الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

الشعب والشعوبية والشعبوية وملفات السنة الجديدة

يتفاءل الناس مع مقّدم كل عام جديد، وهو تطلع واستبشار لقدوم خيرٍ ينتظرونه، خاصة إذا كانت أحوالهم كأحوال شعوبنا العربية التي تفاقمت أزماتها واستشرت، حتى أضحت كالجبال، وأصبحوا كالعهن المنفوش في مهب الريح، تتلاعب بهم وبمصائرهم وبمستقبل الأجيال القادمة.

وكالعادة نهاية كل عام، يتم تسليم العهدة والملفات إلى السنة الجديدة (وما أكثرها عدداً وأصعبها مضموناً) ملفات تطال العالم كله، وعلى كافة المستويات والأصعدة؛ وما يعنينا بالدرجة الأولى هي تلك التي تخص بلدنا (سورية) وبلدان الوطن العربي، ومن ثم التي تخص العالم ككل؛ إذ لا يمكن الفصل بين الملفات لشدة تشابكها وترابطاتها مع واقعنا الذي لا يسرُ أحداً.

فيما يخص سورية (الجريحة والمعتقلة والشهيدة والمشردة والمهجرة والواقعة تحت احتلالات متعددة الجنسيات) ماتزال الملفات بيد القوى الإقليمية والدولية، تتلاعب بها، بل وتمنع فتح تلك الملفات واتخاذ موقف ملزم منها كما تعمق شرخ قوى الحرية والثورة السورية؛ وربما أخطرها وأهمها ملف المعتقلين في سجون نظام القتل والإجرام.

والحال ليس أفضل فيما يخص الأوضاع في اليمن والعراق وليبيا، حيث الصراع يأخذ أبعاداً وأشكالاً مختلفة باختلاف صراع المصالح والنفوذ بين الدول الإقليمية والدولية، بل ومصالح (الأخوة) في البلد ذاته، والذي يأخذ طابعاً طائفياً أو جهوياً أو قبائلياً، وكلها لا تصب في مصلحة الأوطان وساكنيه.

فمع بواكير السنة الجديدة شهدنا كماجأة أولى اجتماعاً لمجلس التعاون الخليجي في قاعة المرايا بمدينة العُـلا السعودية (اسم القاعة يعكس واقع حال التبعية) بكامل أعضائه، وبرئاسة رمزية لـ”جاريد كوشنر” (مستشار وصهر الريس الأمريكي دونالد ترامب) الذي أشرف على المصالحة الخليجية، تماماً كما أشرف على الخلاف بين قطر من جهة وبقية أعضاء المجلس من جهة أخرى عام 2017؛ لدفع قطر أثناء مرحلة الخلاف كي تكون منفذاً لإيران في تداول وتسيير مصالحها.

واليوم يتوحد الصف الخليجي ومعه مصر في وجه الخطر الإيراني كما هو معلن، رغم الاختلالات السياسية, بعلاقاتهم الإقليمية والدولية؛ فكم يحدونا الأمل اليوم بتبلور خطاب عربي جديد بعد التنازع واختلافات الرؤى حول القضايا المشتركة ومنها قضيتنا السورية، إذ كان لغياب الدور العربي الفعال أسوء الأثر على مسار الحل السياسي في سورية وتخفيف معاناة أهلنا السوريين ولازال؛ فهل يكون ذلك مقدمة لوضع وتطبيق رؤية استراتيجية عربية لمواجهة خطر التغلغل الإيراني الخطير لأربع عواصم عربية من خلال ميليشياتها الطائفية المتطرفة والإرهابية وفي مختلف نواحي الحياة العربية- ومنها السورية- الاقتصادية والاجتماعية والعسكرية والتعليمية والدينية؟، الأيام القادمة هي الكاشفة، علماً أن الشروط الموضوعية لهذا لا تبشر بأية إيجابية؛ فلا خلاف إسرائيلي إيراني عموماً وفي سورية خصوصاً، فإسرائيل عينها على تعويم الأسد من خلال احتواء إيران فيها، باعتبار إسرائيل مخفر متقدم للإمبريالية الأمريكية يشرف على توزيع الأدوار وضبط تنفيذها، أما إيران فهي تنفذ دورها التخريبي بالضرورة التي يفرضها شكل نظامها الشمولي و”الديني” وتاريخ قوتها الذي يخدم بدوره استراتيجية مراكز القوى العالمية بالحفاظ على المنطقة في إطار “الغبار البشري”، الذي تقوم إسرائيل فيه بضبط توزيع القوى ومسح الزوائد كلما تطلب الأمرُ ذلك، والهدف هو الحفاظ على حال العطالة إلى أمد غير مسمى مع الإفادة من المصادر الموجودة وفق الحاجة.

وكانت المفاجأة الثانية بداية هذا العام، احتلال أتباع ومناصري الرئيس الأمريكي ترامب لمبنى الكونغرس (الكابيتول) لساعات عدة؛ ليشاهد العالم وعلى الهواء مباشرة، بعضاً من صور الديمقراطية الأمريكية (إحدى أقدم وأرسخ الديمقراطيات عالمياً والتي استخلص المفكر الفرنسي “الكسي دو توكفيل” في كتابه- الديمقراطية في أمريكا- أنها تعمل ولكن  بطريقة غير مفهومة، والتي شاهدنا بعضاً من تجلياتها في سجن أبو غريب بالعراق، وفي سجن خليج غوانتانامو بأمريكا).

أمريكا التي نصّبت نفسها شرطياً على العالم، بأسلوبها البلطجي والتي قدمها ترامب شعبوياً بشكلها الفج والمباشر، ودون أية رتوش ديبلوماسية، وعلى الهواء مباشرة والتي لم تنتهي فصولاً بعد.

هذا كله يحيلنا إلى العنوان الذي اخترناه لهذه الافتتاحية في وقتٍ نعيش معه الذكرى /103/ لميلاد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، الذي لاتزال روحه حيةً في ضمير شعوب الأمة العربية، أملاً، وفكراً، ومشروعاً نهضوياً لا بد أن يشرق يوماً في سماء الوطن العربي مهما طال الزمن وهو القائل “إن الشعب هو القائد وهو المعلم”؛ ونجد معه من الضروري الإشارة إلى المعاني التي يتضمنها كل مصطلح، لفهم ما حدث ولا زال يحدث.

عرّفت القواميس العربية الشعب: “بأنه الجمع والتفريق والإصلاح والفساد والقبيلة العظيمة، أو هو أول الطبقات، وهو فوق القبيلة، أو ما تفرق من قبائل العرب والعجم، ويبدو أن لنا نصيباً واسعاً من هذا التعريف”.

وفي العلوم الاجتماعية والسياسية، يعتبر الشعب هو الركن الأساسي في الدولة الوطنية والقومية، ورغم الخلاف بين هذين العِلمين، حيث يقول علماء الاجتماع: “أن الشعب هم الأفراد الذين يعيشون في إقليم واحد ويتمتعون بجنسيته”، أما علماء السياسة فيقولون: “أنهم الأفراد الذين تربطهم جنسية واحدة، ويتمتعون بذات الحقوق السياسية”؛ وأنظمة الاستبداد تفضل التعامل مع التعريف الأول، وإزالة التعريف الثاني من منظومتها.

وأما الشعوبية فأول ظهورها تاريخياً كان أيام الدولة العباسية وكانت تتخفى حول تسمية مضللة هي (حركة التسوية = التساوي مع العرب) لتُخفي هدفها الحقيقي، وهو كره وبغّض العرب والعروبة وتفضيل العجم عليهم (العجم آنذاك هم فرس اليوم)؛ وحسب تعريف الموسوعة البريطانية فالشعوبية: “هي اتجاه مناوئ للعرب”، ومن يتابع نشاطات الأقليات يدرك ما نرمي إليه.

أما الشعبوية فتتعارض بل وتناقض معظم الدراسات التي أجريت عليها، بسبب اللبّس في استخدام هذا المصطلح، ويؤكد مؤيدو المصطلح إلى اعتبار أن الشعب يمثل القوى الخيرة، التي تتناقض مع النخبة المتصفة بالفساد والأنانية؛ والنخبة تضم المؤسسات السياسية والاقتصادية والثقافية والإعلامية ويتهمونها بتقديم مصالحها الشخصية على حساب مصالح الشعب.

ومن الملاحظ أنه عندما تقلد الشعبويون المناصب في الديمقراطيات الليبرالية الغربية (أمريكا ترامب نموذجاً) فإنهم كانوا غالباً مسؤولين عن انتكاسة الديمقراطية وتدهورها ودفع دعاة الديمقراطية للاستبداد والفاشية كنوعٍ من ردات الفعل كمؤشر للتحول الفعلي نحو الرأي الواحد المرافق.

وفي الختام كل ما نراه ونعيشه ونعايشه، ما هو إلا مفاهيم تبلورت معنىً وانبسطت فهماً، ووجدت تطبيقاتها في الواقع على أيادي شعوبٍ أرادتها نمطاً لحياتها، وتوقاً لسعادةٍ مأمولة.

التعليقات مغلقة.