نادية هناوي *
{ تتوقف الباحثة العراقية عند عملية التطوير المنهجية في دراسة اللغة والأدب العربي التي بدأت مع طه حسين، وتتخذ من سفر الباحث العراقي الكبير جواد علي وتريثها حول مقولاته عن اللغة العربية وأصولها وفصاحتها وأهمية التأريخ لها دليلا على تلك النقلة المنهجية في البحث اللغوي والأدبي }
المرئيُّ في التّاريخ:
قد يبدو للوهلة الأولى أنَّ المرئيَّ في التاريخِ لا وجودَ له لأنّ ما وصلَ مكتوبًا في السّطورِ أو محفوظًا في الصّدور هو ملفوظاتُ أخبارٍ سمعها كاتبها أو شاهدها أو نقلها له أحدهم، ليقومَ بدوره بنقلها إلينا ألفاظًا منظومةً في عباراتٍ مركبةٍ داخل جملٍ ذاتِ سياقاتٍ، فيها وحدةُ موضوعٍ وفكرٍ. فكيف إذن نرى التاريخ مرئيًا وهو الذي وصل إلينا ملفوظًا؟ الأمر ببساطة يتوقفُ على منهجية الرؤية التي منها ينطلقُ الباحثُ، ناظرًا في نصوصِ التّاريخ ومتونهِ على اختلافِ موجهاتِ كتابتها وأساليب توثيقها وحفظها. فإذا افترضنا أنَّ الباحثَ ذو منظورٍ تقليدي؛ فلن يجد في نصوص التّاريخ غيرَ متون سُطِّرت من جمل في شكل ألفاظٍ وفقراتٍ، لا يطالُ تركيبها شكٌ لأنها موثوقة، ولا تفند ترابطها ريبٌ أو ظنونٌ لأنّها فوق ذلك كله.
أمّا إذا افترضنا أنَّ منظوره للتاريخ غير تقليدي، برؤى وتصوراتٍ منهجية غير اعتيادية؛ فإنَّ من المؤكد أنه سيتمكن من دراسة التّاريخ مرئيًا، فلا يغيبُ عنه مستور يقبع خلف السّطور، ولا يختفي عنه مسكوتٌ تدارى خلف الستورِ. والسببُ امتلاك هذا الباحث رؤيةً إدراكيةً تجعله لا يرى النّص التّاريخي المدوّن عبارةً عن ملفوظاتٍ نصيةٍ لها ترابط وتراص، متوفرة على متانة كتابية؛ بل هذا النّص في منظوره مفكك. وما عليه سوى أن يعيدَ تشكيل أواصره، بعد أن يدحض تعليلاته ويُهرئ مسلماته ويُخلخل ثوابته، مبتغيًا توصلاتٍ منطقية.
بهذا الوصف يكون المرئيّ في التّاريخ هو حصيلةٌ منهجيةٌ متحركةٌ، منشؤها مباصرة رؤيوية علمية، ومطلبها التفنيد الإخباري والحفر المعرفيّ لكل ما هو ثابت تاريخيًا، وأساسها إعادة إنتاج المنتجِ من خلال فحصهِ بعينٍ ثاقبةٍ تشكيكيةٍ. أمّا هدفُها فهو بلوغ الحقائق بمختلف الوسائل والإمكانات. وتتأتى هذه المنهجية من إيمان بقدرة الفلسفة على عقلنة التاريخ تشكيكا في معطياته الاخبارية، جنبا إلى جنب تحري المعطيات اللغوية والمعجمية والدلالية فيه. وهذه المنهجية لا تستقر في دراسة التاريخ الرسمي عند مواضعات بعينها؛ إلا لكي تغادرها إلى غيرها، لأنها لا تعرف التقولب على ثابت، كما لا تفوض الأمر إلى أي سابق.
وعلى الرغم من أنّ تبني هذه المنهجيةِ والمجازفةِ في توظيفها على نصوص التّاريخ العربي والاسلامي ليس بالأمر اليسير؛ إلا إننا وجدنا باحثين عربًا امتلكوا ناصية العلم، متمتعين بوازع بحثي غير متحجر وروح منفتحة، أتاحتْ لهم التأثر بالفلسفات التاريخية الغربية، بدءًا من طروحات مونتيسكيو وديكارت وهيغل وماركس ونيتشه، مرورًا بهيبوليت تين وسانت بيف ولانسون وجاك لوغوف وهيدغر وهوسرل وشلايرماخر وهابرماس، وصولًا إلى فلسفات ما بعد الحداثية لجاك دريدا وميشيل فوكو وبول ريكور وهايدن وايت وغيرهم وما لها من دور مهم في التفجير للراكد التاريخي والتثوير لما هو معتاد، بحثًا عما هو حقيقي وأصيل.
ولا خلاف أنَّ جرجي زيدان في كتابه (تاريخ آداب اللغة العربية) كان مؤرخًا متقدمًا في دراسة التاريخ الأسلامي، ثم تبعه مصطفى صادق الرافعي في كتابه (تاريخ آداب العرب)؛ بيد أنّ الدكتور طه حسين اختلف عنهما، لامتلاكه منهجية (المرئيّ في التّاريخ)، رافضًا الجدب المعرفي، متحصلًا في كتابه (في الأدب الجاهلي) على مباصرات تاريخية غير معتادة، شككتْ في الموثوق وحركتْ الساكن فيه، باعثةً الحياة في الماضي، جاعلةً النص التاريخي ممتدًا ومستمرًا، وهكذا وضع طه حسين نظريته في الانتحال، مسجلًا بذلك ريادة بحثية في دراسة تاريخ الأدب العربي. وقد انبرى العلماءُ والباحثون من بعد د. طه حسين يجددون في دراستهم للتاريخ، من خلال رؤيته رؤية نصية داخلية، باعتماد منهجية الوصف والملاحظة والتحليل. وواحدٌ من هؤلاءِ العلماء الذين كرّسوا حياتهم للدرس والبحث التاريخيين، متعاملين مع التّاريخ بوصفه مرئيًا، تأثرًا بمدارس الفلسفة الألمانية، هو العلامة العراقي الدكتور جواد علي صاحب كتاب (المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام )
وفي هذا الكتاب السفر يتتبع العلامة جواد علي مختلف القضايا التي لها صلة بالتّاريخِ الجاهلي ومصادرهِ وقبائل العرب وأنسابها وصلاتها مع الأمم المجاورة وشعائرها وحروبها وقصصها وأمثالها ولغاتها واللسان العربي والقرآن والشّعر والفصاحة واللهجات. وما كان للتّاريخ أنْ يكون بالنسبة للدكتور جواد علي مرئيًا لولا فلسفة تبناها، فأتتْ أٌكلها على شكل تاريخٍ مفصلٍ، مستندًا إلى فلسفة عقلية تشكك في التاريخ، لا بوصفه علمًا للحوليات، وإنما بوصفه نصوصًا لا يُحكم على صدق ما وصل إلينا منها مؤرشفًا ومسجلًا سوى ما تمَّ اخضاعه لمنهجية (المرئيّ في التّاريخ).
وما أغرى د. جواد علي في تاريخ العرب قبل الإسلام هو ما وجده في هذا التاريخ من مرئيات تاريخية على شاكلة تلك التي رآها قبله طه حسين، مقدمًا إضافاتٍ تاريخية عن العرب لم يسبقه في قسم مهم منها أيُّ مؤرخ عربي قبله، وسنخصص الحديث عن المرئي في التاريخ في موضوعة اللغة العربية ومنظور الدكتور جواد علي لها.
الدكتور جواد علي واللغة العربية:
إنّ النظر للتاريخ مرئيًا يعني كشف المستتر فيه وإظهار المسكوت عنه داخله، بمعنى التأشير على كل ما هو مخاتل وموارب ومتزلف في نصوص التاريخ. وواحدة من مرئيات التاريخ البشري عموما والعربي تحديدًا هي اللغة. وكثيرًا ما يتواتر في الدراسات اللغوية والانثربولوجية أنّ اللغة كائن اجتماعي يتطور بتطور البشرية ويتردى بتردي أحوالها وتأخرها وضعفها. وأكثر اللغات تغلغلًا في التاريخ هي تلك التي تمكنت شعوبها من الصمود بوجه الغزوات ومجابهة المخاطر والكوارث والازمات، محافظة على بقائها، ملقية وراء ظهرها اخفاقاتها غير ناظرة في خيباتها متجاوزة لها ومتعالية عليها.
وهذا حال أمة العرب التي ما عرفت الحياة الحاضرة إلا بعد أنْ تعلقت بالبادية وأنشدت إليها بعمق، فتحضرت في بداوتها، كما ظلت في حضريتها متبادية. وهذا الأمر أدى إلى تعدد لهجات لغتها كنتيجة طبيعية لتواشج البداوة والحضارة وانصهارهما بقوة داخل الذات العربية. ولا سبيل للحديث عن اللغة العربية من دون التطرق إلى التّاريخ وتفحص متونه وما حفظته من أخبار عن نشوء العربية والكيفية التي بها امتلكت فصاحتها، وتحددت حروفها، وتوضحت لهجاتها، والاصقاع التي ذاعت فيها متأثرة ومؤثرة في اللغات السامية، متفردة في حيازتها على البلاغة. الأمر الذي جعل هذه اللغة هي معجزة نبينا صلى الله عليه وسلم، وصار التحدي القرآني لعرب الجاهلية هو أنْ يأتوا بمثل بلاغة القرآن التي تتنزل في شكل سور وآيات.
وما أنفك الدكتور جواد علي يعالج قضايا اللغة العربية باحثًا عن المرئي في تاريخها، مفيدًا مما وصلت إليه الدراسات الشرقية للأدب العربي آنذاك. وقد انبنت رؤيته النقدية للغة على وفق منهج وصفي يرى أن النّص التّاريخي ليس ذلك الذي كُتب في الماضي فلا يقبل التحليل والوصف؛ بل العكس، وهذا ما يشرحه الدكتور جواد علي في مقدمة كتابه بالقول: “لا أنصِّب نفسي حاكما تكون وظيفته اصدار أحكام قاطعة وابداء آراء في حوادث تاريخية مضى زمن طويل عليها، بل اكتفي بوصف الحادث وتحليله .. والرأي عندي أنّ التاريخ تحليل ووصف لما وقع ويقع؛ وعلى المؤرخ أنْ يجهد نفسه كل الاجتهاد للاحاطة بالتفتيش عند ما ورد عنه، ومناقشته بتمحيص ونقد عميقين. ثم تدوين ما يتوصل إليه بجده واجتهاده تدوينًا صادقًا على نحو ما ظهر وما شعر به متجنبا ابداء الاحكام والاراء الشخصية القاطعة على قدر الاستطاعة”([1])
وتحريه للعلمية مكَّنه من أن يبتعد عن الانطباعية، محددًا المعطيات الوظيفية التي ينبغي أنْ ينتهجها المؤرخ وهو يوثق لواقعة أو شخصية، متجنبًا في عمله التسويف والتدليس والإخفاء. ولأن هذا الاحتمال الأخير وارد في نصوص تاريخ ما قبل الإسلام، تصدى الدكتور جواد علي بمنهجه الوصفي لهذا النوع من النصوص، كي يراها مرئية أمامه بصدقها أو عدمه. وجزءٌ مهمٌ من التمنهجِ بالوصفية بمعطياتها العلمية القائمة على المساءلة والمقارنة والمقابلة والتشكيك، تقويض ماضوية هذه النصوص متعاملًا معها من منظور حاضر لا يفرق بين ماض ذهب وحاضر ممتد ومستقبل آت. وقد اعتمد هذه المنهجية وهو بإزاء الاستنطاق التاريخي لحديثين نبويين، متمثلًا بالنص القرآني ومتحليا بالملاحظة والتعليل والاستقراء والتمحيص. وهو ما سنتناوله في المبحث الآتي.
الحديث الأول: «نزل القرآن على سبعة أحرف فاقرأوا ما تيسر منها»:
إنّ وقوف الدكتور جواد علي عند هذا الحديث كانت الغاية منه معرفة ما في اللغة العربية من لهجات، متسائلا كيف نزل القرآن على سبعة أحرف أحدها لهجة قريش؟ ولكي يتوثق من الصواب رجع إلى النص القرآني، واقفًا عند العدد سبعة، واجدًا أنّ له في اللغة دلالات قدسية متأتية من النظر له بوصفه عددًا سماويًا، فالأرض سبع طبقات والسموات سبع طباق، كما أنّ لهذا العدد دلالة منطقية في نظرية فيثاغورس التي لعب فيها دورًا مهما، وله في الشعر الجاهلي دلالة اعتبارية ولهذا كانت المعلقات سبعًا. ويجد الدكتور جواد علي رأيًا آخر في العدد سبعة يتمثل في أنّ له دلالة الكثرة في الآحاد، ناقلا عن بعض العلماء قوله: “إنّ العدد سبعة لا يمثل حقيقة العدد بل المراد التيسير والتسهيل والسعة، ولفظ السبعة يطلق على إيراد الكثرة في الآحاد.”([2] )
ثم ينتقل إلى القضية الأساس التي عليه إثبات أو عدم إثبات صحتها، بناءً على ما جاء في الأثر من أنّ لهجة قريش هي أفصح اللهجات السبع التي بُني عليها القرآن الكريم، ويقرر أنه غير مقتنع بما ورد في الأثر، كونه لا يتوافق مع ما جاء في القرآن الكريم نفسه، من نصوص تشير إلى عكس ما تقدم، لذلك يعود إلى بعض الآيات، فيقرر “والذي أراه أنّ نص القرآن يعارض حديث الأحرف السبعة، إذ نجد في القرآن «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ» و«قل ما يكون لي أن أبدله من تلقاء نفسي» فليس للرسول أنْ يغير أو يبدل ما نزل به الوحي عليه”([3]). هذا على مستوى الدليل النقليّ – ممن كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه – ولكن ماذا عن مستوى الدليل العقلي، بوصف العقل مصدرًا من مصادر التفسير الاسلامي؟!
إن المنهج الوصفي هو أصلًا منهج عقلي يعتمد الملاحظة ويقوم على التعليل والتحليل، ولهذا اعتمده الدكتور جواد علي في دراسة اللغة العربية الفصحى التي عرّفها بأنّها اللغة “التي ندون بها أفكارنا العربية الفصحى، وهي كما نعلم لغة الفكر والإدارة في العالم العربي.”([4]) وذهب إلى أن العرب تسمي الفصاحة بالعالية وعكسها المجهولة أو المتروكة، والعالية ما فوق أرض نجد إلى تهامة وإلى ما وراء مكة وما والاها، وقد عرفت العربية العالية بالمبنية، على أساس أن إسماعيل هو أول من فتق لسانه بها فأبان وأفصح، لكن الدكتور جواد علي لا يسلم بهذا الرأي بل يرى أن ذلك يعود إلى أن العربية نعتت في القرآن([5] ) “بلسان عربي مبين”.
أما علاقة فصاحة اللغة بلغة الأدب، فتتضح في تعدد اللهجات عند الجاهليين. وقبل أن يذكر آراء علماء العربية رجع إلى آراء العلماء الألمان مثل فولدكه بلينو ومارتن ولمبرك وفيشر وبروكلمان وبرجيه وبلاشر مفيدا من تراكمات مرجعياته الالمانية في دراسة التاريخ، ثم أورد رأي علماء العربية مثل الفارابي وابن خلدون([6]). وخلاصة هذا الرأي أنّ لغة قريش هي الأصل لأن أصل العربية هو إسماعيل عليه السلام، وكان مسكنه مكة، بمعنى أن إسماعيل هو أول من تكلم بالعربية، وأن قريش أفصح العرب لسانا، وبسبب ذلك اختير محمد صلى الله عليه وسلم للنبوة. أمّا رأي بعض مؤرخي الأدب المحدثين – مثل مصطفى صادق الرافعي – فإنه لا يختلف عن رأي القدماء مؤيدًا “أن الأصل فيمن نزل القرآن بلغتهم قريش”([7])، وأن أقوال علماء اللغة في أمر اللغة وتهذيبها تجمع على أن إسماعيل عليه السلام أصل العربية المضرية([8]).
لكن هناك رأيا مختلفًا عن اللغة العربية يتمثل في ما طرحه الدكتور طه حسين في كتابه (في الأدب الجاهلي) معتبرًا أنّ من التحذلق والتكلف أن يُجمع العرب كافة على أن لغة القرآن هي لغة قريش، وسبب التشكيك أن سيادة اللغات انما تتصل بالسيادة السياسية والاقتصادية. وقد أُعجب د. جواد علي بهذا الرأي بيد أنه لم يسلم به مفترضًا احتمالين:
الاول: أننا لو أخذنا بحجة السلطة السياسية، لكانت العراق وبلاد الشام الوطن الذي ينعت فيه العربية، ويضيف: “الحق إننا لا نستطيع أن نفكر في هذه السيادة الفارسية في الحيرة، أو في هذه السياسة الرومية في أطراف الشام، فلقد كانت هناك أسر عربية تمثل هذه السيادة، وكانت لهذه الأسر ضروب من السلطان؛ ولكننا نظن أنَّ أحدًا لا يفكر في أن يقول إن هذه العربية الفصحى كانت لغة هؤلاء الناس من اليهود أو من الأوس والخزرج.”([9])
الثاني: إذا كانت للقبائل الشمالية كالحيرة والحضر تجارتها؛ فإن لليمن تجارتها أيضا، لكن ليس لها مكانة دينية كالتي لمكة، ومع ذلك فإن مسألة حج التبابعة لمكة ليست هي السبب في شيوع لهجة قريش. ويؤكد الدكتور جواد علي أن ما ورد في الشعر الجاهلي في مدح البيت، ولد بسبب العصبية القحطانية العدنانية([10]). ولكي يدحض حجة السيادة السياسية والاقتصادية التي بها صارت اللغة العربية الفصحى هي عربية قريش، يأتي الباحث بوجهة نظر تنطلق من رأي مفاده أن السيادة كانت عسكرية، فالقبائل العربية كانت تتعرض لهجوم الفرس والروم والحبش، فضلا عن أن الديانتين المسيحية واليهودية كانتا تنازعان العرب على دينها الوثني.
ومن هنا” تجمعت قوتها حول مكة وهوت أفئدتها إليها وبذلك كله تهيأ للهجة القرشية أن يعلو سلطانها في الجاهلية.”([11]) ودليله وجود أسواق مثل سوق عكاظ، كما أن وفود اليمن حين كانت تفد على رسول الله لم تكن تجد صعوبة في التفاهم معه كما نقل رواة الأخبار والسيرة النبوية. ولا نجد ذلك غريبا فالرسول صلى الله عليه وسلم هو أفصح العرب، وطبيعي أن يتفاهم مع مختلف الاقوام. ولأن مسألة عد العربية هي لسان قريش ما زالت غير محسومة في نظر الدكتور علي، تساءل: أن لو نزل القرآن بلسانهم، وكان لسانهم هو خير الالسنة وأفصحها، لما سكت القرآن عن ذلك، لأن في النص عليه اهمية بالنسبة الى العرب. ثم كيف يشيد القرآن الكريم بلسان قريش، وهم الذين كابروا وناهضوا الرسول ؟! اذن يكون التمسك بالنص القرآني الذي هو خال من أي إشارة ولو بآية واحدة، إلى أن القران نزل بلسان قريش هو الفيصل في هذه القضية.
ويستند الدكتور جواد علي أيضا إلى ما وجده عند بعض العلماء الذين ذكروا أن في القرآن لغات أخرى، ليست من لغة قريش، وأن فيه ألفاظا بلغة تميم([12])، علما أن العربية نفسها ليست عربية واحدة، فهناك ألسنة عربية أخرى، والعربية والعبرية والسريانية هي من أصل واحد سام. وإذا كان لا وجود لنص قرآني يثبت دعوى أن فصاحة قريش هي فصاحة العربية؛ فإن مسألة الحسم ممكنة، من زاوية أن الحديث أعلاه وضع تحت تأثير من العصبية السياسية التي ظهرت أيام الرسول فيما بين الانصار والمهاجرين([13]).
ويبدو أن تزلف بعض أصحاب السير والتواريخ لسلطة بني أمية التي كانت تمثل المركز اثناء مرحلة التدوين، جعلهم يكتبون نصوص التاريخ إرضاء لسلطتهم، وتوقا لتلبية مصالحها التي فيها تثبيت حكمها، وإعلاء شأنها، مقابل حصولهم على المكاسب والحظوة. ومما سمح لهم بذلك ما ذكره د. علي من أن روايتهم للاخبار كانت تأتي بصور مختلفة. وفي اختلافهم هذا دلالة على أنهم لم ينقلوها من أصل مكتوب؛ وإنما أخذوا النص بطريقة المعنى، فوقع هذا الاختلاف، اضف إلى ذلك التزوير، فقد نص المؤرخون وأرباب السير على أن بعض اهل الكتاب وسادات القبائل والرجال قدموا للخلفاء كتبا مزورة، فيها إقرار قرار واحقاق حق للمطالبة بتنفيذ ما جاء فيها وفي حديث (من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار) دلالة على وقوع الكذب على الرسول في حياته، وبعد وفاته([14]).
واحتج د. جواد علي بافتراض أن لو كان القرآن قد نزل بلسان قريش لكان ذلك حجة للخصوم عليهم، وإفحاما للمشركين واحراجا لهم، واعجازا في أن يأتي أبلغهم بأية مثل آياته. وهذا ما يجعل المسألة محسومة أصلا. فالقرآن لم يذكر أنه نزل بلسان قريش، واصفا هذا اللسان بأنه الأفصح بين الفصحاء، والابلغ بين البلغاء، بل خاطب القرآن قريشا والعرب فقال «بلسان عربي مبين» ولم يقل بلسان قريش وكذلك قوله «وان كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا، فأتوا بسورة من مثله».([15]) ويعقب د. جواد علي على هذين النصين القرآنيين بأن هذا أحسن دليل وأبلغ جواب على من يسأل إن كان لسان قريش هو أكمل لسان عربي.
ويعود من جديد ليناقش مسألة السيادة العسكرية لقريش، نافيا أن يكون لقريش قوة عسكرية لأنهم كانوا ضعفاء غير محاربين، شأن كل الحضر بالنسبة إلى الاعراب، كما عمدوا بسبب ضعفهم إلى رشوة سادات القبائل بالهدايا والمال .. فهل يقال بعد كل هذا أنه قد اجتمع لقريش سلطان، صار لهم في مجمله عوامل سيادة لغوية في جزيرة العرب قبيل الاسلام؟([16]) ويضيف أن لو كان ذلك اللسان لسان الأدب الرفيع عندهم لما سكتوا من تسميته بلسان قريش أبدا([17]).
الحديث الثاني: «أنا أفصح العرب بيد إني من قريش»:
أراد الدكتور جواد علي من تناوله لهذا الحديث توكيد أن اللغة العربية هي عربية العرب جميعا أنصارا ومهاجرين، بوادي وقرى، وما نقل إلينا من أن وفود العرب كانت تقدم إلى مكة وتتحاكم إلى قريش، هو خبر آحاد له رواية واحدة، اكتسبت الإجماع، هي هذا الحديث «أنا أفصح العرب بيد إني من قريش»([18]). فالحديث أو القول لا يتضمن تخصيصا لقريش بالفصاحة، وأن لسانها أفصح الألسنة، فضلا عن أن رواية القول أحادية، لذلك لا تكون حجة في تفضيل لسان قريش على الألسنة الأخرى.
ولأجل اختبار صحة الحديث يقف د. جواد علي عند ثلاث مسائل، أولها هل أن فصاحة قريش هي فصاحة الرسول، ويجد في لفظة (بيد إنّي) التي فسّرها بعضهم بأنها تعني جعل الفصاحة للرسول ولقومه، أنها تشير بوضوح إلى أن الحديث خاص بفصاحة الرسول، ومما يؤكد هذا الطرح، ما أضافه الاخباريون إلى هذا التفسير من خبر عن عمر بن الخطاب أنه قال للرسول صلى الله عليه وسلم يومًا: “يا رسول الله مالك أفصحنا، ولم تخرج من ظهورنا.” ولو كان لسان قريش أفصح الألسنة لما قال عمر للرسول قوله المذكور، الذي يدل على أن الفصاحة في خارج قريش، وعند الأعراب. وخلاصة ما يريد جواد علي بلوغه هو أن العرب كانت على سجيتها ولسانها في كلامها، وأنها لم تكن تنطق بلسان قريش بل بألسنتها.([19])
والمسألة الثانية التي تستوقف د. جواد علي هي دور عكاظ في تهذيب اللغة، وأثر قريش في ذلك. وهو ما كان قد شاع نقله إلينا من بطون التاريخ الاسلامي، فيخضع المسألة للمنطق، وينتهي إلى أن الاسواق في ما قبل الاسلام وإن كانت تقام في مكة لكنها لم تؤثر في جعل لسان قريش هو الأفصح، وتحليله للأمر كالآتي:
1) أن قريش كغيرهم من قصّاد هذا المكان كانوا يجيئون إليه للبيع والشراء والاتجار، ثم “أن هذه السوق لم تظهر إلا في أيام الرسول، وقبل خمس عشرة سنة من الإسلام.”([20])
2) خبر محاكمة حسان والنابغة والأعشى والخنساء في سوق عكاظ.
3) أن ما قيل عن القصائد السبع وأنها علقت على جدران الكعبة مجرد قصة وضعت لتبرير القصص الذي نسجوه عن أسطورة تعليق المعلقات كما لا يوجد في كتب التاريخ والأخبار من يؤيد هذه القصة([21]).
والمسألة الثالثة التي ناقشها الدكتور جواد علي حول الحديث «أنا أفصح العرب بيد إني من قريش» أنَّ ما ذهب إليه علماء النحو في عدم جواز الاحتجاج بالشعر على غريب القرآن، بينما شمل الاستشهاد بالشعر الجاهلي في تفسير ما أشكل على العلماء تعليله من أوجه اللغة العربية وقواعد نحوها. وفي هذا المشكل في عدم الجواز دليل على أن كتاب الله نزل بلسان عربي مبين ولم ينزل بلسان قريش.
إجمالًا؛ فإنّ التحصيل التاريخي الذي يخرج به الدكتور جواد علي يبدو مرئيا للعيان بلا أدنى مواربة. فالحديثان أو بالأحرى القولان اللذان يعتد بهما في باب إثبات الفصاحة في العربية للهجة قريش، لم تثبت صحة تفسيرهما، لعدم ثبوت صحتهما نقليًا من القرآن الكريم، وعقليًا بالمنطق الذي تدعمه التحليلات العلمية التي أساسها الاستقراء والتمحيص عبر إعادة النظر، وتقليب المسألة على مختلف المستويات.
ما أضافهُ القرآنُ الكريم لفصاحة العربية:
وجد د. جواد علي أنَّ القرآن هو الذي أضاف للعرب فصاحة أكثر، قائلًا: “وأنا لا أبتعد عن الصواب إذا ما قلت أن القرآن قد ساعد في جمع الشعر الجاهلي، وفي حفظه بسبب اضطرار العلم على الاستعانة به في دراسة كتاب الله، وفهمه وتثبيت قواعد اللغة”. إنّ ما تركه القرآن من أثر على لغة العرب كبير، فلقد أسهمت لغة القران الكريم في ضبط العربية، التي وصفها باللسان العربي الذي هو لسان كل العرب، لا لسان بعض منهم، “ولو كان هذا اللسان هو لسان قريش لنزل عليه في كتاب الله”([22]).
بيد أن ذلك لا يعني أن القرآن هو وحده الذي أثر في اللغة العربية، فهناك تأثير اللغات المجاورة الأخرى، وهذا التأثير قد يكون سلبيا على العربية، فالاتصال والاختلاط بالأعاجم يولد الفساد، وهنا يتصدى الدكتور جواد علي لتوجيه هذه المسألة لصالح استنتاجه السابق فيعود مجددًا إلى قريش، ويناقش حقيقة أنّهم هم الذين كانوا قبل غيرهم من العرب أكثر تواصلًا مع الأمم المجاورة، من روم وفرس وأحباش، نظرا لما كان لهم في الجاهلية من صلات تجارية ببلاد الشام واليمن والعراق والحبشة، ولوجود جاليات أعجمية، ومن ثم يتساءل متهكمًا “فهل يمكن أن يكون لسان قريش إذن هو أصفى ألسنة العرب وأنقاها مع وجود هذه الأمور التي أخذناها من السنة أهل الأخبار؟!([23])
وقد وجد الدكتور جواد علي في التأثر والاختلاط فريقين: فريق محافظ وآخر أكثر محافظة وقد آخذهما كليهما. فأما الفريق الأول فانكر التأثر ورأى اللغة العربية لغة نقية صافية، لم تتأثر بغيرها من اللغات، ولم يدخل إليها لفظ أجنبي “وهم في منطقهم هذا محافظون متزمتون، لا يعترفون بنظرية الأخذ والعطاء في اللغات. فإذا قلت لهم أن اللفظة الفلانية لفظة معربة، وأصلها اعجمي، أجابوك ولكنها وردت في القرآن الكريم ووردت في شعر فلان وفلان من الشعراء الجاهليين”([24]). وأما الفريق الثاني فغالى وأفرط مرجعا ألفاظا عربية في الجاهلية الى أصول أعجمية. ويتخذ موقفا وسطًا يرى فيه أنّ من واجب الباحث التريث وسلامة السبل التي يسير عليها للوصول إلى قرار، واجدًا أن “من قال إنها عربية فهو صادق ومن قال أعجمية صادق. فالخلاف اذن خلاف عقائدي لا صلة له باللغة، وبوقوع المعرب او عدم وقوعه في العربية.”([25])
وأن من العلماء القدماء من صنفوا كتبا في المعجمات والتفاسير كالجواليقي (المعرب من الكلام الاعجمي) ولم ينتقده مع ذلك علماء يومه، وكذلك الجاحظ، والطبري مرجعين أصول المعربات في القرآن الى لغات كانت شائعة آنذاك ومعروفة للعرب. ويتساءل الدكتور جواد علي محاججا الذين يقولون بعدم وقوع المعرب في كلام العرب، هل أن العرب كانوا بمعزل عن العالم وانقطاع عن الناس، ولهذا لم يتأثروا بغيرهم ولم يؤثروا في غيرهم؟! ومما يرشده إليه المرئي في التاريخ أن ذلك التصور بالانعزال وعدم التأثر وهمي لا أساس له من الصحة، والسبب:
1) أن في سواحل جزيرة العرب قبل الإسلام كانت هناك مستوطنات يونانية. والتجارة كانت تتعاطى من سواحل البحر الاحمر وسواحل البحر العربي والخليج العربي وأن بلاد العرب كانت تجلب كثيرا من الرقيق كل عام، كما كانت مدراشات اليهود في يثرب، وفي المستوطنات اليهودية الأخرى، تلقن اليهود أحكام دينهم؟ وقد شاهدها الرسول بعد هجرته الى المدينة.([26] )
2) أن الحاجة هي التي تحمل الناس على الأخذ والعطاء، فكانت المعربات الفارسية والسريانية هي الأكثر نسبة في لهجات عرب العراق وبلاد الشام.
3) أن التبشير المسيحي أدخل ألفاظا يونانية إلى اللغة العربية، وذكر د. جواد علي للمستشرق فرنكل مبحثا في الدخيل من السريانية إلى العربية مشيرا الى أن لأباء الكنيسة الشرقيين بحوثا في الالفاظ السريانية الداخلة في العربية ويذكر بحثا لرفائيل نخلة اليسوعي وعنوانه (غرائب اللغة العربية)
ويتوصل د. جواد علي إلى أن وجود المعربات في العربية الحجازية يدل على أن العرب تأثروا بالحضارات الشمالية، أكثر من تأثرهم بأحوال العرب الجنوبيين، مقدما قائمة طويلة من الالفاظ الداخلة الى العربية، ومن هذه الالفاظ (قمقم) و(الدرهم) و(المثقال) و(القيراط) وهي يونانية و(الاشائب) و(دهقان ودهاقين) وهي ألفاظ فارسية وعن اللاتينية ألفاظ (قسطار) وتعني ناقد الدراهم أي الناقد الماهر العارف بالنقد وأن الفاظ (دينار) و(السجنجل) التي تعني المرآة و(الصاقور) أي الفاس لاتينية وأن كلمة التلاميذ تعني غلمان وهي فارسية. ويوصله هذا الاهتمام في تعريب الألفاظ المتعلقة بالنقود في الأخذ عن اليونانية، إلى أن أهل الحجاز استعملوا النقد البيزنطي في أسواقهم، موردا من شعر الاعشى معربات عديدة مقتبسة في شعره من الفارسية”([27])، كما وجد في شعر ابن أبي الصلت معربات من أصل سرياني([28]).
لسان من هو هذا اللسان العربي؟
بعد أن فرغ الدكتور جواد علي من تفنيد الرأي القائل بأن فصاحة قريش هي فصاحة العربية، وجه سؤالا مهما في الفصل الأربعين بعد المئة من كتابه (المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام)، وهو هل اللسان العربي هو لسان العدنانيين حسب؟ وأجاب بالنفي، والسبب أن الترجيح محتمل بأن تكون لغة مضر هي التي منها ظهر اللسان العربي الفصيح، وأن من لغة مضر ظهرت العربيتان: العربية الجنوبية والعربية الشمالية التي يسميها (عربية ال) لأن أداة التعريف تنفرد بها المجموعات اللغوية العربية عن مجموعة (ن) العربية الجنوبية والنون فيها أداة تعريف ومجموعة (ها) والهاء أداة تعريف أي بها تعرّف الأشياء وهي اللحيانية والثمودية والصفوية، كما أن لعرب النبط أداة تعريف غير ال التعريف هي الألف الممدود اللاحق بآخر الاسم بسبب اختلاطهم وتأثرهم بالآراميين.
وبحسب الدكتور جواد علي فإن “كل من استعمل ال أداة تعريف هو في نظري من الناطقين بهذه اللغة، مهما كان نسبه وفي أي مكان اقامته. ولذلك فالعربية الفصحى هي عربية مضرية ربيعة وعربية اياد وعربية انمار وعربية كلب وكندة والازد”.([29])
اذن العربية المعنية هنا هي عربية (أل) بلهجاتها وخصائصها التي قسّمها المستشرقون إلى لهجات شمالية وجنوبية، والعرب ترجع هذه العربية إلى أصلين عدناني وقحطاني ويعد أهل الشام والعراق والحجاز من المتكلمين بهذه العربية غلب الإسلام هذه العربية على اللهجات الأخرى، حتى “نجد أن العرب كانوا يتكلمون على مقتضى سجيتهم التي فطروا عليها ومع ذلك فقد كانوا يتفاهمون ويدركون المعاني”([30]). بيد أن الدكتور جواد علي أتخذ تقسيما آخر بناء على ما تم اكتشافه من كتابات، فوجد أن أهل الجاهلية “كان لكل قوم منهم لسان يعتزون به ويتعصبون له يرون أنه لسانهم العزيز.”([31] ) وعلى الرغم من أنه لا ينكر الدور الذي قام به علماء البصرة والكوفة، إلا أنه يؤكد أن من الواجب على المسلمين تثبيت قواعد اللسان العربي ودراسته، لفهم كتاب الله المنزل به خدمة لدين الله الذي شرف هذا اللسان باتخاذه لسانا له.([32]) لكن هل يمكننا أن نضيف إلى ما كان علماء البصرة والكوفة قد قدموه في هذا الباب؟
لقد وجد الدكتور جواد علي أن ذلك ممكن من خلال توصيات تخدم دراسة اللغة العربية، كان قد قاده اليها المرئي في التاريخ. ومما أوصى به قبل أكثر من ستة عقود، ما يأتي:
- ضرورة إرسال بعثات علمية إلى المنطقة الجنوبية من الجزيرة العربية لغرض دراسة اللهجات المحلية، وأهمية أن نفكر في معيار منطقي لفصاحة اللسان العربي غير ذلك الذي اعتمده علماء العربية وهو معيار كثرة استعمال العرب للكلمة([33])، لأن المتداول لا يعني أنه الصحيح.
- أننا بحاجة ماسة الى وجوب تسجيل كل ما أورده علماء اللغة عن لغات العرب لهجاتها فصيحة كانت تلك اللغة أو رديئة، كي نتعرف بذلك على أصول هذه القبائل والأماكن التي جاءت منها([34]).
- امكانية التتبع للألفاظ الجاهلية التي اندثرت وماتت والألفاظ الاسلامية التي ولدت وشاعت، فبسيادة العربية الشمالية ماتت الاسماء الجاهلية امروء القيس ومعدي كرب وحلت محلها اسماء اسلامية.
- وجوب القيام بمسح لغوي جغرافي للغات جزيرة العرب ولقبائل العراق وبلاد الشام لمعرفة ما تبقى عندها من أثر لهجاتها القديمة.
- أنَّ المسح العام لكلام العربية الذي تنطق به الآن، ولشعرها الذي تنظمه في الوقت الحاضر، وللاسماء الغريبة التي تسمى بها، سيعين الباحثين كثيرا في الوقوف على “أسرار اللهجات العربية قبل الاسلام”[35].
- لا ضير في الأخذ والعطاء والوضع في اللغة وهو من دلائل حيوية اللغة، ويسمي ما أخذته العربية عن الفارسية والتركية والرومية بـ(التطعيم).
وهذه التوصيات تدلل على أفق ثقافي منفتح لا يرى في الأخذ منقصة، بل يراه ضروريا لإدامة اللغة، كي تبقى حية غير متحجرة. ولو عُمل بهذه التوصيات منذ الزمن الذي طرحها فيه د. جواد علي، لكان لدينا معاجم كبيرة ومهمة عن اللغة العربية وألفاظها القديمة المهجورة والجديدة المولودة والمتداولة ولا غرو أن معرفة تاريخ اللغة، يعني معرفة حاضرها، والتيقظ لمستقبلها. ولا اعتقد أن توصياته أخذت بنظر الاعتبار على صعيد مؤسسات بحثية ولغوية ولا على صعيد العمل التاريخي الجماعي والفردي فظلت مطمورة في ثنايا الكتاب مركونة أدراج الرفوف ومهمولة في مخازن المكتبة العربية، تنتظر يد مؤسسات كبرى علمية كالجامعات والمجامع اللغة والمؤسسات البحثية، لتحول تلك التوصيات النائمة منذ أكثر من ستة عقود إلى مشروع لغوي حي هو ميدان عمل وبرنامج بحث ومنهج دراسة. ينقب فيه المنقبون ويحفر الحافرون لعلهم يعثرون على مرئيات في تاريخ اللغة العربية، كانت تبعات الجهل وتراكمات الطمر قد حالت دون أن يراها السابقون، والأمل في مثل هذا الافتراض ممكن، ما دامت المعرفة ترمي إلى عدم الثبات عند حد علمي معين، نافضة عنها التراكم الذي يعيق البحث وقد يوصل إلى التحجر.
هوامش البحث ومصادره:
[1] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، نسخة PDF ، ص2.
[2] المصدر السابق، ص1968
[3] المصدر السابق، ص1991
[4] المصدر نفسه.
[5] المصدر السابق، ص1992
[6] وسيكون هذا الرأي هو مدار البحث التاريخي الوصفي الذي سيخصص الدكتور جواد علي له مساحة ليست بالقليلة وهو يناقش صحته ومديات الشك فيه.
[7] تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي، الجزء الثاني، دار الكتب العلمية، لبنان، ط1، 2000، ص51.
[8] ينظر: تاريخ آداب العرب، مصطفى صادق الرافعي، الجزء الاول ، راجعه وضبطه عبد الله المنشاوي ومهدي البحقيري، مكتبة الايمان، ص73.
[9] المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام، ص1995
[10] المصدر السابق، ص 2003
[11] المصدر السابق، ص 1996
[12] المصدر السابق، ص1998
[13] ينظر: المصدر نفسه.
[14] ينظر: المصدر السابق، ص 2043
[15]المصدر السابق، ص 1998
[16] المصدر السابق، ص 1999
[17] ينظر: المصدر السابق، ص 2000
[18] ينظر: المصدر نفسه.
[19] ينظر: المصدر السابق، ص 2005 ـ 2006
[20]المصدر السابق، ص 2007
[21]المصدر نفسه.
[22]المصدر السابق، ص 2010
[23]المصدر السابق، ص 2011
[24]المصدر السابق، ص 2021
[25]المصدر السابق، ص 2022
[26]المصدر السابق، ص 2024
[27]المصدر السابق، ص 2033
[28]المصدر السابق، ص 2034
[29]المصدر السابق، ص 2012
[30]المصدر السابق، ص 2017
[31]المصدر نفسه.
[32]المصدر السابق، ص 2018
[33] ينظر: المصدر السابق، ص 2017
[34] ينظر: المصدر السابق، ص 2019
[35] المصدر السابق، ص 2020
—————————
* كاتبة وباحثة عراقية
المصدر: مجلة الكلمة
التعليقات مغلقة.