حزب الاتحاد الاشتراكي العربي حرية * اشتراكية * وحدة
في سورية
التقرير العام للمؤتمر السادس
لحزب الاتحاد الاشتراكي العربـــــــــــــي
في ســــــــــــــــــورية
– ١٩٧٣ –
القســــــــــــــــــــم الســـــــــــــياســـــــــــي
(الجزء الثالث 1 – 2)
ثانياً – في الناصرية والعمل القومي:
هذا أول مؤتمر يُعقد لاتحادنا الاشتراكي بعد غياب عبد الناصر فلا بد من وقفة عند ذكراه المجيدة نسأل فيها أنفسنا ماذا عملنا وماذا نعمل لتخليد ذكرى ذلك البطل الذي فجر ثورة عربية حقيقية وقاد نضال أمة في أخطر المراحل والذي قام تنظيمنا من خلال التطلع إليه قائداً ورائداً ومُنظراً .
إن الموقع الذي اخترناه بالقناعة الحرة والالتزام القائم على هذه القناعة هو الموقع الناصري، أي الالتزام بقيادة عبد الناصر وطريق عبد الناصر، فلعبد الناصر يعود إذن الدور الأساسي في بناء هذا الاتحاد وفي رسم استراتيجية عمله، بل وبمبادرة من عبد الناصر نفسه بدأ هذا الاتحاد تكوينه الأول، والآلاف التي يضمها هـذا الاتحاد اليوم في تنظيمه على مدى القطر والجماهير التي يتوجه إليها وتلتف من حوله وتناصره إنما هي بالأساس جماهير عبد الناصر والأسـس التي كنا نستلهمها دائماً ومازلنا دليلاً في مسيرة تنظيمنا ومواقفنا وعملنا إنما هي الأسـس التي خطتها تجربة عبد الناصر أمامنـا .
ولكن عبد الناصر قد علمنا رفض عبادة الفرد وتقديسه وعلمنا رفض الطقوس ورفض الصنمية في التفكيـر والعمل، لقد كان القائد فعلاً ولكنه لم يَدّعِ لنفسه العصمة بل كان يمارس ويخطئ ويصيب ويتعلم من التجربة والخطأ، ولقد نادانا دائماً (إن الشعب هو المعلم والقائد ) وإن الجماهير العريضة هي قاعدة الثورة وهي صانعة التاريخ، فماذا يكون مقياس و فائنا له بعد هذا كله إلا بمقدار ما نفهمه ونتمثل تجربته وبمقدار ما نبقيهِ حياةً مُستمرة في ضميرنا وفكرنا ونضالنــا .
ونستطيع أن نقول أننا فهمنا عبد الناصر، وهذا ليس بالقليل وبفهمنا لعبد الناصر استطعنا أن نجعل منه استمراراً في حياتنا وتطلعنا إلى المسـتقبل، وإلى ما كان عبد الناصر يتطلع ويريد أن يكون مستقبل نضالنا ومستقبل أمتنا. ونعتز اليوم بأننا في تفكيرنا ونهجنا السياسي في هذا الاتحاد استطعنا أن نُجسد مفهوماً متطوراً ومتقدماً للناصرية، وما أراد عبد الناصر إلا أن يظل الفكر الثوري العربي في تطور وتقـدم.
لقد مجدنا ونُمجد أياماً لعبد الناصر في عمل تنظيمنا ونشراتنا، نحتفل بيوم مولده ونأسى ليومٍ قضى، نُمجد يوم ثورة /٢٣/ تموز ويوم صنع التجربة الوحدوية الرائدة بل ونقف عند ذكرى يوم الانفصال وعند يوم هزيمة حزيران ونعتبره انطلاقة أساسية وكبرى في مسيرة الناصرية وفي تجديد هذه المسيرة حركة الجماهير في يومي /٩ و١٠/ حزيـران التي رفعت عبد الناصر فارتفع بها وبفكره السياسي والثوري إلى مستوى جديد، ونحن اليوم نأخذ بعبد الناصر وطريق عبد الناصر من هذا المستوى الذي نهض إليه بعد الهزيمـة.
ولكننا وفي كل يوم من هذه الأيام لا نقف لتأخذنا غيبوبة التأسي أو الوجد ولا نقف عند حدود استرجاع المآثر والتذكر، بل نقف محاولين أن نجدد عبد الناصر وأن نعيش عبد الناصر في حركة تطوره وتقدمه وكما لو أنه مازال يقود ويحيا ويتابع المسيرة التي بدأ. بل وكانت أيام عبد الناصر هذه مناسبات أيضاً لإعلان مواقفنـا والتعبير عن تطور مفاهيمنا وأفكارنا.
وأن الديّن الذي في أعناقنا لعبد الناصر، الوفاء لما كان ولما أراد لنا أن نكون، طلائع نضال وطلائع تقدم وحركة تجديد مستمـرة .
في حياة عبد الناصر كانت الناصرية بالنسبة لنا الالتزام بخطه والتفاعل المستمر معه، وبعد غيابه أصبحت الناصرية بالنسبة لنا استيعاب تجربته في كليتها كاتجاه صاعد نحو المستقبل والاستمرار في تطويرها من خلال خط مسيرتها وبالانطلاق من أقصى ما وصلت إليه من تقـدم .
لقد كنا نتحرك مع عبد الناصر لا حركة عفوية بل في تفاعل حي واع، فعبد الناصر كان في خطه الثوري العام حركة وعي ونضج بالتجربة والممارسة، في تفاعل حي مع حركة الجماهير ومع حركة الأحداث، لقد كنا نرسم استراتيجيتنا ونتخذ مواقفنا بالتطلع إليه والالتزام بطريقه والتوفيق بين مواقفنا ومتطلبات استراتيجيته العامة في النضال العربي؛ أما بعد الغياب فإن الأمر اختلف وكان لا بد أن يختلف فهناك أمامنا تجربة في الممارسة الثورية، أمامنا خط عام وطريق نعتقد بأننا تمثلناه واستوعبناه، ومن خلاله نتقدم، لنصبح بدورنا حركة التفاعل مع الظروف المتغيرة ومع حركة الجماهير. فعبد الناصر لم يعد هنالك ليتخذ من كل أمر موقفاً ولنوافق معه وليس هناك من هو بديل عنه لنلتزم لما يقول ويخطط، ليس هناك من يتقدمنا فلا بد أن نتقدم بأنفسنا ونتحمل مسؤولياتنا ولا نتكل بها على أحد، ذلك ما يجب أن نفهم وألا نضيع في متاهات الدروب وتصبح مواقفنا تذبذباً بين المواقف والاجتهادات ولا نعود حركة فعل في الجماهير الناصرية التي نتوجه إليها ونقول أننا نقود حركة وعيها ونضالها، بل نُضيعها ونَضيع معهــا.
وإذا كان لنا أن نعتز بشيء فهو أننا في إطار التيار الناصري العريض والسائب الحدود.
استطعنا أن نشق طريقنا وأن نميز أنفسنا كحزبٍ ناصري وأن نُصبح مكملين لطريق عبد الناصر صعوداً لا توقفاً وجموداً وفي خضم الفئات والتيارات التي تحمل عنوان الناصرية، نستطيع أن نقول أننا تقدمنا وأعطينا تعبيراً تنظيمياً وفكرياً وسياسياً واضحاً لمسيرتنا، إننا لا ندعي مثل هذا التقدم بالناصرية لنا وحدنا، ففي مواقع عديدة من أرجاء الوطن العربي ينهض رجال وتنهض فئات تتقدم أيضاً على ذات الطريق ومن خلال استيعاب تجربـة عبد الناصر وإذا ما دار الحوار بيننا حتى الآن متقطعاً ومن بعيد فلا بد في النهاية أن يتلاحم و يتلازم، ليكون اللقاء وليكون الدفع المشترك على طريق توحيد إدارة الثورة العربيـة.
لا شك أن هناك ضعفاً في طاقاتنا وقدراتنا، وهناك قلة في الإنتاج الفكري مأخوذة علينا وكذلك نشاطاتنا على صعيد الاتصال والعمل الناصري، وهذا ما لا بد أن يُعالج، ولو ضمن معطيات الظروف الصعبة التي نمر بها ولكننا وبرغم هذه النقائص في تكويننا ونشاطاتنا، نستطيع أن نقول أننا أمسكنا بخط سليم وأننا بدأنا بداية سليمة .
في حياة عبد الناصر كنا نشاهد هنا وهنالك قيام تكتلات أو تحركات باسم الناصرية وهي متخلفة كثيراً عن عبد الناصر أو تتحرك في هذا الاتجاه عن انتهازية حاسبة أنه يُقربها من جماهير عبد الناصر أو يقرب هذه الجماهير منها وكانت تتخذ مسيرةً مواربة وتعمل في الناصرية تشويهاً وتحريفاً. وبعد عبد الناصر أصبح التشويه أكبر وأخطر ولقد وقفنا في وجه هذا التشويه دائماً وفي وجه اليمين الذي يحاول أن يُزوِّر ميراث عبد الناصر ليلائم بينه وبين مصالحه الانتهازية والطبقية والرجعية، وقلنا أكثر من مرة أن بين دعاة الناصرية من هم أعدى أعدائها وأخطرهم، كما أن هناك اتجاهات وحركات هي أقرب إلى الناصرية من غيرها ولو أنها لا تحمل عنوان الناصرية ولكنها تتلاءم مع مسيرتها الصاعدة و تصب في النهاية في تيارهـا .
هناك من يخافون من وصف الناصرية باليسار وأن نقول عن أنفسنا أننا يساريين وكأن هذا الوصف خاص بالشيوعيين أو محاولة لمركسة الناصرية، ولكنه الواقع، فالناصرية هي اليسار الحقيقي في الوطن العربي، لأنه اليسار الأكثر جذرية والذي يحرك أوسع قاعدة جماهيرية من الطبقات العربية الكادحة لأنها وجدت في الناصرية التعبير المباشر عن حركة وعيها وعن مطامحها وتطلعاتهـا .
ولنميز أنفسنا كناصريين يساريين ثوريين اشتراكيين نسير على خطوات عبد الناصر الصاعدة نحو المستقبل، لا بد أن نميز أيضاً ما ليس بناصري وما هو رجعة عن الناصرية وتشويهاً لها وتجريفـاً .
ولقد وقفنا في مواجهة تيارين أولهما اليمين وبالأحرى تيار الناصرية المُضادة إذ هو يشد بفكر عبد الناصر إلى الوراء ويحاول أن يضع في الناصرية كل تخلف فكري وكل مقولات اليمين في تشويه كبير لتجعل من الناصرية وكأنها مجرد حركة سلبية ضد تيارات تقدمية أخرى وتُضيعها في الطقوس والتمجيدات التاريخية والشعارات الجوفاء وتقطع الناصرية من سياق تطورها التاريخي ولتجتزئ منها ما تجتزئ وتُشوه ما تشوه ثم تقول هذه هي الناصرية، فلا غرابة إذا ما وجدنا في هذا الاتجاه شُللاً وشراذم من بقايا حركات الإخوان المسلمين والحركات السياسية البرجوازية التقليدية العتيقة. أما التيار الثاني فهو التيار الرخو والانتهازي وطابعه العام توفيقي يلبس لكل حالة لبوسها ويمشي في ركاب هذا النظام أو ذاك ويُمالق الحكام ويجعل من الناصرية انعكاس لمسيرة النظم حيث توجهت، وهذا ما أطلق عليه البعض بحق ( اسم الناصرية الرسمية ) .
إن الحركة الناصرية منظوراً إليها كثورة لا يمكن أن تكون اليوم وفي هذه المرحلة تابعة لأي نظام من النظم السياسية الرسمية ولا نابعة منه أو تعمل لتتكيف معه، فالنظم تعيش ظروفها المرحلية الخاصة ومقوماتها وهناك فارق بين تدعيم نطاق أو نظم والتعاون معها وبين أن نقول هذا النظام يجسد إرادة الجماهير الثورية كل التجسيد وهو نظامها الذي تتطلع إليـه.
فالناصرية ترفض أن تكون توفيقيه، كما ترفض القوالب الجاهزة، بل هي نداء التحرر العميق .
والناصرية في الفكر وفي السياسة وفي الممارسة هي تحرير النضال السياسي من الغيبيات والمطلقات، إنها علم التغيير للواقع العربي من خلال استكشاف حركة التاريخ وحركة المجتمع وقوانين التغيرات فيها، إنها لا يمكن أن تكون توفيقاً بين المتناقضات بل هي استيعاب لواقع وجودهـا في سبيل تجاوزها، وهي عملية تجدد دائمة واستكشاف مستمر لمعالم الطريق، وذلك ما علمتنا ممارسات عبد الناصر وهذه هي حركة التقدم في الناصرية فلا قوالب جامدة ولا قدسيات أسطورية .
إن الوحدة العربية وهي الهدف الأكبر للثورة الناصرية والذي يحيط بكل الأهداف وليست شعاراً منزلاً ولا مقدساً بل هي مسيرة نضال تحرري له مستلزماته وضروراته وهي استراتيجية تصدي وهي إطار لبناء دولة عصرية متقدمة إنها الضرورة ولكن هذه الضرورة فيها ليست حتمية قدرية تحمل تحققها في ضمير الزمن، بل هي ضرورة الحركة والنضال التحرري ولإعطاء أكبر حيز من الجدوى لهما، وكذلك هي الكيان الأكثر ملائمة لنشوء الإنسان العربي الحضاري والتنظيم الديمقراطي الجماعي والتنهيج الاشتراكي. الديمقراطية في الناصرية مباشرة تهدف إلى تنظيم جماعي واعٍ والاشتراكية ليست طوباوية ولا تتميز بخصائص خالدة بل هي علمية تبني مجتمع الكفاية والعـدل .
التطلع إلى الماضي ليس رجعة إليه وارتداداً نحوه والتصاقاً بعهد من عهوده الماضيات مهما كان زاهراً وعظيماً، بل هو مجرد تأكيد لوجود الإمكانية في هذه الأمة لتغذية حركتها و تغذية حركة نحو المستقبل، إننا نفيد من تجاربه، من مآثره التي تعيش فينـا. حركة تقدم وتطور، ونتطلع إلى صعودنا فيه لنعزز الثقة بأنفسنا وطاقات أمتنا، ونتطلع إلى مراحل الهبوط فيه لنفهم عوامل الانحدار والتخلف والضياع، إلا أن الماضي لا يعود ولكل زمان فكره والإنسانية في نضج مستمر وعبد الناصر كان يحدثنا لا عن مآثر الماضي بل عن تحديات العصر وعن ضرورة الثورة لإحداث الانتقال الكبير بأمتنا إلى مستوى العصر وعقلانية العصر، فعصر الثورة الذهبي هو دائماً في مستقبلهــا .
إن حقنا العربي الذي ننادي به ليس حقاً قديماً وموروثاً بتسلسل العصور بل هو التجسيد الجماعي لإرادة جماعية لجماهير أمة تتطلع إلى هدف وتؤكد حقها بحركة وعيها ونضالها.
الناصرية إيمانٌ بالله وبالقيم الروحية والإنسانية وإيمان بحرية الإنسان، الإيمان الذي يحرك الضمير ويتطلع إلى العدالة والخير والحق ولكن الناصرية عقلانية أيضاً فحرية الإنسان هي عملية تحرير كبرى ترتبط بتغيير كبير في الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الفكريـة التي تقيد هذه الحرية وتضيعها في الفساد والاستغـلال .
والثورة ليست كتاباً مسطوراً ننهلُ من معينه ونطبق، بل هي علمُ التغيير والاستكشاف المتواصل لطريقٍ في التغيير، إمامها مشروع إنساني شامل هدفه التحرير الكلي للإنسان بدءاً من وضعه على أرض الواقع المطلوب تغييره ومن تفتُح وعيه على تفاصيل هذا الواقع والقوانين التي تحكمـه.
فلتسقط الغشاوات إذاً ولتتأكد مثل هذه المرتكزات في تفكيرنا الناصري، كما تركزت في محصلة تجارب وممارسات عبد الناصر .
إن الناصرية تموت، أي تموت ديناميكيتها الثورية ودفعها الثوري نحو التقدم ويزول جوهر فكرها الذي هو عقلانية العصر والارتفاع بالفكر العربي إلى مستوى عقلانية العصر، إذا ما تقوقعت في القوالب الجامدة أو تحولت إلى شيء متقلب يسير مع تحول القيادات والنظـم .
فالناصرية كانت ومازالت بالنسبة لنا الاتجاه العريض للثورة العربية الحديثة أي الاتجاه القادر على أن يستوعب في إطاره حركة الجماهير العربية والقوى النضالية التي تتقدم تحت رايات الحرية والاشتراكية والوحـدة .
والناصرية وُجدت لتتسع وُجدت لتحيط بالقوى ووُجدت لتوحد أوسع القوى التقدمية العربية وتنهض بكل قوى النضال العربي وما وُجدت لتتقوقع أو تنحصر أو تضيق .
ومن هنا كان نقدنا للعمليات المصطنعة لتوحيـد القوى الناصرية ( مما هب ودب ) فالتحرك نحو وحدة القوى أي نحو ( الحركة العربية الثورية الواحدة ) بحاجة إلى إنضاج كثير، إنضاج للفكر الناصري وللقوى الناصرية ولفعلها في القوى الأخرى ودفعها على هذا الطـريق .
وبالنسبـة لنا نعود ونقول، ليس كل مـن يقول أنه ناصري فهو ناصري كما وأن العديد من القوى التي تصعد هنا وهناك في الوطن العربي محاولةً استيعاب تطلعات الجماهير، والتعبير عنها والنضال في سبيل أهدافها فهي قوى يمكن أن تصب في التيار الناصري أو أن يحيط بها الاتجاه الناصري .
فليس عبثاً أن عبد الناصر لم يدعُ الى وحدة الناصريين بل دعا إلى وحدة القوى الثورية العربية، فالحركة العربية الواحدة بالنسبة لعبد الناصر لم تكن حركة يُدعى لها من يلتفون حول عبد الناصر فحسب، بل هي الحركة التي لا بد أن تـمضي نحوها حركة التعاون والتفاعل بين قوى النضال العربي وبينها وبين الجماهير الواسعة والتي تحدد استراتيجيتهـا بما هو مطلوب منها فعلاً، أي أن تُوحد الإطار الفكري والاستراتيجي لنضال الأمة العربية و أن توحد قوى الثورة وتصبح الأداة الواحدة للثورة العربية الواحـدة .
فعبد الناصر لم يدعُ لوحدة الناصريين تحت لوائه كوحدة تنظيمية بل ولم يستجب للنداءات التي وُجهـت لهُ مُطالبةً بذلك وكان له منطقه في الرد، فمثل هذا التوحيد التنظيمي لم تتهيأ بعد ظروفه وشروطه وكان عبد الناصر يتفـاعل مع حركة الجماهير العريضة لتتوحد التطلعات والإرادات عن وعي وكان يفعل في قوى التقدم والنضال العربي كلها ويتفاعل معها ويدعمهــا .
لقد تفاعل أول ما تفاعل مع حركة حزب البعث وتفاعل أيضاً مع حركة القوميين العرب ثم تقدم عليهما قومياً من حيث الإحاطة بالجماهير وتجاوزهما فعلاً وإنجازاً لأنهما بقيتا في إطار التجربة الخاصة والمحدودة وظلتا تسحبان على طريق التجربة الخاصة والشد إليها .
وهو لم يمشي بخطوات عمليه على طريق وحدة القوى القومية العربية التقدمية ولتنظيم هذه الوحدة لأن تلك القوى لم تنضج بعد للوحدة ولأن تجربة عبد الناصر في التنظيم السياسي والجماهيري داخل مصر لم يجد أنها نضجت بالقدر الكافي، أو نضجت لتُقدم نموذجاً أو لتتوحد مع التنظيمات الأخرى. ولقد أراد أن تتعدد التجارب من خلال معطيات ظروف النضال العربي عامةً ومن خلال معطيات القوى داخل كل قطـر، على أن تدفع باتجاه عام واحد وصولاً إلى التجربة المشتركة ومن هنا كان طرحه للوحدة الوطنية داخل كل منها بداية لوحدة القوى على المستوى القومي ومن هنا كان رأيه بأن هذه الوحدة يمكن أن تتعدد صيغ البدء في بنائها حسب معطيات القوى وصراعاتها داخل كل قطـر .
والواقع أن عمليات التوحيد المصطنع أو القصوى أو الإغرائي من نظام من النظم أو قوة من القوى لا تنتهي إلى توحيد لا قطرياً ولا قومياً بل هي تنتهي إلى تجزؤ وتشرذم أكثر وإلى تعزيز التناقضات بين القوى وداخل كل حزب أو قوة وهذا ما حصل بالفعل ونحن برغـم نداءات التوحيد لا نجد إلا صعوداً في التشرذم .
فالحركة العربية الواحدة كما نفهمها ونؤمن بها وندعو لها هي حركة تحتاج لانضاج كثير من خلال التعامل والتفاعل وفي حرارة النضال المشتـرك. فلتحيط بالقوى لا بد أن تتجاوز في معطياتها كل القوى الموجودة، أنها ليست حركة تجميع بل حركة تجاوز، فالطابع الخاص والإقليمي والمصلحي مازال طابع الغالبية الساحقة من القوى الجاهزة ومن بينها التي تدعو بوحدة القوى وللحركة الواحدة فضلاً عن ضعف صلابتها الـثورية وجماهيريتها إلا أن الناصرية في إنجازاتها النظرية والتطبيقية وضعت منطلقات وركائز أساسية هي التمهيد الذي لا بد منه على طريق الحركة العربية الواحدة .
١ – إن المقولة الناصرية الأساسية التي تعبر عن استيعاب ظروف هذه المرحلة التاريخية من تطور المجتمعات العربية وبخاصة عندما تتحرر هذه من نظمها الرجعية المتخلفة ومن تحالف الإقطاع مع رأس المال في السيطرة على الحكم وتقرر عدم اختيار الطريق الرأسمالي في صنع التقدم بل تختار طريق التنهيـج الاشتراكي إنما هي مقولة تحالف قوى الشعب العامل وتعني صنع الأرض المشتركة والقاعدة الجماهيرية العربية للتحالف الطبقي الذي يصح أن تستند لديه قوى النضال العربي في هذه المرحلة في تعزيز كفاحها الوطني التحرري أو في بناء نظمها التقدمية وتطوير مجتمعاتها وتنمية اقتصادها مما يصنع القاعدة المادية لبناء الاشتراكية .
٢ – ولكن هذا التحالف الطبقي العريض للعمال والفلاحين وللبرجوازية الوطنية من صغيرة ومتوسطة ( أو ما يسميها الميثاق بالرأسمالية الوطنية والرأسمالية غير المستغلة ) يحمل تناقضات ومصالح متعارضة وأفكار متباينة في تقدميتها وتطلعات مختلفة، فلكي يستمر الصعود على طريق الأهداف القومية وعلى طريق الاشتراكية ولكي لا يقع التصارع والتصـادم وليكون الطريق طريق تذويب الفوارق بين الطبقات ولصالح الطبقة الأكثر تقدماً والأكثر عطاءً والتي تنمو وتتسع مع التنمية والتحضير والتصنيع والتقدم أي الطبقة العاملة، ولربط أواصر ديمقراطية النظام ولضمان الرقابة الشعبية على الدولة تأتي المقولة الناصرية. التي نص عليها الميثاق، مقولة التنظيم السياسي الذي يقود تحالف قوى الشعب العامل والذي يضم الطلائع الواعية المؤمنة بالثورة والمؤمنة بالاشتراكية أي الطلائع الواعية من العمال والفلاحين ومن المثقفين الثوريين. ولقـد نضجت هذه الفكرة عند عبد الناصر عبر مراحل عديدة من التطور والنضج الفكري والعملي والعديد من التجارب الفاشلة في التنظيم الناصري، بدءاً من هيئة التحرير فالاتحاد القومي وانتهاء بالاتحاد الاشتراكي العربي. وإذا لم يُسمِ عبد الناصر هذا التنظيم في الميثاق حزباً سياسياً فإن عبد الناصر قد أعطاه فيما بعد في أحاديثه ومناقشاته كل مضامين ومسميات الحزب الثوري .
٣ – وإذا كان بناء مثل هذا التنظيم الطلائعي الثوري ضرورة لقيادة التحالف على المستوى النظري ولترسيخ دعائم أي نظام ديمقراطي شعبي أو اشتراكي وبهذا كان عبد الناصر يريد أن يركز دعائم نظامه ويجدد بناءه فإن ضرورته أكبر على المستوى القومي لقيادة الجماهير على طريق النضال التحرري الاشتراكي الوحدوي ولبناء دولة الوحدة وحمايتها، ولدفع النظم والمجتمعات العربية على طريق التماثل والتكامل، ولبناء المجتمع العربي الاشتراكي الموحد. فالوحدة ثورة ولا بد لها من أداة ثورية واحدة أو موحدة. ومن هنا وفي هذا السبيل وعلى هذا الطريق كان نداء عبد الناصر بالحركة العربية الواحـدة .
إن هذا التصور الناصري للعمل والتنظيم السياسي قد مر في أطوار متلاحقة عبر تجربة عبد الناصر فأمام فشل تجربة الاتحاد القومي في حماية دولة الوحدة وفي الدفع بعملية التحويل الاشتراكي التي باشرها عبد الناصر إلى الأمام ومن استيعاب نقائص تلك التجربة على الصعيد القطري والقـومي انتقل عبد الناصر إلى تجربة الاتحاد الاشتراكي وإلى وضع الميثاق الوطني دليل عمل مرحلي وقـال بتحالف قوى الشعب العامل وبالتنظيم السياسي لطلائـع هذا التحـالف .
ومـن معاناة تجربة التصادم بين القوى التقدمية أيام الانفصال ثم بعد حركة /٨/ شبـاط في العراق و/٨/ آذار في سورية وفشل محاولة الوحدة الثلاثية وسقوط ميثاق /١٧/ نيسان نادى عبد الناصر بالحركة العربية الواحدة ولكنها ظلت نداءً ومشروعاً للمستقبـل .
واتحادنا الاشتراكي قام تلبيةً لهذا النداء وليبني مسيرته الناصرية على هذا الطريق، إننا نقول بتحالف قوى الشعب العامل قاعدة طبقية عريضة للعمل ونقول بالحزب أو التنظيم السياسي الطلائعي الذي يقود هذا التحالف ونقول بالتنظيم الموحد على المستوى القومي أو الحركة الواحدة. وذلك منحى أساسي في استراتيجيتنا تُحركنا سواء في تنظيمنا أو تجاه القوى التقدمية الأخرى أو باتجاه الجماهير .
إلا أن ذلك التنظيم السياسي الطلائعي الموحد الذي يتحرك في إطار تحالف قوى الشعب العامل غير موجود بعد كما هو مقصود ومطلوب في قطر ولا في عدة أقطار ولا على المستوى القومي الشامل، وأن عملية بنائه ليست عملية بسيطة، إنها لا تتم بمجرد نداء رجال أو فئة ولا تتم تجميعاً للأطراف المتناثرة من القوى. وتناثر القوى القومية التقدمية عامة ينطوي أيضاً على تناثر في القوى والفئات التي تحمل اسم الناصرية .
واذا كانت الأقطار العربية التي تتطور فيها تجربة الأحزاب والتنظيمات الحزبية التقدمية كليبيا مثلاً أو الأقطار التي استطاعت أن تقلص الوجود الحزبي إلى حدٍ كبير وقدرت على الإحاطة بالقوى التقدمية في إطار التحالف العريض لقوى الشعب العامل كمصر مثلاً، يمكن أن يكوّنا مثل هذا التنظيم الطلائعي داخل التحالف وعلى رأسه بالأسلوب الديمقراطي الشعبي وبالالتزام الطوعي للطلائع الأكثر وعياُ وتقدماُ والملتزمة بالنهج التحرري الاشتراكي الوحدوي في إطار ذلك التحالف فإن تكوين هذا التنظيم، أي إعطاء الصيغة الكاملة للاتحاد الاشتراكي العربي ( تحالف عريض على رأسه تنظيم طلائعي ثوري ) يشترط أن تجري بذات الأسلوب في الأقطار العربية الأخرى. التي تتعدد فيها الأحزاب والقوى التقدمية والتي تطورت تجارب العمل الحزبي فيها والتي على رأسها نظم لا تقول بالناصرية، فالترجمة الناصرية لمفهوم التحرك الوطني التقدمي والوحدة الوطنية في تلك الأقطار يمكن ان تأخذ في البداية صيغة التحالف الجبهوي والعمل الجبهوي بين القوى التقدمية التي تلتقي على الأهداف الكبرى لصنع التجربة المشتركة والنضال المشترك طريقا الى وحدة القوى، فأصحاب الاتجاه الواحد والهدف الواحد في العمل من الضروري أن يتلاقوا ويتعاونوا ويناضلوا معاً ليصبحوا في التنظيم الموحد .
وعلى هذا الطريق دفع اتحادنا الاشتراكي العربي على المستوى القطري، أما على المستوى القومي فلا يكفي أن يتبنى النظام أو حزب الدعوة لوحدة القوى أو لوحدة الناصريين لتتم هذه الوحدة هكذا بصورة تلقائية وبمجرد أن يتم لقاء او حوار اولي .
ليس امامنا بعد صورة لطريق تبنى من خلاله هذه الوحدة في التنظيم على المستوى القومي او في اقطار متعددة ، كل ما امامنا صيغ وأساليب لمحاولات او لتجارب فشلت او ظلت محدودة او تراجعت بعد امتداد في صيغ الأحزاب والتنظيمات التي امتدت في اقطار عربية متعددة ، ولابد ان نفيد من هذه التجارب لكي لا يكون جهدنا الناصري في التوحيد مجرد إضافة لمحاولة محدودة او لحزب او تنظيم يقوم في صراع مع أحزاب أخرى يدعو لذات الأهداف .
…………………………….
يتبع.. (الجزء الثالث 2 – 2) والأخيـــر
التعليقات مغلقة.