فواز حداد *
دعا جان بول سارتر عند صدور العدد الأول من مجلته “الأزمنة الحديثة” إلى ضرورة “التزام المثقف”، أي يجب على الكاتب ألا يغفل عما يجرى في العالم، وأن يكون معنياً به، وذلك باتخاذ موقف يعلن من خلاله التزامه بالقضايا الإنسانية، ولو كان منصرفاً لعمله الأكاديمي. ويضيف بأنه على المثقف أن يعانق عصره، أي يعيش زمانه. إذ لا مثقف من دون قضية إنسانية يحملها على عاتقه ويدافع عنها.
في ذلك الوقت، لم تكن القضية سوى النضال ضد الرأسمالية، وكان الحزب الشيوعي يمثل اليسار الأوحد في العالم، ويتمتع بمصداقية جماهيرية كبيرة بعد انخراطه الكبير في حركة التحرر الوطني، ما حقق انتشاراً واسعاً بين المثقفين، حتى بات أغلبهم، يزعمون أنهم يساريون.
شكل انتساب المثقفين للحزب الشيوعي الفرنسي دلالات تتجاوز المواقف السياسية بحد ذاتها، أصبح يعني الانتساب إلى “عائلة فكرية” محددة، تُعنى بالحقيقة بصورتها الماركسية ـ اللينينية ـ الستالينية. كان كل من ينتقدها يعتبر محرفاً أو منشقاً، لم يكن من السهل انتقادها حتى بعد وفاة ستالين، وإن جرى التخفف من الستالينية عقب انكشاف جرائمه. اعتبر أنه كان المسؤول عن وفاة عشرين مليون شخص. وأصبحت الحقيقة: ماركسية لينينية فقط، لكن بعدما أصبح بالتدريج أكثر من ماركسية: تروتسكية، ماوية، كاستروية، أفريقية، عربية….
ما يعنينا هو الزمن الستاليني، عندما غدت الغالبية العظمى من الكتاب والرسامين والممثلين والمخرجين والمغنين والموسيقيين الفرنسيين…. يقترعون للحزب الشيوعي. وأصبح الشيوعيون يمثلون عالم الثقافة المناضلة الحقيقية، وما عداهم خارجه، فطرد البرجوازيون المحافظون من الجسم الثقافي الفرنسي، وباتوا أشبه بالمنبوذين، ومورس العزل على كل من تخول له نفسه التعرض بالنقد للاتحاد السوفييتي، ولو كانت الحقائق دامغة. كانت الحتمية التاريخية تعمل لصالح الشيوعيين الذين اعتبروا كل ما هو ضد الشيوعية يعاكس التاريخ، وكل من يقف في وجه قطار التحول الشيوعي، يتعرض للدهس تحت عجلاته، أي للتشهير به.
كال الأوفياء للحزب من المفكرين والأدباء الكبار المديح لستالين، فكتب بول إيلوار أشعاراً تمجد العظيم ستالين. وكان إيلوار من أشهر الشعراء الفرنسيين، وأحد مؤسسي الحركة السيريالية. كرس شعره للحب والثورة والحرب والسلام والحرية، حتى إن سلاح الجو الملكي البريطاني أسقط نسخاً من قصيدته “الحرية” فوق أوروبا كجزء من الدعاية المناهضة للنازية.
أما لويس أراغون الشاعر والروائي، فقد كان ما كتبه عن الحب يمثل القيم النبيلة للإنسانية، ومازال كتاباه “عيون إلزا” و “مجنون إلزا” من أجمل الشعر الصادح بالحب. في ذلك الوقت، بلغ إعجابه بستالين حد الطلب من الرسام بابلو بيكاسو، عند الإعلان عن موت ستالين عام 1953، أن يخلد “الرجل العظيم” بصورة يصار إلى نشرها في مجلة “الآداب الفرنسية”.
ظن البعض أن طلب أراغون، ربما كان عائداً لسرياليته، فقد كان واحداً من الذين تزعموا الحركة السريالية، ما جعلهم يتساءلون عن علاقة السريالية بستالين؟ واعتبر اقتراحه السريالي واحداً من أكثر المواقف غرائبية، أن يعجب السرياليون بستالين حتى بعد انزياح ظله عن روسيا والحركة الشيوعية في العالم! وكان من الطبيعي عندما رسم بيكاسو وجه ستالين تحت لقب “أب الشعب” أنها لم تعجب الرفاق الشيوعيين، فلم تنشر.
من فرط ما تغنى الشيوعيون بالحب، أصيب بأكبر الخسائر، كانت الموضوع الأثير للشعر، وإذا كان الحب مثل الحرية، لكنه لا يغني عنها، فلم يعبر إلى الحياة، بعدما افتقد إلى النظرة الواقعية للحرية، إن لم تنعكس على البشر، فسوف تلبث حبيسة اللغو بها، إذ لا حب بلا حرية.
أخفق الشعر في تلمس الحرية في نظام ستالين الحديدي. فالتشدق بالحب، خدعة في غيابها، كما تعامى الفكر والفلسفة عن الاستبداد، وبارك الحكم الشمولي، واعتبر ستالين يمثل قائد البروليتاريا الذي سيحقق دولة الرخاء، ويشق الطريق بسواعد من فولاذ نحو المستقبل العظيم، أمل البشرية وحلمها، دولة بلا استغلال، الجميع فيها سواسية.، لكن كل هذا لا يعني شيئاً من دون حرية.
هذه الخدعة أصابت كثيرين مثل سيمون دوبوفوار وأندريه جيد وروجيه غارودي وإدغار موران وغيرهم من الذين شاركوا خلال فترة من حياتهم في الدعاية لستالين، إلى أن صفعتهم حقائق التنكيل بالبشر، أحبطتهم وعذبتهم، وليس غريباً أنهم أعلنوا البراءة منها.
في زماننا، انحط اليسار وبات يدافع عن أي دكتاتور، لمجرد أنه يزعم النضال ضد أميركا من دون نضال ضدها، ولو كان الطاغية ينتقدها في العلن، وفي الخفاء يسترضيها بشتى الوسائل.
ليس هذا تأبينا لليسار، ولا تشنيعا عليه، كان اليسار أمل الشعوب، وربما كان أفضل ما اختاره المثقفون، وأكثر من تعرض أصحابه للملاحقة والسجون والموت، خاض انتصارات، ولم تهزمه الدكتاتوريات. وللأسف في منطقتنا العربية، كما في بعض بلدان العالم، من فرط ما تشوه، صار يمشي في ركابها، وربما في الدعوة إلى عودة اليسار ضرورة قصوى، فالعصر يحتاج إلى يسار ليس مناصرا للدكتاتوريات، بل عدوا لها.
تصيب الإيديولوجيات المغلقة الثقافة بالعمى، ما يمنع دعاتها من رؤية الدكتاتورية والضحايا والمحاكمات المفبركة والمنافي، والمجازر، والمقابر الجماعية، والإعدامات الميدانية، وعبادة الرئيس… لا يروا سوى إيديولوجيتهم المنتصرة فوق جثث الأعداء… لكن من هم الأعداء؟
هذا المرض طال الثقافة الفرنسية. فلا نزعم أن الثقافة حصانة، على الثقافة أن تؤمن بالإنسان، الإنسان حراً، عندئذ تكتشف الحقيقة. كل إيديولوجية لا تضع الإنسان والحرية في حسبانها، فلم تكون إلا إرهابا فكريا.
* كاتب وروائي سوري
المصدر: تلفزيون سورية
التعليقات مغلقة.