محمود الوهب *
في الثامن عشر من كانون الأول تحتفل البلاد العربية بلغتها الأم، لغة قومية للعرب أجمعين، وفي ذلك اليوم يكثر الكلام حول اللغة العربية وأهميتها، مؤكدين دائماً وأبداً، أنها وطن وهوية، وأنها من أهم الروابط القومية، فهي التي تحفظ التاريخ، وتحمي التراث، وتنمي الثقافة، وتؤكد الكينونة التي نتمتع بها. وأن القرآن الكريم يحفظ اللغة إضافة إلى مساهمة كتب الأدب طبعاً.. ومع ذلك فما إن يمضي ذلك اليوم الاحتفالي حتى يعود المحتفلون إلى سيرتهم الأولى إهمالاً وأخطاء ونسياناً.. وربما تشجعت بعض المراكز المعنية بالشأن الثقافي، في البلدان الميسورة، على القيام بمشاريع متنوعة تخص اللغة العربية كذلك يقوم الإعلام بمهامه المطلوبة..
ولدى الاحتفال، أينما وجد، لا ينسى المحتفلون أن يمروا، بحزن وألم، على ما يعتري اللغة العربية من ضرر، ومن أمور كثيرة أخرى تهددها، ومنها الأخطاء الكثيرة التي يقع فيها المتحدثون عموماً، والكتّاب على نحو خاص، ومن بين هؤلاء الإعلاميون الأكثر ملامسة لنظر الناس وسمعهم، عبر وسائلهم المختلفة، وسواء تعلق الأمر بالأخطاء النحوية أم الأسلوبية، وربما الأكثر خطراً على اللغة ميل بعض الوسائط الإعلامية إلى التحدث باللهجة العامية، ودعواهم أنها الأيسر، والأسرع استقبالاً وتوصيلاً.. علماً أن العامية هي فصحى محوَّرة قليلاً، وبعضها بقايا مفردات من لغة قديمة أو لغات سبقت العربية في مناطقنا أو جاورتها.. ولا يمكن ترجمة ذلك إلا أنه ظلم للغة الفصحى الميسرة للجميع، وللعلم بأن الأطفال الذين يتابعون برامجهم الناطقة باللغة العربية يمتلكون سليقة لغوية أكثر من غيرهم.. ويتفاجأ الأهل، أحياناً، حين يسمعون من أطفالهم مفردات فصيحة، ينطقونها ببساطة، ويسر.. أما الإعلانيون أقصد المشتغلين في حقول الإعلان، فهؤلاء أشد خطراً على اللغة من غيرهم، فإعلاناتهم الممتلئة بالأخطاء، وتنبا عنها العيون لدى محبي اللغة حين يلمحونها بوجع أخطائها تملأ إعلاناتهم في الشوارع والساحات، والمكاتب، وعلى شاشات التلفزة، واللوحات الإلكترونية، وعبر وسائط التواصل الاجتماعي وسوى ذلك الكثير..
ليست الغاية، لدى الحديث عن اللغة العامية، الانتقاص منها فهي لغة الشعب، ومنها أدب خاص بها، ولكنها لغات متعددة متنوعة لا من دولة لأخرى، بل من مدينة لمدينة، وأحياناً من حي إلى آخر. ولا شك في أن للعامية حضوراً لا يقل عن الفصحى، وأن لها محبيها ولها آدابها، ولكن لا يمكنها أن تكون اللغة القومية الجامعة للأمة، وإن كانت تثري التنوع الاجتماعي والثقافي في المجتمع الواحد لهذه المدينة أو تلك.. وللعامية تدرجها في التنوع، فثمة لغة تمثل قاع المجتمع، كتلك التي كتب بها خطيب بدلة روايته “أبو دياب يتكلم في الأفراح” وأراد منها إعطاء صورة عن الثورة السورية، واختلاط الفئات الاجتماعية المشاركة فيها، وربما تعمَّد ذلك لإبداء وجهة نظر في فكر الثورة ولغتها وروافعها.. وقد اختار خطيب لهجة أهالي مدينة إدلب التي عايشها. ومن ذلك موسوعة حلب التي أنجزها العلامة “خير الدين الأسدي” بموسوعته عن مدينة حلب التي تناولت حياة المجتمع الحلبي، وبحث في أصول المفردات، والعبارات التي ترد في توصيفهم وأمثالهم وطرفهم مقارناً بها لغات أخرى متعددة.. ومثل ذلك تدوين الأمثال الشعبية وبعض السير، وكتاب يوميات أحمد البديري الحلاق عن حياة دمشق في عهد الوالي العثماني مدحت باشا.. وقد ترتقي العامية في حالات كثيرة وفي تعبيرها عن المشاعر الإنسانية حباً أم كرهاً أم سخرية، وبذلك تكون أكثر قرباً من النفس وتأثيراً فيها، وخاصة إذا كانت من نوع الزجل الجبلي/اللبناني الذي غنت فيروز الكثير منه، ولشعراء مرموقين بدءاً بالرحابنة وليس انتهاء بسعيد عقل.. ولعلَّ هذا الجانب يقودنا، من جهة أخرى، إلى أنَّ اللغة أصوات سواء كانت عامية أم فصحى وهي ترتقي مع الكاتب الذي يتمتع بالإحساس والرهافة، وسواء تعلق الأمر بموسيقى الكلمة أم بالجملة الشعرية أم بالصورة الفنية..
وإذا كانت اللغة روح الأمة، فبأي لهجة يريد أنصار العامية التكلم بها تمشياً مع اليسر والسهولة، وحرارة التواصل! هل نأخذ اللهجة المصرية أم الشامية أم اللبنانية أم التونسية أم الجزائرية أم العراقية والخليجية؟! أذكر أن برنامج ضمائر متصلة الذي يبث على قناة “تلفزيون سوريا” استضاف مثقفاً تونسياً يترجم من الفصحى إلى العامية.. وهي ظاهرة جديدة يصعب التنبؤ بغاياتها ومراميها..
إن ما يهمنا من هذه المقالة هو وضع اللغة في مكانها الصحيح، والدقيق بين الهوية والوطن والأمة، ومن دون أية مبالغة في وظيفتها أو انتقاص من دورها.. فاللغة ليست الهوية، ولكنها جزء رئيس منها، فالهوية تاريخ وجغرافيا وثقافة، وحضور أو غياب مفاهيم تنطوي على الحرية والعدالة والمساواة.. وما ينطبق على الهوية ينطبق على مفهوم الوطن والأمة. وعودة من إلى الماضي أكثر فأكثر.. فسوف نجد اللغة قد نشأت مع الإنسان، إذ هو أول من نطق بالأصوات مخاطباً أخاه الإنسان معطياً نبرة صوته المعنى الذي يريده.. وهكذا أخذت اللغة تنمو مع نمو حياة الإنسان الاجتماعية، وزيادة حاجاته، وتنوعها، واستخدام الأدوات لتحصيلها، وبالتالي، أخذت اللغة دورها الوسيط في تقوية العلاقات الاجتماعية، وارتقائها، وقد ابتدع الإنسان لأصواته، في وقت متأخر من رحلة وجوده واستمرارها وتطورها، رسوماً وأشكالاً عرفت بالأبجدية، وتحتفظ بها الكتب، والمعاجم، لكنها في الحقيقة لا تكتسب حيويتها دون أن استخدام الإنسان لها، واستعراض أوجه حياته من خلالها، وتصوير علاقاته بأبناء جنسه، وصراعه مع مفردات الطبيعة من حوله وتأثيره وتأثره فيها.. ومن هنا يمكن أن تموت بعض مفرداتها إذا لم يعد الإنسان بحاجة إليها أو إذا استبدل بها أخرى لدى تغير نمط حياته قد يجدها أفضل جمالاً وتعبيراً أو أكثر قدرة على إيصال ما يريده.. ومن هنا، وصفت اللغة بأنها كائن حي يولد ويحيا ويموت.. وليجرب أحدنا العودة إلى المعاجم فسوف يجد الكثير من المفردات الميتة، أو عندما يقرأ بيتاً من الشعر العربي القديم فسيعجز عن فك ألغازه، فيضطر للعودة إلى أحد المعاجم ليكتشف أن الشعر يتحدث عن أشياء عادية جداً، لكنها وبفعل تطور اللغة صارت غريبة كلياً عن حياتنا التي اكتسبت مفردات جديدة أكثر حيوية وملاءمة لأدوات أيامنا.. ومن هنا يقولون عن الأديب الذي يستخدم لغة قديمة أن لغته مقعرة! وفي المعجم: “تقعَّر في كلامه أخرجه من قعر حلقه” ما يعني أنه أتى بمفردات اقتلعت من أصول اللغة ولطالما سخر الساخرون من هؤلاء!
يتبين لنا من خلال ما تقدم كله أن الإنسان هو الأصل، وحال وجوده في سلَّم الحضارة يحدد قوة لغته ورقيها وحداثتها وانتشارها. وللمثال فقط أقول حين استطاع العرب بناء حضارة في القرون التي تلت الدعوة الإسلامية، تغلبت لغتهم على لغات كثيرة كانت سائدة في المناطق التي وصلوا إليها وبسطوا نفوذهم عليها، واستطاعت لغتهم أن تهضم لغات أخرى كان للمتحدثين فيها حضارة وتاريخ.. ولا تزال آثار تلك اللغات قائمة هنا في بلادنا سواء في لهجاتنا المحلية أم في لغتنا الفصحى وتغلب في أسماء المدن والبلدات والقرى.. كاللغة السريانية المتطورة عن الآرامية.. واقتحمت لغات أخرى وجدت حيث وجود العربية مثل التركية والفارسية والكردية ودخلت مفرداتها إلى العديد من اللغات الأوربية.. لكن حالها اليوم مختلف جداً مع كل أسف..
إن عدد الناطقين باللغة العربية اليوم يربو على أربعمئة مليون إنسان لكن لغتهم الواحدة، لم تستطع أن ترتقي بهم، بل إنها تتراجع، وتنحدر.. رغم أن كتّابها يدبجون الأشعار، ويسردون الروايات والأبحاث، ويلاحظ أن معظم ما يكتبونه، وهم الطليعة، يقع في هجاء الحكام المستبدين المسؤولين أولاً وأخيراً عن الواقع البائس الذي يبقي على التخلف العام، ويؤثر في اللغة، وما يقوله الكتاب في بعض وجوهه انتصار للغة العربية.. لكن رد الحكام زيادة في القمع وقهر السجون والمعتقلات، وبالتالي إصرار على زيادة الفقر والتخلف وتعميق الهزائم، سواء أمام العدو الطامع أم أمام الحضارة.. وما موجة التطبيع اليوم إلا حلقة في سلسلة هزائم حكامنا وتخلفهم، كلُّ ذلك التردي لم تستطع اللغة أن تنقذ أحداً من ضعف وتخلف.. إنَّ مئات المفردات التي تدخل اليوم لغتنا لها علاقة بالطب والهندسة، وعلوم الفضاء، والحواسيب التي لا علاقة لمجتمعاتنا بها بل إنَّ لغة التفاهم في بعض المجتمعات العربية التي تشغل عمالة أجنبية هي اللغة الإنكليزية.. صحيح إن معظم مجامع اللغة العربية تعمل على تعريب تلك المصطلحات لكن أصل تسميتها، هو الذي يسري في المجتمع، وبين الناس.. وأختم فأقول إن اللغة حضارة وتقدم وهي ابنة عصرها وصورة إنسانها ومرآة حياته رقياً أو تخلفاً..
* كاتب سوري
المصدر: تلفزيون سوريا
التعليقات مغلقة.