د. جمال الأتاسي
ثالثاً – في ذكرى ميلاد عبد الناصر…
لا بد من الاستمرار على طريقه
في ذكرى مولـده، يكثـر النداء باسم عبد الناصر والتلفت إلى غيابـه، بين الـذين مازالـوا على العهـد أوفيــاء لطريقـه.. فما أحـوج أمتنـا في مثل هذا الظرف التاريخي الدقيق والذي يتقرر فيه مصير أجيال، إلى قيـادة مثل قيـادة عبد الناصر، تحيط بإرادة الجمـاهير العـربيـة وتطلعـاتـه و تستهدي بهـا، وتواجـه مهمـات الحاضر مواجهـة واقعيـة ثـوريـة، و ترسم خطواتهـا في الحاضر وهي ترصد المستقبــل.
إلا أن عبد الناصر كان قائـد ثـورة وطـريق ثـورة، كان رجـلاً فـذاً من رجال التـاريـخ خـط طـريق تحـريـر أمـة؛ وثـورة عبد الناصر هي ثـورة جمــاهير أمـة تصعـد بالنضال لتُحقـق تحـررها الـوطني والسياسي والاجتمـاعي ولتصنـع وحدتهــا، وطـريق عبد الناصر واضـح المعـالم لمن أراد أن يستدل ويستهـدي، وحضوره ماثـلٌ دائمـاً أمام الأوفيـاء لأهداف الثـورة.. ولقـد جاء عبد الناصر دفعة كبيرة في حياة الأمة العربية وتاريخهـا وفي حياة مصر وجمـاهير شعبهـا.. ومثّـلُ عبد الناصر لا ينتهي بنهايـة حيـاته، إنه مازال يفعل؛ يفعلُ بالنموذج الذي قدمه في الكفاح والعمل، ويفعلُ بالطريق الذي اختطه أمام حركة النضال العربي وفي حياة جيل بأكمله، ويفعلُ فيما قدمه من فكرٍ وتجربـة في تفـاعله مع حـركة التـاريخ والتقـدم الإنساني، وما كان يملكه من قـدرة على الـوعي والاستيعــاب.
لم يكن عبد الناصر قائـداً لمصر وحدها، بل قـاد الأمة العربية كلها منذ أن صعد إلى أن انتهى، ولا بـد أن يظــل فكـره وطريقـه هـادياً ودليــلاً، لأنـه هـو طـريق تحـرر أمتنـا ووحدتهـا، لقـد عاش حيــاة الأمة في خضم صراعاتهـا كلهـا، فوجدتهــا في قلبــه، وهو اليـوم مازال ضميـر هـذه الأمة ويعيش في حـركة وعيهــا ونضالهـــا.
ففي ذكرى مولده، مولد المهد والدليل، مولد المعلم والقـائـد، لا نأتي للتذكيـر بما كان عليه وما فعل وما أنجز فحسب، بل لتجديد ميلاده فينا واستمراره في حركة وعينا ونضالنا، ولقد كان التجـدد الـدائم والميـلاد المتواصل، كما هي الثـورة وكما تكـون الثـورة.
وتـأتي ذكـرى ميـلاد عبد الناصر هـذا العـام وأمتنـا أمـام مفتـرق طـرق، تعيشُ ظـرفـاً من أخطـر الظروف، والمـزالق خطيرة، ولا بـد من خـطٍ ناظـم يـدل إلى الهدف، وطـريق عبد الناصر يظـل هـو النـاظـم اليـوم لمن يتطلعـون الى الحـرية والتحريـر، ولمن يناضلون في سبيـل الاشتراكية وفي سبيل وحـدة الأمـة العـربيــة.
إن عبد الناصر لم يأت ليبتكر الأهداف الكبرى، فأهداف الحرية والاشتراكية والوحدة إنما تركزت حــولهـا مسيرة نضـال جمـاهير الأمـة العـربيـة، إلا أن عبد الناصر قـد صعـد شوطـاً بعـد شوط، ليبلـور تـلازم هـذه الأهداف ويصوغ مضامينهـا وليخـط استراتيجيـة تحقيقهـا، في صيغتهـا التقـدميـة الثـوريـة الاشتراكيـة الـوحـدويــة.
فعبد الناصر إنما جسد الإرادة الثورية لجماهير أمة وبهـذه الإرادة صعـد، متطلعـاً إلى النهوض الثوري المتواصل، وإلى أن تحقـق الأمة العربية ثورتها القـومية في هذا العصر.
والثورة العربية كما جسد تطلعاتها عبد الناصر، هي ثـورة التحرر الوطني والثـورة الاشتراكية معـاً، ولقـد مضى عبد الناصر في طـريق إنجاز مهمات الثورة الديمقراطيـة الوطنية ومهمات الثورة الاشتراكيـة في إطار قـومي وحدوي، وإذا لم يصل إلى إنجاز هذه المُهمات في حياته، فقـد دل إلى طـريق إنجـازهـا وسـار خطـوات كبرى على هذا الطريق.
وإن الربط بيـن البعد الوطني والبعد الـقومي لثورته، والربط بينهما وبيـن أبعاد التحرر العالمي كان هـو الطابع العام في مسار تجـربة عبد الناصر وكفـاحـه.. ومسار عبد الناصر في هـذا الاتجــاه بـدأ بسيطـاً ومبـاشراً، بـدأ من مصر والتحـرر الـوطني لـمصر، وبـدأ من اكتشـاف القوى والمعـوقـات التي تعارض حـركة التحـرر هـذه، ليكتشف بالضـرورة قومية مصر وعـروبتهـا ودورهـا في حـركـة الثـورة العـربيـة وفي حـركـة التحـرر العــالمي.
والدوائر التي بدأ منها في فلسفة الثورة لروابط مصر، من الدائرة العربية إلى الدائرة الاسلامية إلى الدائـرة الآسيويـة الأفـريقيـة، أي ما يسمى بالعالم الثالث، إلى حركة التحـرر العـالمي… هـذه الأطـر في الـروابط و العـلاقات، ما لبثت أن أخذت شيئاً فشيئاً مضامينها ونضجها، لتصبح حركة القومية العربية، في إطـار حركة التحـرر العـالمي، وليصبح محورها الأساسي الصدام الكبيـر مع الإمبرياليـة العـالمية، فالإمبرياليـة على كل المستويات وطنيـاً وقـوميـاً ودوليـاً، هي العـدو الأساسي وهي المناهضة لتحـرر الشعـوب، وهي النقيـض للثـورة ولحـركة الثــورة.
صحيـح أن عبد الناصر لم يُـعـط لثـورتـه هـذه الأبعـاد الاستراتيجيـة الـواضحة إلا بعـد مراحل من التطور والنضج ومراحل من التجربة والمعـاناة، ولكن عبد الناصر إذ بـدأ بداية وطنية صحيحة، وإذ ربط منذ البداية التحرر الوطني بمصلحة الجماهير العريضة، وإذ كان منفتح العقـل والقلب لحركة الجماهير يستلهم إرادتها ويعمل لوحدتها ويتطلـع لتحـررهـا من خلال التطلع لآمال مناضليها وكادحيهـا كلهم، فقد استطاع أن يحيط بتجربة نضال أمة وأن يستوعب التجارب الإنسانية الثورية الكبرى، لينهض بمطامح الثـورة العربيـة إلى أن تكون هي أيضاً نموذجاً ثورياً يُقدَّم للإنسانية في هـذا العصر وفي مستوى التطلعات الإنسانية فيه.
إن الربط الوثيق في حركة عبد الناصر بيـن تحرر مصر وتقدمها وبين التحرر العربي وحركة القومية العربية الوحدوية هـو الـذي حـرك القـوى الإمبـرياليـة منـذ البـدايـة ضد عبد الناصر لتطـويقـه ومحـاصرتـه وضربـه ولتحـريك المـؤامـرات الـرجعيـة والحـروب العـدوانيـة ضـده.
إن للإمبريالية استراتيجيتها العامة في العالم ضد تقدم الشعوب وتحررهـا، والتي تهدف إلى استغلالها ونهب ثرواتها، إلا أن لهذه الاستراتيجية خطة أساسيـة في المنطقـة العـربيـة، تقوم على تعزيز التجزئة وتغـذية المصالـح والنـزعات الاقليمية ومعـاداة الـوحدة القـوميـة.. وتلاحم إسرائيل ووجودهـا الصهيـوني الاستعماري بالإمبريالية العـالميـة، يـدخـل في إطـار هذه الخطة، بل هـذه المؤامـرة الكبـرى على التـاريــخ العـربي والمستقبـل العـربي.
ولقـد قيل كثيراً وبحق؛ أن الكيـان الصهيوني مـا زُرع في هـذه المنطقـة إلا لإقـامـة سد في وجه القومية العربية والوحدة العـربيـة.. ولقد كانت عقيـدة عبد الناصر عقيـدة القـومية العربية وكانت استراتيجيتـه تحقيق الـوحدة العـربيـة في مسار تحرري ثـوري اشتـراكي.
وعبد الناصر هـو الـذي قـال وأكـد أن الـوحـدة العـربيـة هي أيضاً استراتيجية التصدي للإمبريالية واستراتيجيـة الصدام التـاريخي معهــا.
والقـاعـدة الأولى في هذه الاستراتيجيـة وهذا الصدام، هي مصر عبد الناصر، مصر المُلتحمـة بالمصيـر العـربي، ومصر الطـليعـة في حـركة النضال العـربي والتحــرر.
وما كان لثورة عبد الناصر أن تأخذ أبعادهـا كلهـا، وما كان لاستراتيجيـة عبد الناصر أن تأخذ فعاليتها وجدواهـا، لـولا أنـه قـام في مصر وفي شعب مصر، مصر القطـر العربي الأكبر والأكثر تقدمـاً وتطوراً، لولا أن عبد الناصر صنـع تحـرر مصر ونهض أولاً يتقدم مصر، إلا أنـه نهض بـه من خـلال الالتـزام بالوطن العربي كله، ومن خـلال تحميـل مصر العبء الأول في مسؤوليات النضال العـربي كله.. ذلك قـدر مصر إذا أردنا أن نعبـر هكـذا بعفوية، إلا أنه منطق التاريخ، وحقيقة مصر ودور مصر، وعبد الناصر هو الذي قال أيضاً إن حياة مصر بحياة الأمة العربية وتحررها ونهوضها، بتحرر الأمة العربيـة ووحـدتهــا.
إننا إذ نركز الحديث في هذا البحث، وبذكرى مـولـد عبد الناصر، على هـذا الجانب في حياة عبد الناصر وثورته، وعلى هذا الخط في مسار عبد الناصر مـؤكديـن على الالتزام به وعلى ضـرورة الاهتداء بهديه، فـلأن له مساساً مباشراً بالوضع الراهـن الذي تعيشـه أمتنـا بعد حرب تشرين وبعد الشوط الذي دفعـت به هـذه الحرب قضيــة صراعنـا مع إسرائيـل، لتُدخلنا في هذا الحوار المعقد في أطراف عديدة من القوى العـالميـة، في محـاولة الوصـول إلى حل سياسي لهذه المشكلة التي جعلتها حرب تشرين ساخنة، والتي أصبحت تبرد شيئاً فشيئاً، من خـلال الاتصالات والمفـاوضـات مع جنيف وخـارج جنيف، رغـم ((تشابك القـوات)) الـذي مـازال، ورغــم دوي المـدافـع المتقطعـة عنـد الدفـرسـوار وفي القطـاعيـن الشمـالي والأوسـط من الجبهـة السوريــة.
عندما نشبت الحرب في تشرين وهجمت الجيوش، كان الهدف مركـزاً وبسيطـاً تحدده مرامي نيران قواتنا العربية، كان الهدف هزيمة العدو، أو دحره وإرغامه على الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلهـا في حـرب حزيران، أمـا وأننـا لم نَهـزم العدو، وأما أننا اضطررنا لإيقاف إطلاق النار من غير أن نرغمه على الانسحاب، وانتقلنـا من حرب الدروع والطيران إلى خنادق الحرب السياسية، فإن الأمور أصبحت أكثر غموضاً والأهداف أعقد منالاً.. وإذ أننا أصحابُ الحق الذي انتهك والأرض التي استُلبت، فلا بد أن تكون سياستنا واضحة كل الوضوح، وأن يظل الهدف الذي حدده المقاتلون هـو الهدف الذي ترمي إليه حـركة السياسة والمباحثـات، وأن يكون كل شيءٍ مكشوفـاً أمام جمـاهير شعبنا، فليس اليــوم ما يـؤكـد الهدف وحـركة السياسـة أو حـركة القتـال في سبيـل تحقيـق هـذا الهـدف، إلا ثقـة الجمــاهير وتمـاسكهــا وتصميمهــا.
لقد أعطى عبد الناصر الأولويـة الكبـرى للمعـركـة، معـركتنـا مع إسرائيل ومع الحلف الامبريالي الصهيوني المساند لها، إلا أنه أعطاها من خلال تصور استراتيجي لـه مـراحله و خطـواته، و يـربط الهـدف القـريب بالهـدف الأبعـد، وكان عبد الناصر واضحـاً وكان يفعـل بثقـة الجمـاهير وتماسكهــا على طـريقـه وتصميمهـا على مـواصلـة الكفــاح.
إن الظروف التي تحركت منـذ حـرب تشرين تطـرح أمـوراً كثيـرة على بساط البحـث لاستكشاف طريق المستقبل، ولتضع قضية الثورة العربيـة أمـام تسـاؤلات كثيـرة، وقضيـة الـوحدة العربيـة قبـل غيـرهـا، ولتضع حـركـة التقـدم العـربي أمـام اختبـار كبيــر.. ولكننـا نقف اليـوم وفي هـذه الذكـرى والمنـاسبـة، لنؤكد على عـدد محدد من النقـاط، نواجه بهـا حـركة القيـادات السياسية على طريق ما يسمى بمفـاوضات أو مبـاحثـات السلام من خـلال منطلقنـا النـاصري والخـط النـاظـم والصحيـح الذي اختطه عبد الناصر لحـركة الكفـاح وحـركـة السيـاسة، مُركـزيـن على جـانب أساسي هـو ثقـل مصر، وثقـلهـا مـوضـوع في إطــار استــراتيجيـة عـربيـة للكفــاح والـوحــدة، لأن النّيــل مـن هـذا الثقــل ومـن تـلك الاستراتيجيــة هـو نقطـة الهجـوم الأولى للقـوى المعـاديـة لقضيــة أمتنـــا.
1 – إن هناك مساراً واضحاً في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي.. فإذا كانت إسرائيل وجوداً استعمارياً غازياً، وإذا كانت بالأصل حلقة من حلقات الإمبريالية العالمية فكراً وسياسة واقتصاداً، وإذا كانت في وجودها وتطورها منافيـة للوجود العربي وللتطور العربي والوحدة العربية، فإن السياسة الإسرائيلية، ومن هذا المنطلق قـد ركزت مؤامراتها وعدوانها ضد مصر بالدرجة الأولى، منذ صعود ثورة عبد الناصر في مصر وتسلمها زمام قيـادة النضال العربي، وبهذا التقت اسرائيل مع أعداء الأمة العربية الآخرين في هـذا المخطط، فدخلت في تحالف مع الاستعمار القديم ((البريطاني والفرنسي)) في حملة السويس عـام 1956، وفي سلسلة المؤامـرات الرجعية والموجهة ضد مصر عبد الناصر وضد وحدة مصر وسوريا، وهذا المنطلق هو الذي وضع اسرائيل في تلاحم كامل مع الامبريالية الاميركية قبل حرب حزيران وخلالها وبعدها، وما كان الهدف الذي تلاقت عليه والصهيونية إلا عزل مصر عن بقية أجزاء الأمة العربية وتطويقها، وضرب ثورة عبد الناصر ونزع قيادة مصر للنضال العربي وصولاً الى إخراج مصر من حركة الوحدة العربية، فالإمبريالية الأمريكية وإسرائيل تعرفان جيداً أنهما بمحاصرة مصر وإخراجها عن طريق ثورة عبد الناصر تحققـان في هـذه المرحلة ضربة قاتلة للثورة العربية وللوحدة العربية، وهذا هو هدفهما الكبير والمُشترك، وبعد ذلك، ومن خلال التمزق العربي والضياع، يسهل دخول إسرائيل في المنطقة قوة ساندة وتسهل هيمنة الامبريالية الأمريكية والسيطرة على المصادر الكبرى للطاقة في الأرض العربية، والتحكم في التطور الاقتصادي والبشري للمنطقة.
2 – تقوم بالأساس على نفي القومية العربية ومقومات وحدة الأمة العربية، وهـذا ما يحاول تأكيده ساسة الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.. ولقد جاءت استراتيجية عبد الناصر وحركة نضاله، تؤكد أصالة المنطلق الثوري العربي الاشتراكي الوحدوي، ورداً كاملاً في جميع المستويات على تلك الاستراتيجية الإمبريالية والصهيونية، وعلى طريق الصدام المطلق مع الحلف الأمريكي الصهيوني مشت سياسة عبد الناصر وثورته، بل وعلى محور هذا الصدام تقدمت ثورة عبد الناصر وحققت ما حققته من انجازات وطنية وقومية وإنسانية، مؤكدة عروبة مصر والتحامها بالمصير العربي كله وبحركة التحرر العالمي كذلك فإن إسرائيل والامبريالية الأمريكية ما وثقتا تحالفهما وتلاحهما، وما ركزتا تآمرهما وعدوانهما ضد مصر، إلا عندما أخذت ثورة عبد الناصر الوطنية بعدها القومي الوحدوي وأصبحت المحرك لقوى النضال العربي والدافع في هذا الاتجاه.. لقد كان الهدف الأول لعدوان حزيران ضرب مصر وإسقاط ثورة عبد الناصر، واليـوم وبعد حرب تشرين وأياً كـانت المواقف والتحركات والضغوط التي تتستر وراءهـا الإمبرياليـة الأمريكية، وأياً كانت المناورات التي يناور بها الساسة الإسرائيليون حول فـك التشابك وانسحاب القوات، فإن ذلك الهدف الذي تلاقت عليه الإمبريالية وإسرائيل في حرب حزيران، مازال هـدفهمـا الأول والمباشر في المعـركة السياسيـة السائرة الآن بعد حرب تشرين.
3 – كثيراً ما طرحنا أبعاد استراتيجية عبد الناصر في التصدي للحلف الأمريكي الصهيوني، وبخاصة بعد عدوان حزيران وهزيمتنا في تلك الحرب.. ولقد كانت لهذه الاستـراتيجيـة أبعـادها العسكـرية والسياسيـة، القطريـة والقومية والدوليـة، ونعود لنؤكدهـا في كلمات وعناويــن:
لقد أكد عبد الناصر دائماً على صمود مصر، وتقدم أولَ ما تقدم ببناء قوة مصر العسكرية وتلاحمها الوطني، كانت مصر هي الركيزة الأولى والضمانة الكبرى في معركة التحرير، أكد عبد الناصر على تلاحـم مصر وسورية كحلقة أولى من حلقات استراتيجية النضال العربي في التصدي للإمبريالية وإسرائيل وفي مواجهة مهمات إزالة آثار العدوان، كما وضع في حيز الإمكان وعلى طريق التحقيق حلقات أخرى منها الجبهة الشرقية، أعطى لمصر بعداً استراتيجياً في التلاحـم مع حركات التغيير في السودان وليبيا، كما جعل هذا التلاحم بداية لمنطلق جديد على طريق تحرك وحدوي من خلال المعركة وفي سبيـلها- وأكد عبد الناصر على التضامن العربي الشامل والعريض في عمل عربي مشترك لمواجهة ظروف العـدوان بسيـاسـة عـربيـة مـوحدة في مستويـات معينــة وبجـهــد عـربي مشترك من الـدعـم المالي والاقتصادي والعسكري لأقطار المواجهــة- وظــل عبد الناصر في الوقـت ذاته يـؤكد على أبعــاد النضال العربي السوري وعلى وحدة القـوى الثورية، وظل يُشيـر إلى طـريـق المستقبل، وأعطى للمقـاومـة مكــانهـا كـقـوة تـدّخــل في استراتيجيــة الكفــاح الــراهن وتظــل رصيــداً لحــركـة المستقبـــل.
أكد عبد الناصر على طريق القتال، وإن ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة، إلا أنه فتح باب العمل السياسي على مصراعيه أيضاً لإعطاء أكبر قدر من الجدوى لتأثير العرب في الآخرين ولكسب مزيد من الأنصار للحق العـربي، ولإعطاء قدرة أكبر للأصدقاء للفعل والتأثير مُساندةً لقضايا تحرر العرب وكفاحهم.. عزز الرابطة بدول المنظومة الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفياتي، وجعل مـن الصداقة معها محوراً لاستراتيجية مشتركة دفع بها إلى أقصى ما يمكن من أبعاد في سبيل مصلحة التحرر العربي والتحـرر العــالمي.
وعلى طريق المعركة خط طريقاً وخطوات، من الصمود إلى التصدي إلى حرب الاستنزاف فحرب التحرير، ومن خلال حرب الاستنزاف قال بصنع وحدة القوة وقوة الوحدة، وأراد أن تظل القضية ملتهبة على خطوط النار، لتُحرك العرب باتجاه خطوط النار ولتُحرك العالـم نحـو القضيــة.
ولقد قال عبد الناصر بالهدف المرحلي المُحدد، إن هذا الهدف لا ينفصل عن مسار النضال العربي الطويل على طريق أهداف الجماهير الكبرى في التحرير الكامل والاشتراكية والوحدة، إلا أنه في هذه المعركة وفي هذه المرحلة من الصراع مـع الحلف الإمبريالي الصهيوني هدف محدد بدحر العدوان وانسـحاب إسرائيل مـن الأراضي التي احتلتها في عدوان حزيران، والحفاظ على حقوق الشعب الفلسطيني القومية في أرضه ووطنه ومسألة الحقوق المشروعة أو الحقوق القومية المشروعة للشعب العربي الفلسطيني في تعبيرنا الناصري كان لها مدلولها الواضح في فكر عبد الناصر ومسار مواقفـه.. فالانسحاب من الأراضي المحتلة كلها هو الهدف المرحلي وعدم التنازل عن الحقوق القومية للشعب الفلسطيني في تقرير المصير هو الرابط هنا وفي هذه المرحلة أيضاً بين الهدف القريب ومسيرة النضال التاريخية، وهو النفي للوجود الصهيوني الاستعماري في الأرض العربية، فعبد الناصر لم يُطالب الثورة الفـلسطينية يوماً بأن تلتزم بهذا الهدف المرحلي أو تقف عنده كما لم يحاصر حركات المقاومة بحركة السياسة وسياسة النُظم….
4 – ان حرب تشرين وقد بدأت المبادرة فيها من القوة العربية في جبهتي مصر وسورية، سارت وكأنها تمضي في إطار الاستراتيجية التي وضعها عبد الناصر سواء في حركتها الهجومية أو في سياستها العربية والدولية أو في الشعارات التي رفعتها أو الأهداف التي حددتهـا، فهي قـد أعلنت أنها تمضي في حربهـا على طريق التحريـر وأن مطلبها أن ينسحب العدو من الأراضي العربية التي احتلها في حرب حزيران والاعتراف بالحقوق القومية المشروعة للشعب الفلسطيني بـل وظهرت في البداية وكأنها تتقدم بهذه الاستراتيجية على خطوات عبد الناصر، وبخاصة فيما يتعلق بما حققته من فعالية في المجال الدولي وما حصلت عليـه من دعم في المجـال العـربي.. ولكن هـذا لـم يكن إلا مظهـر التصميم الأول والبـداية ليس إلا، وفي بعض الخطوات السياسية التي جرت بعد ذلك، أي أيام القتال الأولى، ثـم في بعض تظاهـرات التضامن العـربي التي تجلت في دعـم قوى… المواجهة، وفي مؤتمر قمة الجزائر ومـا حـركتـه على الصعيـد العــالمي.
إننا لن نذهب إلى ما يقوله البعض في تفسير بعض جوانب الدعم العربي الخارجي ورده إلى غياب عبد الناصر، وإلى أن وجوده كان يقلص من مطامح ومطامع بعض الزعامات والقوى ونظل نؤكد على الجانب الايجابي وما حركته هذه الحرب من مشاعر وطنية وقومية واسعة.. ولكن أين الخط الناظم لحركتنا السياسية اليوم بعد تحركنا العسكري، وهل نحن نمضي بشكل متماسك وواضح في الاستراتيجيـة التي تؤدي بنا إلى أهدافنا، المـرحليـة منهــا والبعيــدة؟؟
إن القيادة السياسية في مصر وسوريا مازالت تعلن تمسكها باستراتيجية إزالة آثار العدوان كلها ومن خلال التمسك أيضاً بهدف الوحدة وطريق الاشتراكية.. ولكنها وقـد توقفت بالقتال حيث توقفت ومشت في حلقات المفاوضات وخطوات الحل السياسي، فان الالتزام بتلك الاستراتيجية أصبح بحاجة لمزيد من التوضيح، لأن التحولات التي تجري في المنطقـة، بل والتحولات التي تجري وطيدة داخل النظم، ثم امكانيات هذه النظم نفسها، ودخول السياسة الأمريكيـة وتحركها في المنطقة كعامل أولي في حركة الحل السياسي بدءاً من حل التشابك بين القوات، كل ذلك يحرك قلق الجماهير وقلق قوى التقدم ويطرح تساؤلات كثيــرة.
فالذي صنعته حرب تشرين أيام القتال، من تلاحم وطني وتلاحم قومي، أخذ يعتريه الوهـن والتفكك، لا لأن القتال قد توقف فحسب، بل ولأن ما بعد القتال لم يوضع على طريقٍ واضحة ولعدم وجود استراتيجيـة حقيقيـة لبنــاء تـلاحـم وطني وقـومي متيــن.
والتلاحم المصري السوري إذا ما ظلت البيانات والتصريحات الرسمية تؤكد عليه، فإن تشكيكاً كثيراً يدور من حوله، وثمة قوى وتيارات تدفع ضد ذلك التلاحم.. والعمل العربي المشارك أخذ ينفرط إلى محاور، وسلاح النفـط انقلب إلى سلاح مفلس وغير فعال، من حيث طريقة استعماله بحيث لم يؤذ إلا أعضاء أمتنا، بل وقد أفادت منه الإمبريالية الأمريكية لتعزيز دولارها، وتمكين نفوذها في مناطق أخرى من العالم.. وطريق الوحدة تحول إلى صرخة في واد غير ذي زرع، والتناقض المصري الليبي أنهى عملياً طريق الاتحاد الثلاثي، وطريق الوحدة الاندماجية الثنائية، لتتحول ليبيا باتجاه تونس واتجاه الغرب.
والتصميم على مواصلة القتال لاستخلاص الحق وتحرير الأرض إذا لم تُحقـق حركة السياسة ومفـاوضات جنيف جدواهــا وخطوات الانسحاب الكامل للعـدو، ليس أمـامـه سوى ذلك الإعــداد الـواضح الذي يجعله عنصر ضغـط حاسم على حـركة السياسة، أو يبقيـه مدخـلاً فعــالاً لحرب استنزاف أو حــرب تحريــر جـديـدة، وبخـاصـة إذا مـا تحققـت خطــوات فـك تشـابك القـوات، ووقفـت الأمــور طـويــلاً بعـدهـا، عنــد هـذا الانفكـاك.
والمقاومة الفلسطينية التي أعطاها مؤتمر قمة الجزائر اعترافاً عربياً عريضاً بمشروعية تمثيلهـا للشعب الفلسطيني ومطالبـه، ما زدنـا إلا أن وضعناها في دوامة ليس أمامها من مخرج أو طـريـق واضحــة.
كل ذلك يضع الاستراتيجية العربية في مآزق وتناقضات، وتتعدد التيارات والمنطلقات، وتشتت المواقف، وتتحرك المزاودات، ومقابل ذلك تتحـرك الإمبريالية الأمريكية وتتحـرك معهـا إسرائيل من خــلال خـطـط مرسومــة، لـوضع المنطقــة على طـريـق مسـار جـديـد يُعـــزز الـوجـــود الإسرائيلي، ويعـــزز المصالــح الإمبـريـاليــــة.
5 – لقد علمنا عبد الناصر من تجربته النضالية الغنية، أن استراتيجية نضالنا لا تتحدد بتطلعاتنا نحو أهدافنا فحسب، بل وباستكشاف مخططات الأعداء، فهم يعملون حتماً ضد وصولنا إلى أهدافنا.. وإذا كان عدونا المباشر هو إسرائيل فإن التناقض الكبير- ومهما تغيرت المظاهر والتحركات والأدوار- يظل بين حركة تحررنا العربي وبين الإمبريالية الأمريكية حليف إسرائيل الكبير والذي كان ومازال أكثر من أي وقت مضى، يعزز وجود إسرائيل العدواني بسلاحه وماله وكل طـاقـاتــه.
فلا بد من استكشاف مواقف السياسة الأمريكية على حقيقتها، وطبيعة مراميها وأهدافها لئلا نضيع في المتاهات، من خلال ذلك التصور بأن الولايات المتحدة الأمريكية تملك وحدها القـدرة على الضغط على إسرائيل، وهي ولا شـك تملك هـذه القـدرة، ولكنهـا لا تستعمـل هــذه القــدرة بأيــة حـال لمصلحـةٍ عـربيــة أو مصلحـةٍ تحـــــــــرريــة.
إن الامبريالية الأمريكية إذ هي قمة التطور الرأسمالي في العالم وتمثل هذا الطريق ضد الخط الاشتراكي، وتعادي بالتالي تحولنا على الطريق الاشتراكي، فإن عدائها إنما يذهب بالدرجة الأولى ضد الوحدة العربية، وفي هذا السبيل فهي تخطط لإخراج مصر من قضية الوحدة وتعزيز الأوضاع الاقليمية في المنطقة والإجهاز على طريق عبد الناصر التحرري الوحدوي، أي تراث عشرين سنة من النضال العربي الوحدوي الاشتراكي، وضرب السياسة التي عززها عبد الناصر في التعاون مع الاتحاد السوفياتي والدول الاشتراكية واظهار الاتحاد السوفياتي بمظهر المُساند الأضعف في حلبة الصراع بيننا وبين إسرائيل وإخراج النفوذ السوفياتي من المنطقة، وإلغاء دور مصر في التحريك التحرري للعالم الثالــث.
والإمبريالية الأمريكية تحركت منذ حرب تشرين لتطويق نتائج هذه الحرب وإخضاعها لخطتها، بل هي تحركت أثناء الحرب بالدعم الكبير لإسرائيل لتوقفها عند حدود لا غالب ولا مغلوب، ثم تقدمت باسم الضغط على إسرائيل، إلا ان لعبتها الكبرى موجهة للقوى العربية.. إن الحرب قد سخنت القضية، والولايات المتحدة الأمريكية تتكفل اليوم بتبريدهـا على طريقتهــا.. إنهـا تتقــدم وكـأن ضغطهـا على إسرائيل يجـري تغييـرات في المـوقف الإسرائيلي، والـواقــع أن ثمـة تغييـرات، ولكنهـا لا تخـرج عن كونهـا تغييرات تبقى في إطـار المخطط العريض للحلف الإمبريالي الصهيـوني، والهـادف إلى تطويـق المنطقة بحيث يستبعـد هدف الوحدة العـربيـة ويستأصل جـذوة الثـورة العـربيــة الاشتـراكيــة.
لا يجوز أن نظل عند التصور التحديدي لاستراتيجية إسرائيل التوسعية، عـن طريق الحروب القصيرة المباغتـة وتدمير العتاد والجيوش والامتداد شوطاً في الارض العربية بالقوة العسكرية فهذا الطريق وقد بلغ ذروته في حرب حزيران عام 1967، لم يعد بمقدور إسرائيل الاستمرار فيه بعـد التطورات التي جرت على صعيد العـلاقات العـربيـة والدولية بعد تلك الحرب، وتقدُم استراتيجية عبد الناصر في بناء القوة العربية وفي المواجهـة.. وفي حرب تشرين إذا ما تمكنت إسرائيل بالدعم الهائل من الإمبريالية الأمريكية أن ترد على الهجوم العربي بعمليات الاختراق في الدفرسوار والقطاع الشمالي من الجبهة السورية فإن مخططها القديم قد فشل وشراسة هجومها بأسلوبها التقليدي للتدمير العسكري والتدمير الاقتصادي على سورية ما زاد على أن حرض النجدة العربية والالتحام العربي وإعطاء أبعاد استراتيجية للمواجهة العربية تُرهق الحلف الإمبريالي الصهيوني، عدا ما تطوقه به من عزلة دولية وتوسيع الجبهة المُناهضة لهذا الحلف.. فكل امتداد إسرائيلي على الطريق التقليدي السابق أصبح في المرحلة الراهنة تورطاً جديداً لإسرائيل والإمبريالية الأمريكية، وطريقـاً لا نهـايـة لــه.
فالتدخـل الأمريكي الضاغط على إسرائيل، لم يكن إذاً تدخلاً ((كريماً)) في سبيل تسوية ((عادلة)) بل كان إخراجاً لإسرائيل والإمبريالية الأمريكية من وراء الاستمرار فيها، كان من الممكن ان يُحدث تفجيـرات ثـوريـة بعيـدة المــدى.
من هنـا يمكن أن نـلاحـظ أن الإمبرياليـة الأمريكيـة دخلت مُـرشـداً لإسرائيل ولإيجـاد مخـرج لهــا يتفـق والمُخطط الإمبريـالي العـريض، ولـم تدخـل ضاغطـاً، بـل هي إذا ما خططت فلـيس على الـذيـن يفهمـون هــذا المخـطط من القيـادة السياسيـة الإسرائيلية وقد تكيفـوا معـه بسرعـة، بـل على القيـادات والقـوى الإسرائيلية المتخلفـة عن استيعـاب التطـور الإمبريالي والتي مازالت عند الأساطيـر الدينية والنهج الاستعمـاري القـديــم.
إن المخطط الإمبريالي الأمريكي الـذي تحرك بعد الحرب العالمية الثانية باتجـاه البلاد العربية لاحتلال مواقع الاستعمار القديم في المنطقة لا باحتلال الجيوش بل بالسيطرة الاقتصادية ومساندة بعض النظـم الرجعية أو باستبـاق حركة الثـورة في الأقطار الأخرى بمساندة تغييرات وتطورات في محاولة محاصرتها وحجرهـا في إطار التطور البرجوازي والاقتصادي التابع، اعتمدت إسرائيل شريكاً وأداة فاعلة، بأسلوبها الاستعماري والعسكري لضرب حركة الثورة العربية التي هي بالأساس حركة وحدة وتقدم وحركة مناهضة للإمبريالية.. وفي تلك المرحلة كانت إسرائيل أكثر من شريك، إنها كانت تؤثر بدورها وتفعل بالمخطط الامبريالي، وهذا الفعل إذا ما أفاد الإمبريالية الأمريكية في كثير من جوانب مخططها إلا أنه في جوانب أخرى لم يعد متفقاً كل الاتفاق مع التغييرات التي اصبحت الإمبريالية بحاجة لإدخالها على مخططاتها للتصدي للتغييرات في المنطقة العربية والعـالـــم.
لنقتصر التفاصيل هنا، والمستقبل القريب كاشف فالإمبريالية الأمريكية من خلال الثقـل الـذي وضعته بالتدخل في ((التسوية)) بعد التغييرات التي أحدثتها حرب تشرين، تعمل من جهة على مساندة التكيـف الإسرائيلي مع الظـروف التي جدّت، ولتفيد من هذا التكيـف الإمبريالي لإسرائيل، لتملك قدرة أكثـر على الفعـل في المواقف العربية لتطويرهـا لصالـح مخططاتهــا القريبــة منهـا والبعيــدة.
لقد حـرصت إسرائيل منذ إعلان وقف إطلاق النار على أن تحصر ضمانات التسويـة والحلول للولايات المتحدة الأميركية، التي كانت وتظل الضمانة الكبرى لإسرائيل.. وقد نجحت إلى حدٍ غيرِ قليل في هذا الاتجاه، فك ((تشابك القوات العسكرية)) إذا ما تحقق بالعهد الأمـريكي وكان يضغط على إسرائيل، فـإن الإمبريالية الأمريكية ستعمل بالتآزر مع إسرائيل على جعل هـذه الخـطـوة على طـريق التسويـة، مدخلاً جديداً لتحويلات كبرى في المنطقة لصالح الإمبريالية الأمريكية ولصالح دخول إسرائيل في المنطقــة بصيغـة جـديــدة من الروابـط والعلاقـات تعـــزز وجــودهــا وتعـــزز النـفـوذ الإمبريـالي وتضـرب أهـداف الثــورة العـربيــة في الصميـــم.
لقـد كان بمقـدور السياسـة الأمريكية أن تـدفـع على طريـق الحل الـذي تطـرحه اليـوم عقـب هـزيمة حزيران، وهي قـد وافقت على قـرارات مجلس الأمن التي تحـدد قـواعـد هـذا الحل.. وكثيـراً ما قدمت مشاريـع و مبـادرات ثـم سحبتهـا، وكـانت تقـول بالطـريـق الطـويـل إلى الحـل ولتعــدد المـراحـل على طـريـق هــذا الحــل.
واليوم إذ تتقدم السياسة الأمريكية للدفع للحل بأسلوب فعال أكثر مـن أي وقـتٍ مضى، فإنها مازالت تقول بالمراحل وبطول الطريق.. فتقدم الحل الأمريكي الذي أصبح اليوم واضح البداية أما أنه غير واضح النهاية ولا المُهـل الـزمانيـة، إنما هـو مـرهـون بتحـولات تجـري في المنطقـة وفي أوضـاع النظــم وركـائـزهــا وفي العــلاقـات العـربيــة.
إن عملية فـك تشابك الـقـوات والانسحاب الجزئي لإسرائيل، إذا كان يحقـق بعض الارتياح لنظامي مصر وسورية لينصرفـا لمعالجة الأوضاع الداخلية وتعمير ما دمرته الحرب فإن أمامه بالمقابل مقصد إمبريـالي وإسرائيلي، لتفكيـك التـرابـط العـربي، بـدأ من عـزل مصر بتحميلهـا كل النتائـج السلبيـة التي يمكن أن تـأتي على الطـريــق.
وفك تشابك القـوات، يقـطع الطريق على مغامرة إسرائيلية عسكرية جديدة ولكنه يقطع الطـريق على حـرب الاستنزاف العـربيـة، ويجعل استئنـاف العـرب للقتـال على المدى القريب عسيراً.. عنـد تعثـر الحلول، ويُدخل السياسة العربية في المخاض الصعب، ويبقيها محاصرة بالطريق الأمريكي الطـويل والمتعـدد المراحـل للحل، في الوقت الذي تُحرك فيـه الإمبريالية كل امكانياتها وأرصدتها في المنطقـة للمساعـدة على تحولات وتغييرات، لا تقتصر على مواقـف النظم والقيادات السياسية بل وحركة المجتمعات والمرتكزات الاجتماعية والطبقية للسياسات والنظم، والهدف الأساسي ضرب حركة الوحدة العـربيـة.
إننا ونحن نستكشف أبعاد المواجهة ضد قضيتنا، لا نشكك بأية حال في مساعي النظم العربية التي بدأت من الحرب للوصول إلى حل مرحلي، ولا أن نشكك بوطنيتهـا إذ تدخل في هذا الحوار مـع السيـاسـة الأمـريكيـة، فالإنسـان يمكن أن تضطـره الظروف لمحاورة أعدائـه، ولكننـا نود التنبيـه إلى المنزلقـات الخطيرة التي تهدد نضالنـا العـربي، ولا بـد أن تكـون الأمــور واضحـة كل الوضوح أمامنـا وأمــام جمــاهير شعبنـــا.
إننا لا نقف إلى جانب المزاودين وجبهات ((الرفض)) الجديد وطروحها التي ترتد بها إلى القوالب التقليدية والقديمة التي وضعت سياستنا الماضية على دروب العجـز واللاجدوى وأوقعتها في الضياع من خلال شطحات الهروب إلى الأمام.. فنحن لا نقول للنظم لا تذهبي إلى مفاوضات ((السلام)) في جنيف، ولا نُخوّن من يقبل بالهدف المرحلي، ولا نقول أن القبول به ضربٌ من الاستسـلام.
إننا نقبل بالمراحل على طريق النضال وطريق الأهداف الكبرى، ولكننا نقبل بها وفقاً لاستراتيجية عربية تحريرية تقدمية وحدوية تعرف أن طريق الصدام الدائم مع العدو محتم لبلـوغ الأهــداف.
ولهـذا أكدنا على الاستهــداء بطـريـق عبد الناصر واستراتيجيــة عبد الناصر.
ولهذا أكدنا ونظل نؤكد على دور مصر عبد الناصر، وعلى ضرورة الالتحام بها اليوم أكثر مـن أي وقـتٍ مضى، والإنشـداد إليهـا لشدها دومـاً إلى طريق الثورة العربية الواحـدة فــلا تُحّـكـم الإمبرياليـة الأمريكيـة الطــوق مـن حــولهـــا.
لقد أكدنا منذ حرب تشرين بل وقبيل الحرب على ضرورة محاصرة النظم القائمة بالإيجابية لتقوى على مجابهة مسؤولياتها، ولإلزامها والدفع بها دفعاً أقوى إلى تحقيق ما تُعلنه من هـدف..
وبهذه الإيجابية لا بد أن تُحاصَر الحركة السياسية المصرية، من نظم التقدم ومن قوى التقــدم العــربيـــة.
فانفـلاش النظم التقدميـة، أو المسمـاة كـــذلك، وتعــدد محـاورهـــا، وانفــلاش القـــوى التقـدميـة العربيـة، أمـرٌ خطيـر وبخـاصـة في هـذه المرحـلـة الصعبــة والمُـعقــدة.
إلا أن القيادة السياسيـة في مصر مطالبة أيضاً بأن تعود فتنشد إلى طريق عبد الناصر واستـراتيجيتـــه.
وكما نطالب مصر.. نطالب القيادة السورية، ونطالبها بأن تظل مشدودة إلى مصر عبد الناصر ملتحمة بها وأن تشد بها إلى الأمام على طريق ((قوة الوحدة ووحدة القوة))، ونُطالبها بأن لا تنـقـلب على محـاور أخرى وأن ترفض سيـاسة المحـــاور.
وأمام اللعبة الإمبريالية لضرب حركة الثورة العربية واستراتيجية عبد الناصر لا بد من الإصرار على طريق عبد الناصر.
فمع طـريـق عبد الناصر أو ضـده، بهـذا يمكـن أن تتحـدد المـواقف اليـوم بشكلٍ قاطع، مع الوحدة أو ضدهـا، مع الاشتراكية أو ضدها، مـع قوى المستقبـل أو مع قوى الـردة، في هذه الصيغ لا بد أن تُكشف مواقع القوى والنظم اليوم.. فثمة ألاعيب كثيرة وستُلعب في المنطقة كما تستخدم أسلحـة كثيـرة من قِـبـل القــوى المنـاهضـة لحـركـة الثــورة العـربيــة، وقـد يكـون بينهـا المـال والنفـط، وقـد يكـون بينهــا إعطــاء رصيــد لازدهــار كــاذب لدفـع التغييـرات في الأفكـار الذي تخطط له الإمبرياليـة الأمريكية في الصيغـة الجـديدة التي تتـقـدم بهـا اليـوم بعـد الحـرب نحـو العـرب، وبالتالي لشق الطريق أمام صيغـة إمبرياليـة جـديـدة في العــلاقـات العـربيــة الإسرائيليــة.
وفي وجه هذا المخطط لا بد أن تقف بوضوح وحزم، القوى التقدمية العربية، دفاعاً عـن وجـودهــا وعـن مستقبلهــا وتمسكـاً بطـريــق الثــورة، طـريــق عبد الناصر….
١٥ كانون الثاني ١٩٧٤
يتبع.. 4/6؛ من هذه السلسلة
التعليقات مغلقة.