكبده إياها. لكن ما ننساه أو ما لا نريد الالتفات إليه أن هذه الأوبئة التي ندّعي الانتصار عليها ما زالت موجودة بيننا، تفتك بآلاف من بني جلدتنا كل عام، من دون أن تثير الرعب والخوف فينا، كما فعله وما زال يفعله وباء كورونا.
جاء هذا الفيروس المجهري، ليذكّرنا بأننا نسافر على القارب نفسه، ونعيش على الكوكب نفسه الذي أفرط الإنسان في استغلاله، وجعلنا نعيد النظر كيف يمكن أن نكون ممتنين لصحتنا وحريتنا باعتبارهما أهم رأسمال فردي نتساوى في امتلاكه عند الولادة، ونختلف في تقديره واستثماره وتنميته والحفاظ عليه. إعادة الاعتبار إلى تقدير هذا الرأسمال كفيلة بأن تجعلنا نُظهر التضامن مع كل أولئك الذين يعيشون في ظروف صحية صعبة، أو في ظروف اجتماعية محفوفة بالمخاطر، أو في فقدان تام أو جزئي لحريتهم التي ولدت معهم.
كشفت الجائحة عن حوادث كثيرة مؤسفة، وعرّت بوضوح هشاشة منظومتنا الأخلاقية. وإذا كان من درس يُستفاد منها فهو أن نفكر في بناء نموذج آخر لمجتمعٍ تسوده علاقات اجتماعية أكثر مساواةً وعدلا وتناغمًا. وأن نكون قادرين على الشعور وفهم ما يعنيه التمتع بصحة جيدة، وإدراك السعادة التي توفرها لنا حرية التنقل والحركة بدون قيد أو شرط. تاريخ البشرية هو تاريخ الأوبئة والكوارث والحروب والجوائح، لأنها هي التي لعبت أدوارا فارقة في تغيير مسارات البشرية، وفي كتابة تاريخها في الماضي الغابر والحاضر. وفي كل هذه الحالات، تجد الإنسانية نفسها أمام حالاتٍ مثيرةٍ للشفقة، سواء في الحروب عندما يتقاتل الإنسان مع أخيه الإنسان، وتصبح التعبئة للموت واجبا مقدسا! أو في زمن الأوبئة، عندما يكون الآخر هو الجحيم التي يجب تجنبها والفرار من لقائها، خوفا من العدوى القاتلة، ويصبح الحجْر سجنا طوعيا يلوذ به الإنسان راضيا، أو يسمح للسلطة بأن تفرضه عليه مسلّما بشرعية قمعها له.
ويبقى أهم درسٍ يمكن الخروج به من هذه الجائحة التي ما زالت تلقي بظلالها على العالم أن تاريخ الكوارث والجوائح لم يكتب فقط لنتذكّره أو نؤرخ بها الأحقبة والأزمان، وإنما هو سيرورة مستمرة، تعيد تشكيل كتابة تاريخ الوجود البشري على الأرض إلى أن يحين موعد فنائها غير المعلوم.
* صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع “لكم. كوم” حالياً
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.