ماهر مسعود *
لكي يخرج بكتابه الفلسفي “المراقبة والمعاقبة”، ذهب ميشيل فوكو إلى السجون، ليدرس في أرشيفها وتاريخها وواقعها وشكلها ومضمونها، ويركّب أفكاره الفلسفية حول السياسة والسلطة والمعرفة. وقد بدت تلك العملية برمتّها غريبة عن تاريخ الفلسفة: أن تمتصّ رحيق الفلسفة من أشواك السجن الحديدية، لتنتج من معدن الكلمات أعمق فهم إنساني معاصر لميكانيزمات السلطة وآليات عملها وسبل سيطرتها وتشكّلها وانتشارها.
ولكي نوجز أهمّ النتائج، في بحث فوكو الأركيولوجي حول الموضوع، يمكن القول بأن تغيرًا كبيرًا حصل في أوروبا، منذ منتصف القرن الثامن عشر على الأقل، في شكل السلطة وأساليبها في العقاب والسيطرة والتحكم في المجتمع، حيث بدأ الانتقال التدريجي، من العقاب الجسدي والتعذيب الوحشي والعلني للسجناء، إلى التحكّم في الجسد من خلال الضبط والمراقبة والتطويع العقلي نت دون حاجة إلى التعذيب الفيزيائي المستخدم سابقًا، ويربط فوكو تلك النقلة بإنشاء السجن الحديث الذي يعبّر رمزيًا -في رأيه- عن جينالوجيا الروح المعاصرة.
للتعبير عن السجن الحديث، استعار فوكو مصطلح البانوبتكون (مراقبة الكل) من الفيلسوف ورجل القانون الإنكليزي جيرمي بنثام، و”البانوبتكون” هو تصوّر لسجنٍ تمكن مراقبة جميع زنازينه، من برج منصوب في مركزه، من دون أن يعرف المساجين أهم مراقبون أم لا، أو متى تتم مراقبتهم، وهو ما يجعلهم يتصرفون ضمن اعتبار أنهم تحت المراقبة طوال الوقت وعلى مدار الساعة، وضبط تصرفاتهم وحياتهم وأشغالهم، باعتبارهم مراقبين من سلطة أعلى تحكمهم وتراهم وتسيطر على سلوكهم وحركاتهم سيطرة تامة، لكن المساجين بعد وقت قصير يبدؤون بالتأقلم وضبط أنفسهم بأنفسهم، بناء على تلك الرقابة، وبذلك يصبحون فاعلين هم أنفسهم في السلطة التي تراقبهم، ويكونون جزءًا من السلطة التي تحكمهم. ويقسّم فوكو تلك العملية إلى ثلاث مراحل: المراقبة Surveillance، ثم الامتحان أو الاختبار Examination، ثم التطبيع Normalization (وأترجمها أيضًا التطويع)، وهي عمليات ترسم حدود السلطة الحديثة، وتجعل السجنَ الحديث النموذجَ الذي يستمد منه المجتمع طبيعته، وتستمد منه السلطة معاييرها. وبالمجمل، نجد أن التغيرات الكبرى التي حصلت نقلت العقد الاجتماعي بين السلطة والمجتمع، من شكله “الهوبزي” القديم، حيث تقدّم السلطة الحماية للمجتمع (مع ضمان حقها بالتعذيب الوحشي للمخالفين)، مقابل تخلّي المجتمع عن الحرية، إلى بناء عقد اجتماعي جديد أكثر تطورًا، يقوم على حرية أوسع للمجتمع، مع تغيير آليات السلطة من التعذيب العلني إلى المراقبة والضبط والاختبار والتطبيع. يصف فوكو هذه النقلة في طبيعة السلطة والعقد الاجتماعي بأنها انتقال من السلطة القمعية Repressive power القديمة، إلى السلطة التطبيعية Normalizing power الجديدة.
قد يفيدنا النهج الفوكوي في فهم وتحليل آليات السلطة في بلادنا، ولكنه يضللنا أيضًا، عندما لا نأخذ بعين الاعتبار أن السلطة لدينا تمتاز بجمعها لنمطي المراقبة والمعاقبة، القديمة والحديثة معًا، وهو امتياز لا يمكن تحصيله في الدول الديمقراطية بسهولة، لأن العقد الاجتماعي تطور بالتوازي مع السلطة السياسية، من الحالة القمعية إلى الحالة التطبيعية، ومن التعذيب الوحشي إلى السيطرة العقلية الناعمة. وبالانتقال إلى الحالة السورية، فإن ما يمكن ملاحظته بهذا الخصوص نجمله بالنقاط التالية:
أولًا، مقابل تطور وتغير المجتمع والسلطة معًا في أوروبا، وانتقالهما معًا نحو عقد اجتماعي جديد، تغيرت فيه آليات القمع السلطوية، مع تغيّر نمط الحريات الاجتماعية؛ نجد أن التغير في الحالة السورية حصل عبر دمج آليات القمع الجديدة مع القديمة، ومن ثم اعتمادهما معًا في تربية المجتمع. فالسلطة تستخدم آليات المراقبة والضبط والاختبار والتطبيع والسيطرة على العقل، لكن بدمجها مع آليات التعذيب الجسدي والفيزيائي القديمة ذاتها، ونجد أن تطور المجتمع وتغيّر حاجاته وأدواته وسبل تفكيره رافقه من جهة آليات قمع السلطة عبر التنصت والمراقبة وتطويع المجتمع، لكن دون التخلّي عن آليات التعذيب الوحشية للسيطرة المطلقة على الجسد، ففي الثمانينيات، مثلًا، تم اختراع و”إبداع” آليات للتعذيب الجسدي، مثل “الدولاب” و”بساط الريح” و”الكرسي الألماني”، وهي جميعها إضافات جديدة على الوسائل القديمة، ولكنها تزامنت أيضًا مع المراقبة المخابراتية الشاملة، وتطبيع الخوف، وتوسيع “البونابتكون”، لتصبح المراقبة الذاتية هي مركز استبطان السلطة في الذات حتى عند غياب السلطة.
ثانيًا، مثلما كان نظام السلطة يقوم على الدمج الفظيع بين آليات المراقبة الحديثة والتعذيب الجسدي والفيزيائي القديم، كان كذلك نظام الاقتصاد السياسي للدولة، حيث تم بناؤه على خليط عجيب بين الرأسمالية والاشتراكية والاقطاعية والقومية والطائفية والعشائرية والمافيوية، وفي الوقت الذي انشغل فيه المثقفون والكتّاب والمفكرون في تحليل العقد الاجتماعي ونظام الاقتصاد السياسي، بناءً على النظريات الماركسية والطبقية العقيمة، كانت السلطة سعيدة بذلك التحليل الاقتصادي الطبقي الذي يخفي طبيعة صراعها العشائري/ الطائفي، وهو ما جعلها تقدّم نفسها كسلطة وطنية محاربة للطبقية، وساعدها في إخفاء عمقها الإقطاعي خلف الواجهة الاشتراكية (ثم رأسمالية المافيات خلف اقتصاد السوق الاجتماعي)، وعمقها الرجعي خلف الخطاب التقدمي، وعمقها الطائفي خلف الواجهة العلمانية.
ثالثًا، في الوقت الذي كانت فيه السلطة تطبّع حضورها الاجتماعي/ السياسي، في ما يسمّى “مؤسسات الدولة”، كان السجن/ المعتقل هو المركز الذي تدور حوله وتُبنى عليه تلك المؤسسات، وهو النموذج الأعلى والأكثر دقة عن طبيعة تلك المؤسسات. بكلام آخر: كانت المدرسة والجامعة والمستشفى هي النماذج المكبّرة عن السجن/ المعتقل، وكانت خاضعة مثله تمامًا لآليات التعذيب والمراقبة والتطبيع والاختبار، ولذلك قد لا يبدو غريبًا -مثلًا- تحوّل المدارس والمستشفيات والجامعات مباشرة بعد الثورة، إلى مراكز اعتقال وتعذيب ببساطة، وذلك بالطبع قبل قصفها وتدميرها دون رادع، عندما خرجت عن سيطرة السلطة، لأن أيًا من تلك المؤسسات لم تكن مؤسسات “دولة”، بل مؤسسات سلطة قمعية ورقابية في آن واحد. وعندما نأخذ مؤسسات أخرى، مثل مؤسسة الجيش، الدوائر الحكومية، الوزارات، النقابات، المرافق الخدمية والسياحية.. إلخ، سنجد أنها جميعها قد بُنيت بوصفها محاكاة لنواة واحدة هي السجن/ المعتقل.
رابعًا، بالمقارنة حتى مع العقد الاجتماعي الهوبزي، أو العقد الاجتماعي الحديث، نجد أن الدولة السورية لم تقدم الحماية مقابل الولاء، ولا الرقابة مقابل الأمان، بل كانت مجرد كائن طفيلي تسلّطي وقمعي، يريد أن يحتكر العنف، والاعتياش على قوت الشعب، وكانت كيانًا يطالب المجتمع بالولاء المطلق؛ تحت تهديد الخيانة والعمالة، من دون تقديم أي حقوق سياسية بالمقابل، اللّهم، إلا حق الحياة، بل إن حق الحياة ذاته سُحب بعد الثورة وصار مشروطًا بالتجانس.
أخيرًا، قد يبدو السجن/ المعتقل في سورية بعيدًا كل البعد عن آليات عمل المجتمع المدني، وخارج حدود التأثير السياسي، متواريًا خلف المشهد “الحضاري” للدبلوماسية السورية وللدولة ومؤسساتها، إلا أن نظرة معمّقة في ذلك المشهد تُظهر أن السجن هو التجربة الافتراضية والواقعية المؤسسة للعقد الاجتماعي في “سوريا الأسد”، وهو البنية التي تُشتق منها جميع البُنى المؤسسية الأخرى، وبالمعنى الكانطي: تبدو علاقات السجن/ السجّان، الاعتقال والمُعتقل، مثل المبادئ القبْلية (السابقة للتجربة) التي تحدد شروط التجربة الاجتماعية السياسية في سورية، وتحكم شرطي الزمان والمكان في الوجود السوري. وعندما نتكلم عن السجن في سورية، لا نقصد السجن بوصفه سجنًا عاديًا، لا بالمعنى القديم ولا الحديث، بل السجن بوصفه معتقلًا، فكلمة السجن لا تبدو مطابقة لمعناها، الأفضل والأكثر مطابقة هو كلمة مُعتقل، ونحن نقصد المُعتقل، لأن شروط الاعتقال في سورية لم تخضع يومًا لمحددات العدالة أو الانصاف، بقدر خضوعها للتعسف وانعدام القانون، حتى في الظروف العادية والسجون المدنية، لأن حالة الطوارئ هي القانون الأساسي في سورية، منذ ما قبل الثورة بنصف قرن، وهي القاعدة التي لا تأتي الاستثناءات القليلة إلا لتأكيدها، ونحن لا نتكلم هنا عن الاعتقال السياسي فحسب، فحتى مخالفة السير في سورية لا تخضع لقانون موحد، ولا ينال أصحابها العقوبة ذاتها، ولا يوجد سجين واحد، مهما كان جرمه، يؤمن بأن عقوبته عادلة أو هي حق اجتماعي لا بدّ من دفعه أمام قضاء نزيه وشرعي، حيث تبقى الرشوة والمحسوبية والواسطة والمنبت الاجتماعي، الطبقي، الطائفي، هي المحددات الأساسية لشكل العقوبات ومضمونها، ويبقى عنصرُ أمن واحد قادرًا على تجاوز كل النظام القضائي، وتبقى مهمته في تثبيت العقد الاجتماعي، أو (عقد الاعتقال الاجتماعي)، أعلى وأكثر أهمية من مهمة القاضي أو المحامي أو غيرهم، وبالفعل ليس علينا سوى أن نعرف أن لعنصر الأمن حصانة قضائية لا يحوزها النائب في البرلمان، لكي ندرك طبيعة ذلك العقد الاجتماعي، ومدى التأثير المخفي لعلاقات الاعتقال والسجن في صياغة العقد الاجتماعي السوري.
من هنا، تبدو الأهمية القصوى لملفّ المعتقلين السوريين، حيث يطغى عادة على النقاش العام للنخبة الثقافية والسياسية السورية مسائلُ مثل الهوية الوطنية، والدستور، وحدود البلاد، ومركزية أو فدرالية النظام السياسي… إلخ، بينما يبدو ملفّ المعتقلين على الهامش وفي ذيل القائمة. في الواقع، أعتقد أنه لا يمكن تغيير حجر واحد في البنية الشطرنجية المتماسكة للعقد الاجتماعي/ السياسي السوري، قبل البدء بتغيير العنصر المؤسس لهذا العقد، والقـاعـدة التي يُبنى عليهـا هذا العقد، وهي السجن.
* كاتب سوري
المصدر: حرمون
التعليقات مغلقة.