الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

 احتفاء جمال عبد الناصر بالشهداء وأسرهم

محمد السخاوي *

قرر جمال عبد الناصر بعد قيام الثورة أن تستضيف القوات المسلحة ثلاثة من أسرة كل شهيد من شهدائها في حرب فلسطين ١٩٤٨ لمدة ثلاثة أيام ولثلاث مرات كل عام: مره في عيد الفطر والثانية في عيد الاضحى والثالثة في ٢٣ تموز/ يوليو عيد الثورة .

كان أبي رحمه الله أمباشي مجند بالقوات المسلحة، كتيبة ٦، بنادق مشاة، تمركز الفالوجة فلسطين تحت القيادة المباشرة للبكباشي جمال عبد الناصر، واستشهد والدي في يوم ١٨/ ٧ / ١٩٤٨.. استمرت استضافة القوات المسلحة لأسر الشهداء خلال الفترة من ١٩٥٣ حتى ١٩٥٦ تقريباً ثم تغيرت الظروف بعد العام ١٩٥٦. وكانت القوات المسلحة تتحمل فيها نفقات السفر بالقطار ذهاب وعودة لثلاثة أفراد من أسرة كل شهيد، وكان الثلاثة الممثلين لأسرة الشهيد ’’عبد العزيز السخاوي‘‘: أنا الابن محمد وأم الشهيد (جدتي) وعمي محمود .

كان النظام المتّبع أن يحضر جمال عبد الناصر في تمام الساعة العاشرة صباحاً يوم العيد إلى مقابر الشهداء بالدراسة، ونظام المقبرة كان بمجرد الدخول من البوابة الرئيسية تجد أمامك مقابر الضباط ثم تسير في الممر المواجه للبوابة، ثم تدخل أول يسار لتصل مقابر الجنود، وكان عدد مقابر الجنود ١٨ مقبرة وفي كل مقبره ٦٨ شهيد؛ هذا غير مقابر الجنود المجهولين ومقابر المتطوعون من كل بلدان العرب .

بمجرد عبور عبد الناصر بوابة المقبرة يأخذ طريقه مباشرة إلى مقابر الجنود، ليزور كل مقبرة ويُعيّد على كل أسره من أسر شهداء كل مقبره، أتذكر أن عبد الناصر كان يجد نفسه مع هؤلاء الفقراء من صعايدة وفلاحي مصر، فتجد على وجهه ابتسامة فرح عريضة وهو يتبادل الحديث مع أفراد كل أسرة، أحوالهم ، كيف يعيشون، المعاشات متناسبة مع متطلبات الحياة أم لا، أولاد الشهداء عاملين أيه في المدارس، ماشيين كويس؟

هذا الحوار كان يجريه جمال عبد الناصر مع كل أسره على كل مقبره وكان في حرم كل مقبره ٦٨ أسرة .

من المواقف التي لا يمكن أن أنساها ما حدث معنا في عيد من الأعياد، وصل عبد الناصر المقبرة، وبدأ في مصافحة أفراد كل أسرة، وجاء علينا الدور وسلم علينا وأجرى معنا حوار الاطمئنان المعتاد وانتقل لمصافحة أسرة أخرى من أسر شهداء المقبرة؛ ثم انتقل إلى المقبرة التالية وصافح أُسرها وحاورهم ولما انتهى من هذه المقبرة لم يذهب إلى المقبرة التي تليها وإنما عاد إلى مقبرتنا متوجهاً إلى جدتي مباشرة وهاكم الحوار:

جمال: أيه.. في أيه.. مالك؟ ترد جدتي ما فيش حاجه والله أنا بخير كلنا بخير.. يرد جمال طيب: محمد عامل أيه في المدرسة؟ ماشي كويس؟ جدتي، الحمد لله ’محمد‘ كويس.. جمال: أمال في أيه أنا شايفك المرة دي مش زي المرة اللي فاتت طمنيني!..  جدتي اطمئن، أحنا كويسين خالص، وبعد أن أطمأن واصل لقاءاته مع أسر الشهداء من جديد .

لم  ينسى عبد الناصر جنوده ولم ينسى “عبد العزيز السخاوي” الذى استشهد تحت قيادته المباشرة وكان الحوار الذى ذكرته بينه وبين جدتي دليل على صدق ما أقول .

وفي أحد الحوارات بين جمال عبد الناصر وجدتي، قال لها أنت حزينة ليه؟ ردت جدتي أنا بخير الحمد لله ربنا يبارك لنا فيك، قال لها طيب أنت زعلانه علشان ’عبد العزيز‘ استشهد؟ قالت لا ’عبد العزيز‘ مجاهد في سبيل الله، قال لها ربنا عايز كده، ’عبد العزيز‘ يُستشهد وأنا أعيش، قالت له ربنا يبارك في عمرك، قال: أنا كنت ممكن استشهد، لكن ربنا عايزني أعيش، شوفي، وفك عبد الناصر زراير القميص الكاكي وانكشف صدره، ونظرنا جميعاً إليه ورأيت صدره ليس فيه مكان خالي من مواضع الرصاص (مصفى)، قال شوفتي يا أمي دي إرادة ربنا، ردت: الحمد لله ربنا يخليك لينا .

كان عبد الناصر يعيش روح الشهداء ودماءهم ولا ينساهم أبـداً .

وكانت تتجسد في عبد الناصر القيم الحضارية لأمته، كان هو الأمة العربية مصغرة.. لكنه في ذات الوقت كان يعيش الصراع بين الدولة والثورة القومية، في وقتٍ اشتد هجوم الأعداء عليه وانتصرت الدولة وعادت الجمهورية المصرية على يد أنور السادات بدلاً من الجمهورية العربية المتحدة، دولة الوحدة النواة، لأن عبد الناصر افتقد التنظيم القومي الثوري الذى يقود الشعب العربي في حركه ثوريه عربيه واحدة في مواجهة  قوى الثورة المضادة وتحالفاتها المحلية والاقليمية والدولية؛ كان ’’د. سيف الدولة‘‘ يشاركه هذا الهم عن بُعد من أجهزة الدولة، وكان هذا هو الدافع الرئيسي ليكتب سيف الدولة “نظرية الثورة العربية” وتأسيس التنظيم القومي وتسليمه لعبد الناصر عام ١٩٧٠.. رحم الله جمال عبد الناصر و د. سيف الدولة.. والبقاء لله وحده .

إن بناء التنظيم القومي الآن يحتاج دراسة نقدية موضوعية للتجربة الثورية الناصرية للإجابة على العديد من الأسئلة الثورية المتعلقة بالثورة القومية، وهذا الكلام موجه للشباب العربي كله، المؤمن بوحدة أمته العربية ووحدة مستقبلها .

هذه الذاكرة وهذا الانحياز من عبد الناصر للفقراء من أمته، كانا المؤشران الرئيسيان لسياساته الداخلية والعربية والدولية، ولذلك أيضاً تعيش ذاكرة الفقراء على ذكرى جمال عبد الناصر.. ولذلك أيضاً لن تموت الثورة .

* ناشط أكاديمي وسياسي مصري

المصدر: صفحة الكاتب على وسائل التواصل

التعليقات مغلقة.