علي أنوزلا *
تحمي الديمقراطية الحقيقية نفسها بنفسها، فهي تحمل داخل جيناتها الأجسام المضادّة لكل فيروس يهاجمها، وهذا ما حصل في السادس من يناير/ كانون الثاني الجاري في الولايات المتحدة عندما أنقذت الديمقراطية الأميركية نفسها بنفسها. ففي لحظة جنونٍ فريدة، كشفت لنا الديمقراطية عن هشاشتها وأعراض مرضها المفاجئة، وغير المتوقعة، مثل تسونامي يمكن أن يدمّر كل شيء في لحظاتٍ غير محسوبة. ما شهدنا مساء ذلك اليوم لم يكن استثنائياً يجب أن نبحث له عن مفرداتٍ تناسبه في القاموس السياسي، بل كان محاولة انقلابٍ واضحٍ على الديمقراطية، تم بثه حياً على شاشات التلفزيون وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. أظهر لنا إلى أي حدٍّ يمكن أن تبدو الديمقراطية هشّة، حتى في أقوى دولة. ولكنه في الوقت نفسه أبان لنا عن قوة الجهاز المناعي للديمقراطية، عندما تكون مبنية على أسس صحيحة. وطوال ساعات الانقلاب، تابع العالم على المباشر، وبشفافية كاملة، ما كان يجري، كما تابع تدخل الفاعلين السياسيين، وسمع انتقاداتٍ قويةٍ ومباشرةٍ لقائد الانقلاب الذي هو في الآن نفسه رئيس الولايات المتحدة الأميركية ورئيس جيوشها. كذلك شاهد العالم كيف تدخلت الشرطة والحرس الوطني لفرض القانون. وكان الشعور السائد لدى السياسيين والمعلقين على شاشات التلفزيون، وعلى المواقع الاجتماعية، هو الغضب مما كان يجري، لأنه يشوّه صورة الديمقراطية، ولم يجد الخوف أي مكان له في تلك الفوضى المباشرة التي لم يكن يعلم أيُّ أحدٍ متى وكيف ستنتهي.
كان الأمر بمثابة فيلم رعب، فيه كثير من التشويق والفرجة لمن يحبّ هذا النوع من الأفلام، لكن تأثيره لم يتعدّ مدة العرض وجدران القاعة التي كان يعرض داخلها. وفي الخارج، وعلى بعد أمتار من “قاعة العرض” كانت الحياة عادية، والغالبية العظمى من الأميركيين حافظت على هدوئها، ولم نشاهد خروج الناس إلى الساحات والميادين وهم في حالة هلع أو غضب، ولم تحتل الدبابات والمدرّعات شوارع المدن ومفترقات الطرق. كان الجميع متأكداً أن الأمر يتعلق بحادث سير غير عادي، لكنه لا يستدعي قطع الطريق ووقف حركة السير، لأن القانون، في النهاية، هو الذي سيطبق، وسيفرض احترامه على الجميع.
صحيحٌ أن صورة الديمقراطية الأميركية تضرّرت بشكلٍ يصعب إصلاحه في المنظور القريب، وأضرّت معها بشكل كبير سمعة الديمقراطية في العالم، إلى درجةٍ ستجعل الطغاة في العالم، والشامتين من أميركا وأعداء الديمقراطية يسخرون منها وينتقدونها، وهذا كان يحصل حتى قبل محاولة الانقلاب الفاشلة. والآن سيجعل فترة الشماتة تمتد، ولو بشكل سخيف، لأنها تصدر عن أناسٍ لا علاقة لهم بالديمقراطية وقيمها العليا.
ما حصل يوم الأربعاء الأسود هو “محاولة انقلاب”، لأنه لا يمكن إيجاد وصفٍ أدقّ لما كان يجري أكثر من كونه انقلاباً كان يقوده رئيس الدولة ضد مؤسساتها، لكن من أسقط هذا الانقلاب ضد الديمقراطية هي قيم الديمقراطية التي انتصرت، وهذه ليست مجرّد شعارات، وإنما سلوك حضاري تجلّى في تصريحات السياسيين الأميركيين، وفي قرارات مؤسساتهم، لحظة محاولة الانقلاب وبعده وقبله، فقد تابعنا كيف أن القضاء الأميركي ظل غير متحيز طوال فترة الانتخابات وما بعدها، وكيف حافظت مؤسسة الجيش على حيادها واستقلاليتها عن السلطة التنفيذية، وقبل ذلك كيف لعب الإعلام أربع سنوات دور حارس القلعة الديمقراطية بلا خوفٍ أو تردّد.
ما حصل في أميركا كان متوقعاً، لأنه نتاج سنوات طويلة من الدوس على قيم الديمقراطية في العالم من أكبر ديمقراطية، ومن الدولة المفروض أنها قائدة العالم الحر. ليست المناسبة هنا للتشفي، وإنما للتذكير بأن سنوات التدهور الديمقراطي الأميركي بدأت منذ سنوات، بل ومنذ عقود طويلة، عندما كانت الأنظمة الأميركية المتعاقبة تدبر الانقلابات وتباركها وتحميها في جميع أنحاء العالم، وعندما كان ساستها يعتبرون أن قيم الديمقراطية إنما وجدت لتطبق في بلادهم، وينعم بها شعبهم. وفي السنوات الأربع الأخيرة، مع مجيء رئيسٍ بلا مبادئ ولا أخلاق، عمل، طوال فترة ولايته، على تغذية سيكولوجيا الكراهية وإرضاء أمراضه النرجسية وتقسيم المجتمع الأميركي، تدهورت هذه القيم حتى داخل الولايات المتحدة نفسها. وكان طبيعياً أن يصل التدهور إلى الصور الصادمة التي شاهدناها في مبنى الكونغرس، فما حصل كان تتويجاً لأربع سنوات من الاستهتار بقيم الديمقراطية. لذلك كان ضرورياً أن يقع هذا الحادث لإنقاذ الديمقراطية من أخطائها، ولينبهنا جميعاً إلى فضائل النظام الديمقراطي، لأنه وحده القادر على حماية نفسه بنفسه، عندما يكون مؤسساً على أسس قوية.
وللديمقراطية، مثل كل الأنظمة، نقاط ضعها، ومواطن هشاشتها، ولحظات سقوطها، لكنها تبقى، كما كان يقول رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل، أو يُنسب إليه قوله، “أسوأ نظام عرفته البشرية، لكنها لم تعرف نظاماً أفضل منه”. وبالتالي، لا حل للبشرية من غير استمرار هذا النظام والتمسك به، والدور على نصرة هذا النظام في جميع أنحاء العالم سيكون على عاتق الإدارة الأميركية الجديدة، ليس لأنها عانت من مخاطر انهياره، وإنما انتصاراً لقيم الديمقراطية التي وعد الرئيس الجديد، جو بايدن، بالحفاظ عليها وصونها داخل أميركا وفي العالم، وصرّح مراراً وتكراراً طوال حملته الانتخابية بأنه لن يتسامح مع الأنظمة الاستبدادية التي تقمع حق شعوبها في الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. الديمقراطية اليوم تعيش أزمة خطيرة في عقر دارها، وعلى رئيس أميركا القادم، كما وعد هو نفسه بذلك، عقد قمة عالمية للديمقراطيات هذا العام، وأن يرفع هذا التحدّي، ويعيد للديمقراطية وهجها، ليس داخل أميركا فقط، وإنما في جميع العالم، إذا أراد أن يستعيد لبلاده مصداقيتها في العالم.
كانت أميركا في حاجةٍ ماسّة إلى مثل هذه الصدمة، لكسر جدران الانعزالية التي حاول الرئيس المنتهية ولايته فرضها عليها، وبات مصير الديمقراطية الأميركية بيد الأميركيين أنفسهم الذين أوصلوا شخصاً أخرق إلى قيادة ديمقراطيتهم، لأنه نجح في أن يفرض خطابه السياسي الذي يبرّر شرعية اغتنائه، بل ويقنع الأميركيين بأنه في مصلحتهم العامة. كما كانت الديمقراطية في أمسّ الحاجة إلى مثل هذا التحدّي في عقر دارها، لتجديد نفسها، بعد أن تراجعت في مواجهة أنظمة شمولية واستبدادية. كانت تجربة حكم ترامب، بكل مآسيها، مفيدة لأميركا، لأنها كشفت إلى أين يمكن أن يؤدّي الاستسلام لنرجسية زعيمٍ أخرق، فضح بتصرّفاته المتهوّرة ضوابط توازن المؤسسات التي تقوم عليها ديمقراطيتهم، وكاد يسقط الهيكل عليه، وعلى خصومه وأعدائه.
لقد عرّت محاولة الانقلاب الفاشلة في أميركا عيوب الديمقراطية وأمراضها، وما أكثرها، وأسقطت كل خطابات النخبة المرتشية والانتهازية التي كانت تزيّن للمستبد أخطاءه، وتقنع الرأي العام بأنها تندرج في مصلحته العامة، وفي الوقت نفسه، كانت فرصة لإسقاط كل الخطابات الديماغوجية والشعبوية التي كان يغذّيها الرئيس المنتهية ولايته، لتبقى الديمقراطية الأميركية، بكل ما لها وما عليها، تلك “المدينة المشرقة على التل”، كما يقول الأميركيون أنفسهم عن ديمقراطيتهم. ربما فقدت بعض تألقها خلال السنوات الأربع الماضية، لكنها لا تزال قوية وملهمة لكل الأحرار والديمقراطيين في العالم.
* صحافي وكاتب مغربي، مدير ورئيس تحرير موقع “لكم. كوم”
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.