علي أنوزلا *
آخر ما كان يتوقعه الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، أن ينهي ولايته مطرودا وممنوعا، ففي الثامن من يناير/ كانون الثاني، قررت إدارتا تويتر وفيسبوك حجب حساباته، ومنعه من التدوين، بدعوى تأجيجه العنف والتحريض عليه، على خلفية اقتحام أنصاره مبنى الكونغرس، رمز الديمقراطية الأميركية. هذه القرارات غير المسبوقة، والتي لم يكن ترامب يتوقعها، أوجدت نقاشا ما زال يتفاعل بشأن حرية التعبير وحدودها ما بين المؤيدين لها ممن يعتبرون أن ترامب يتحمل جزءا من مسؤولية ما حصل، لأنه قام بالتأجيج والتحريض عبر تغريداته الحارقة، ومن يعتبرون حرية التعبير حقا مقدّسا لا يجب أن يترك لمديري وسائط التواصل الاجتماعي للتحكّم فيه، حسب أهوائهم ومصالحهم.
ثمّة من رأى في القرار رقابةً فظّة، وهناك من اعتبره سياسةً تحريريةً خاصةً بهذه المنصّات. لكن الأخطر أنه كشف لنا عن أكبر تجلٍّ لفرض شركاتٍ عملاقةٍ باتت تتحكّم في المجال العام الافتراضي سياسة الأمر الواقع، بدون تفويضٍ أو وصايةٍ من أية سلطة قضائية أو سياسية.
أول ردود الفعل القوية صدرت عن المستشارة الألمانية المنتهية ولايتها، أنجيلا ميركل، التي اعتبرت حرية التعبير حقا جوهريا لا يمكن التحكم فيه بقرار إداري صادر عن إدارة منصة رقمية. أما منظمة مراسلون بلا حدود فانتقدت ترك منصّات التواصل الاجتماعي تفرض شروطها ومعاييرها في مجال حرية التعبير بدون اللجوء إلى القضاء. ولا أعتقد أن الجدل سينتهي هنا بين مؤيد ومعارض لهذه الخطوة التي تعتبر سابقة، ليس لأنها استهدفت الرئيس السابق للقوة العالمية الأولى، ولكن لأنها تؤسس لديكتاتورية جديدة غير مرئية، لكنها يمكن أن تطاول كل الأصوات التي لا تخدم مصالحها، أو فقط لا تساير مزاج أصحاب هذه المنصّات الذين أصبحوا يفرضون شروطهم ومعاييرهم بشأن حرية التعبير في الفضاء العام الافتراضي. ما فعلته هذه المنصات قرارات فردية اتخذت بطريقة أحاديةٍ، لحسم نقاش فلسفي، شغل الفكر الإنساني منذ القدم حول الحق في حرية التعبير وحدودها. والمفارقة أن يأتي الحُكم من الشبكات الاجتماعية نفسها التي اتهمت، مرارا وتكرارا، بالتراخي في مراقبة ما ينشر عليها من تحريضٍ ودعواتٍ إلى العنف، بل ونقل حي لصوره من مجرمين وقتلة يروجون أعمالهم البشعة والمدانة من كل الشرائع والقوانين.
قرار منع ترامب من التواصل عبر الوسائط الاجتماعية الكبيرة أمر “خطير”، كما وصفه جاك دورسي، مؤسس “تويتر”، ليس لأن الأمر يتعلق بالرئيس السابق لأقوى دولة والذي تمت ممارسة الرقابة عليه، فهو لن يعدم الوسائل للتعبير عن رأيه، ولن تنقصه الإمكانات المادية لتوفير قنواتٍ إعلاميةٍ خاصة به للتواصل مع أنصاره. الأمر يتعلق بتحوّل مديري مواقع اجتماعية، همهم الأساسي الربح المادي، إلى قضاةٍ يصدرون أحكامهم القطعية في مسألة جوهرية، مثل حرية التعبير وحدودها، مستغلين الفراغ الكبير في وجود سلطة رقابة ديمقراطية مستقلة ونزيهة.
والسكوت عن مثل هذا القرار سيؤسس لسابقة تُعطي الأحقية لشبكات التواصل العملاقة، لتكون وصيةً على حريتنا، بل ولتقدّم لنا الدروس في مجال حرية الرأي والتعبير، وهي التي بنت ثروتها على استغلال الفراغ التشريعي العالمي في هذا المجال، وحوّلت الفضاء العام الافتراضي إلى أكبر سوق إعلانات بلا ضوابط ولا أخلاق. فلهذه المنصّات العملاقة مسؤولية كبيرة في انتشار خطابات الكراهية والعنف والتحريض، وقد حان الوقت للتحرّك، حتى لا تتحوّل مستقبلا إلى مُشرّع وقاض، في الوقت نفسه، تفرض شروطها ومعاييرها وأحكامها الخاصة قي تقنين واحدةٍ من أهم القيم الأساسية في حياة الإنسان، حرية الرأي والتعبير.
لقد تحوّل عمالقة التكنولوجيا الرقمية إلى أكبر تهديد على حرية الإنسان، بعد أن اقتحموا حياتنا الخاصة، وباتوا على إطلاع على كل تفاصيل حركاتنا وسكناتنا، يراقبوننا في كل خطوة ولحظة، وبدون إذن منا. فهل سيُسلم الإنسان، في النهاية، قرار حريته إلى ديكتاتورية أوليغارشية رقمية، كل ما يهم أصحابها جمع المال من دون مراعاة للأخلاق والقيم الكونية التي راكمها الإنسان منذ اهتدى إلى استعمال مَلَكة الفِكر والتَفكٌّر؟
لقد نجح أباطرة التكنولوجيا الرقمية في تحويل الإنسان إلى رهينةٍ إذ يتلاعبون بمشاعره ويتحكّمون في حريته، ويوجهون قراراته، ويجنون من وراء ذلك المليارات، ولا يجب أن نفرح أو نحزن، لأنهم انتصروا في فرض رقابتهم على رئيس أقوى دولة. وإنما المهم أن لا نترك لهم الفرصة لفرض شروطهم وقواعدهم علينا، وأكثر من ذلك أن لا ندعهم يعيدون وضع قواعد جديدة للعبة الديمقراطية التي لولاها لما كان لهم وجود أصلا في حياتنا اليوم.
نحن أمام تحدٍّ كبير تطرحه هذه المنصّات العملاقة، ويثير أسئلة مهمة حول دورها في تشكيل الوعي والخطاب السياسي للأفراد والجماعات. وبعيدا عن مسألة الرقابة التي تمارسها هذه المنصات يوميا على حسابات الملايين من روادها، وعلى الرغم مما لهذا النقاش من أهمية وراهنية، إلا أنه لا يجب أن يصرف انتباهنا عن القضية الحقيقية، فهذه المنصّات هي التي تختار لنا كل يوم ما يجب أن نفكّر فيه، وكيف ومتى ولماذا. إنها باتت تتدخل في تشكيل وعينا الإدراكي ولاوعينا، وفي التأثير على اتخاذ قراراتنا. إننا أمام ثورة نكوصية في مجال تشكيل الخطاب العام، وهذا أمرٌ خطيرٌ وجب الانتباه إليه حالا، والعمل مستقبلا على وضع حدٍّ لاحتكار هذه المنصات للفضاء العام الرقمي، وإخضاعها للمساءلة الديمقراطية، وإضفاء الطابع الديمقراطي على انتشار المعلومة والحق في الوصول إليها، وإلا فإن الأسوأ قادم لا محالة.
من أوجد ظاهرة ترامب هو هذا النظام البيئي للإعلام الفاسد الذي أنشأته هذه المواقع الاجتماعية، وعملت على تنميته وتشجيعه طوال السنوات الماضية. وترامب ليس أول ديماغوجي في العالم يستغل نقاط ضعف الأنظمة الديمقراطية، ولن يكون الأخير. وهذا النظام لن يختفي أو يَصلح بذهاب ترامب، وإنما بوضع حدٍّ لاستعباد الشركات الرقمية العملاقة مليارات البشر. وهذا التحدّي يفرض نفسه علينا جميعا، قبل أن نقع تحت رحمة الطغاة الرقميين الجدد.
* صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع “لكم. كوم”
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.