عبد الحميد صيام *
قطار التطبيع قد لا يتوقف في عهد الرئيس القادم بايدن، فبعد المرور في أربع محطات خلال عام 2020 والتقاط أربعة أنظمة عربية انطلاقا من أبو ظبي مرورا بالمنامة فالخرطوم وصولا إلى الرباط، قد يتأنى القطار قليلا، لكنه سيحاول متابعة المسير. فهناك دولة عربية تعمل وكيلا حصريا للكيان، ستتابع عملية الدفع بالقطار للمرور في أكثر من عاصمة لالتقاط مزيد من المطبعين نكاد نعرفهم جميعا.
باشرت القوى الجماهيرية في كل أنحاء الوطن العربي الكبير، بالتصدي للتطبيع وتفنيد مبرراته، واتهام الأنظمة التي انجرت إلى مستنقع العلاقات مع الكيان الصهيوني، في ما سمي اتفاقيات التطبيع، أو التتبيع، على رأي زميلنا إلياس خوري، بالانحراف، واعتبرت الاتفاقيات صنوا للخيانة العظمى، وطعنا للقضية الفلسطينية في الظهر، والتخلي عن الالتزامات القومية، التي أقرت عبر المؤتمرات العربية المتعاقبة، التي انتهت باتفاق جماعي في قمة بيروت عام 2002. ورغم أن ذلك القرار لا يلبي الحد الأدنى من الطموحات الفلسطينية، إلا أنه اعتبر أن التطبيع لا يأتي إلا بعد قيام الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة وعاصمتها القدس، وبعد حل عادل لقضية اللاجئين الفلسطينيين في إطار حق العودة حسب القرار 194 (1948). وهذه القرارات كانت قد اعتمدت في الأمم المتحدة، عبر العديد من القرارات الصادرة عن مجلس الأمن والجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية، وغيرها من الأجهزة الدولية.
لذلك فعندما ننتقد المطبعين، ونصرخ في وجوههم، ونرد على حججهم العرجاء، ومبرراتهم الواهية، فإننا نستند إلى القرارات التي اعتمدت عربيا ودوليا. نحن ننطلق من أرضية صلبة تستند إلى القانون الدولي، والقواعد المتفق عليها عالميا، مثل «عدم جواز الاستيلاء على أرض الغير بالقوة» أو معاملة المدنيين تحت الاحتلال، حسب القواعد المعتمدة في اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، أو احترام حقوق الإنسان في فلسطين، انطلاقا من القانون الدولي الإنساني المستند إلى رزمة من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية وقواعد السلوك الإنسانية. ومن أهم هذه الحقوق المتعارف عليها حق تقرير المصير، وحق مقاومة الاحتلال، وحق اللاجئين في العودة إلى ديارهم وأراضيهم.
إطلاق حملات التشهير:
لقد أعد المطبعون أنفسهم سلفاً لمواجهة عاصفة الانتقادات الحادة، التي كانوا يعرفون أنهم سيتعرضون لها، فتم تجنيد جيوش من الموظفين، الذين يتقاضون أجوراً لمتابعة كل ما يكتب حول السياسات الجديدة، التي اتبعتها هذه الدول. وبمجرد أن ينشر شخص ما تعليقاً ناقداً للتطبيع، أو مقالاً، أو صورة، أو رسماً كاريكتيرياً، أو المشاركة في حديث تلفزيوني، تنطلق موجات الهجوم الكاسح من كل حدب وصوب، تحت أسماء في غالبيتها الساحقة مستعارة، خاصة على صفحة تويتر وفيسبوك.
وأستطيع أن ألخص معظم هذه التغريدات والتعليقات حول مسائل التطبيع، التي تعرضت لها أنا وزملاء وكتاب ومعلقون وصحافيون مرموقون:
– يركز الذباب على تكرار كذبة أن الفلسطينيين باعوا أرضهم، ويريدون من العرب أن يحرروا أرضهم. ويكررون أن الفلسطينيين يعضون اليد التي تمتد لمساعدتهم. لقد ذهب البعض لينفي صفة الشعب عن الفلسطينيين.
– الفلسطينيون أول من طبع، ولا يحق لهم أن ينتقدوا المطبعين. ونلاحظ هنا أن النقد ليس للقيادة الفلسطينية، التي ننتقدها بدورنا، وبشكل أكثر حدة، بل يتم التعميم المقصود ليشمل كل الفلسطينيين.
– اتهام الكاتب /الكاتبة بالعمالة مرة لقطر، وأخرى لتركيا، وثالثة للإخوان المسلمين ورابعة للجزائر، وخامسة للبوليساريو، وسادسة للقوى الغربية أو روسيا. البعض يفضل تهمة تلقي الرشاوى بدل العمالة.
– مديح الكيان الصهيوني والإطراء على استهدافه للفلسطينيين، بل ويذهب البعض إلى مباركته لقمع الفلسطينيين المعتدين.
– التأكيد على أن القضية الفلسطينية لا تعنيهم، وأن ما يهم الذباب قضاياهم المحلية ودعم قياداتهم الرشيدة، والوقوف ضد من يحاول أن ينال من تلك القيادات المطبعة.
– استخدام لغة التهديد والوعيد، وقد ذهب الأمر بأحد الأسماء المستعارة، التي تدعي أنها مغربية، وأنا أشك كثيرا في ذلك، أن هددت الكاتب بالاغتصاب، وإذا كان الكاتب أو المغرد سيدة فيتوجه الذباب للتنمر عليها في هجوم على الجسد والممارسات المتعلقة بالعلاقات غير الشرعية، والقدح في الأخلاق، وتزوير الصور جزافا. وهذه التهم التي يعاقب عليها القانون، قد تمرّ بدون مراقبة من شركة تويتر أو فيسبوك. ولكن لو كتب واحد كلمة حول الصهاينة وممارساتهم العنصرية، والدعوة لمقاطعتهم يتم حذف التغريدة، أو تجميد الحساب تحت حجة معاداة السامية. لقد اضطرت الصحافية الشهيرة غادة عويس، لأن تقدم شكوى رسمية في محكمة في جنوب فلوريدا ضد المسؤولين الرئيسيين عن حملة الذباب الهادف إلى اغتيال الشخصية، بعد أن عجزوا عن إسكاتها عن الانتصار لفلسطين، وقول الحقيقة بكل شجاعة. وقد كتبت على صفحتها «لقد حان الوقت ليظهر لهم العالم ولجميع القادة المستبدين، أنهم ليسوا محصنين، ولا أحد فوق القانون الدولي. إن هذه القضية ليست مجرد معركة بالنسبة لي، بل إنها قضية من أجل كل من لا يستطيع التحدث ضد الظلم».
ستبقى فلسطين البوصلة:
وتعليقا على هذا الأسلوب الرخيص في محاولة ترهيب الكتاب والمعلقين والمفكرين الأحرار، والمغردين الذين يعبرون عن ضمائرهم، نود أن نؤكد بعض الحقائق:
– ستظل فلسطين هي البوصلة من يتخلى عنها ويطعنها في الظهر لن يلقى منا إلا كل ازدراء. لن نتراجع عن قول الحقيقة، والدفاع عن الحق، والانتصار للعدل والدخول في معركة ضد الظلم والخيانة والانحراف عن دعم قضية الحق والعدل في فلسطين؛
– إننا لا ننتقد الشعوب العربية، بل نجلها ونحترم مواقفها الأصيلة، نحن منها وهي منا. انتقاداتنا حصريا للأنظمة المطبعة، ولا نستثني في ذلك أحدا بمن فيهم القيادة الفلسطينية، التي قلنا فيها ما لم يقله مالك في الخمر، منذ اتفاقية أوسلو إلى آخر تصريح أطلقه حسين الشيخ، للعودة إلى التنسيق الأمني. سنظل نجلد الأنظمة التي تطبع علاقاتها مع الكيان وتتبادل معه الزيارات والوفود والرحلات الجوية، وسننتقد كذلك كل المدافعين عن التطبيع، والمداحين للكيان الصهيوني الباغي الظالم العنصري، بدون خوف أو تردد.
– إن التهديدات والتهم التي تطلقها جماعات الذباب، لن تغير في الأمر شيئا. الهدف هو تكميم الأفواه والترهيب والسكوت عن الخيانة، وهذا لن يحدث فـ«الرأي قبل شجاعة الشجعان – هو أول وهي المحل الثاني».
– وكما أننا ندافع عن حقنا في حرية التعبير والرأي والكتابة، ندافع عن حق الآخرين في التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم بطريقة حضارية سليمة، بعيدة عن التجريح واللغة الساقطة، والتهم المفبركة، والاختباء وراء أسماء مستعارة. نرحب بهم وبتعليقاتهم وبردودهم إذا تميزت بالموضوعية.
– سنبقى ندافع عن المظلومين وحق الشعوب في التعبير عن آرائها، ولا نقبل المقايضة «أيدني في قضيتي أؤيدك في قضيتك». هذا أسلوب ساقط. قضايا الحق لا تتم المتاجرة بها. ولن أقبل أن أدافع عن قضية ظلم وقهر للشعوب من أجل أن أكسب منافقا يبدي تأييده قولا لا قناعة.
– لا يقولنّ أحد أن مبرر العلاقات والتطبيع هو وجود جاليات يهودية من هذا البلد في إسرائيل، يحنون إلى جذورهم وتاريخهم. هذا عذر أقبح من ذنب. هل تم الكشف عن هذه العلاقة الآن بعد 72 سنة من النكبة، وبعد أن عملت الموساد بالتواطؤ مع المؤسسات الرسمية على تهجيرهم من موئلهم الأصلي، مقابل مبالغ مالية هائلة أو عبر المؤامرات المحبوكة، سواء من اليمن أو إثيوبيا عبر السودان، أو المغرب أو العراق. اليهودي الذي هجر موطنه الأصلي وجاء ليحتل بيتا فلسطينيا ويجلس في مكانه أو يطرده من مزرعته، هو صهيوني عدو، وإذا كان لا يرضى باضطهاد الفلسطينيين فليعد إلى بلده الأصلي، أو لينضم لصفوف النضال الفلسطيني والأحزاب الفلسطينية وللكفاح المشترك ضد الصهيونية والعنصرية والاحتلال. أما أن يجني المنافع من الصهيونية والكيان، ويقوم بزيارات استجمامية للبلد الذي ينحدر منه، أو للتجارة والتخريب فهذا غير مقبول. وكما تقول الكاتبة المغربية عائشة البصري «إذا كان اليهود المغاربة يؤيدون التطبيع مع الشعب المغربي، فعليهم أن يقفوا في وجه النظام الصهيوني ويناصروا الشعب الفلسطيني لإنهاء الاحتلال».
– سنبقى ندافع عن كرامة الأمة العربية وحقها في التحرر والتحرير والوحدة والتقدم والازدهار، وسنقف ضد كل من يحاول إلحاق الأذى بها أو تدمير ثقافتها وتفتتيت مكوناتها العرقية والدينية واللغوية والثقافية. سنبقى ندافع عن حق الشعوب العربية باسترجاع أراضيها المحتلة جميعا، سواء في الجولان ولواء الإسكندرون أو مزارع شبعا أو جزر طنب الصغرى وطنب الكبرى وأبو موسى، أو سبتة ومليلية، أو أبيي (السودان) أو أوغادين (الصومال) أو الأحواز.
– سنظل ننتصر لحق الشعوب العربية في اختيار قياداتها التي تعبر عن آمالها وطموحاتها وخياراتها بطريقة حرة وديمقراطية عن طريق انتخابات حرة ونزيهة ضمن نظام تعددي مستقر يضمن انتقال السلطة بطريقة سلمية.
ونختتم قولنا مؤكدين قول “مظفر النواب” مراراً وتكراراً «بوصلةٌ لا تشير إلى القدس مشبوهةٌ ـ حطموها على قحف أصحابها».
* باحث فلسطيني ومحاضر في مركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.