محمد عبد الحكم دياب *
في زمن غابر قبل حلول سبعينيات القرن الماضي وما شهدت من تغييرات، كان زمنا مضبوطا على ثنائية توازن دولي، ذي ثقلين؛ أحدهما بقيادة الاتحاد السوفييتي السابق، والآخر تتولاه الولايات المتحدة الأمريكية، وبينهما نشأت كتلة دول غير منحازة؛ شقت لنفسها طريقا مستقلا، داعمة لحركات التحرر، ومتصدية للاستعمار القديم والجديد؛ وقتها كان الشغل الشاغل لعرب ذلك الزمان هو أي الطرق يسلكون، وأمامهما أحد طريقين؛ منطلقهما الوحدة العربية، وهل الوحدة العربية طريق لتحرير فلسطين؟؛ والثاني ينطلق من سؤال مقابل هل قضية تحرير فلسطين طريق للوحدة العربية، وواضح أن الوحدة العربية كانت المرتكز للتوجهات العامة، وأساس العمل العربي المشترك، وكان ذلك نهجا غالبا في الأوساط السياسية الرسمية والشعبية.
وتمكن رواد ذلك الزمن من إنشاء «الكيان الوطني الفلسطيني» ووجد من يحتضنه فيما بين المحيط والخليج، وأقاموا «منظمة التحرير الفلسطينية» وكونوا «جيش التحرير الفلسطيني»؛ وكلها كانت مشروعات وقرارات عربية ولم تقتصر على الفلسطينيين وحدهم، وعبرت عن إرادة عربية فاعلة، معتمد على النفس، ولديها كفايتها في الانتاج، وعدالة في توزيعه؛ منطلقات جامعة لا تقبل بمساومات ولا تسويات منفردة، وكان الحد الأدنى في أي عمل عربي أن يكون مشتركا، ويتوفر فيه التضامن والتعاون والتكافل، وذلك تبخر وصار أثرا بعد عين.
تناول هذا ممنوع الآن، وكأن من يتحدث عنه يهذي، ويعاني أضغاث أحلام؛ أمور لم تعشها الأجيال الحالية، ولا يتناولها التعليم بالدراسة والتقويم والنقد والتحديث، وقد يكون ذلك التراث مؤرشفا في «الذاكرة التاريخية» وفي محفوظات الجهات المعنية، ونادرا لا تجد من يبحث عنه، واللافت أن الأرشفة موجودة في محفوظات الغرب، ولدى الحركة الصهيونية، وامتداداتها وروافدها؛ تدرسه وتستخلص منه ما يمكنها من حجب ما تراه ومنع تكراره، وما أكثر المتواطئين؛ من العرب والمسلمين في دهاليز وأروقة «قارة عربية» مترامية الأطراف، ومنهم من يهرول صوب واشنطن وتل أبيب، وهناك دول ومؤسسات دولية وأهلية ترعى كل ما يهدد «القارة العربية» وتعمل على تفتيتها والقضاء عليها، وقطعت أشواطا طويلة في هذا المضمار.
والحلول المنفردة تناسب وتلائم زمن التطبيع والصهينة، وتستجيب لمخطط التدمير الذاتي، وما يتطلبه تشويه القيم الإنسانية المشتركة وشيطنة التوجهات الجامعة، وتتعدد وجوه الحلول الانفرادية وتتنوع؛ وتتوفر لها أغطية شرعية دولية عرجاء؛ شرعنت لتقسيم فلسطين، وغطت الأمم المتحدة غزو العراق، وتدمير سوريا، وإشعال لبنان، واستنزاف ليبيا وتقسيمها، وعجز في حماية الفلسطينيين، وساعدت على ذلك جهات عربية؛ رسمية وشبه رسمية!!
كان هدف تحرير فلسطين مطروحا حين احتلت القضية الفلسطينية مكانتها، وأضحت قضية العرب المركزية، وسادت روح وقفت وراء تحرير الجزائر، من «الاستيطان الفرنسي» ولم يختلف عن الاستيطان الصهيوني؛ واعتماده على التطهير العرقي، والإبادة الجماعية، والتهجير القسري، وتحررت الجزائر قبل ظهور أباطرة المال وأثرياء النفط، ولم تكن قد توفرت لهم ملاذات آمنة لتهريب ثرواتهم، وكثرت الملاذات في مصارف وبيوت المال المملوكة لمؤسسات مالية صهيونية كبرى.
وتعددت أوجه النقض (الفيتو) المحلي والانعزالي والقبلي والطائفي والمناطقي والدولي، وينتهي ليصب في مجرى النقض (الفيتو) الصهيوني الأكبر، وأعاد ذلك إلى الذاكرة معاناة الهنود الحمر واستئصالهم، والخوف أن يكون هذا مصير العرب، وإذا ما تم حصر الأعداد الضخمة لشهدائهم وضحاياهم الذين سقطوا بالأسلحة الأمريكية والصهيونية الفتاكة، ومساعدة حلفائهم وقواعدهم المنتشرة في بلاد العرب وعلى أراضي جيرانهم، بجانب الحصار المضروب حولهم.
وإحصاء من أبيدوا على مدار نصف قرن من سبعينيات القرن الماضي، وما بعد حرب 1973 وحتى الآن؛ تدخلات عسكرية في كل مكان، وتخريب وتدمير ممنهج بالغزو تارة وبالعدوان الصهيوني تارة أخرى، وتسلل الجماعات المسلحة الوافدة من أنحاء المعمورة، ولغز عمليات تمويلها بالمال والسلاح وتوفير الإعاشة والسكن والمرتبات، وحصيلة ما نجم عن الفتن والاقتتال الأهلي، فالأرقام مروعة. والشيطنة تلحق العرب والمسلمين، وهذا غير التدمير والتخريب الذي يتم بيد أبنائهم، ولا نشير لمن حرض ومول ودفع بالمرتزقة إلى نصف مساحة «القارة العربية» ونحن لا ندعى بأن الأمان متوفر في بلاد العرب، والملاحظ أن دولا صغرى وكبرى لا تقر حق العرب والمسلمين في حياة آمنة، وكثير منهم أخذ على عاتقه مسؤولية التخلص منهم!
ومصر التي انتزعت من أيدي أبنائها المصريين وأشقائها العرب؛ عُزلت بمنح السادات أمريكا 99 في المئة من الأوراق السياسية، فلا يبقى للعالم غير 1 في المئة وما نصيب العرب منه؟!، والحلول عند المسؤولين العرب تخضع لقواعد السوق؛ تستورد من الخارج، ولا تراعي المصالح العامة أو الخاصة، ولا يعنيها غير مصالح الاستيطان والاحتلال والهيمنة فقط.
وهنا نشير إلى ملاحظة حول رفض تل أبيب لـ«التطبيع المشترك» و«الصهينة الجماعية» وهو الشيء المطروح منذ مبادرة الأمير عبد الله (الملك فيما بعد) في 2002، وجاءت ضمن سيناريو للتطبيع المشترك والصهينة الجماعية من الصحافي الأمريكي توماس فريدمان في عموده بصحيفة «نيويورك تايمز» عام 2002، وتناوله في لقاء بالأمير عبد الله، وكان على هيئة خطاب مفترض يوجهه الرئيس جورج بوش الإبن إلى الحكام العرب.
وفي البداية كان قاصرا على قادة مصر والسعودية والاردن وسوريا، على أن تتبناه الـ22 دولة أعضاء جامعة الدول العربية ويقدمونه لتل أبيب مقابل الانسحاب الصهيوني إلى حدود 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية، على أن تقيم الدول العربية الـ 22 علاقات دبلوماسية مع الدولة الصهيونية، إضافة إلى العلاقات التجارية والضمانات الأمنية. وصدقت عليها الدول العربية في مؤتمر القمة ببيروت 2002.
وهكذا بدأت المبادرة مقترحا أمريكيا، وتحولت إلى مبادرة سعودية؛ أقرها مجلس الوزراء في الرياض، ثم أضحت «مبادرة سلام عربية» بعد إقرار مؤتمر القمة العربية ببيروت لها، ونصت صراحة على التطبيع المشترك والصهينة الجماعية، ورفضتها الدولة الصهيونية، فالحلول المنفردة والتطبيع هدف في ذاته؛ لاصطياد الدول العربية فرادى، فالتعامل مع الدول العربية مجتمعة مرفوض، لتعارضه مع مبدأ «فرق تسد» والأسهل هو الانفراد بكل دولة على حده ففرصة التورط والابتزاز أكبر، والأسرار تبقى في الحفظ والصون، دون تسريب كما حدث مع اتفاقات سبقت حرب 1967؛ انكشفت من سنوات قريبة، وعُرِفت القوى المحرضة والمتسترة، وهي أساليب تمارسها الحركة الصهيونية وروافدها الغربية والعالمية والعربية والإسلامية، وما أقلق السعودية هو موقف الرئيس الراحل حافظ الأسد، الذي أبدى ملاحظة حول ما ورد في المبادرة عن «التطبيع الكامل» مقابل الإنسحاب الصهيوني إلى حدود 4 يونيو 1967!
ويعلم الجميع حجم الإمكانيات المتاحة لمنفذي هذه التوجهات؛ أكبر من طاقة فرد وحده على الإنجاز، فبلاد «القارة العربية» التي أعيد احتلالها بالعسكريين والفنيين والقواعد والأساطيل والمناورات العسكرية والأمنية المشتركة؛ فالبلد المحتل مطلوب تحريره، ويبدأ بالسطر الأول في سفر التحرير واستعادة الأراضي المغتصبة، وعودتها لأصحابها، وهذا ما حرر الشعوب في الماضي البعيد والقريب، وهو أسلوب أثبت نجاعته في كل وقت.
والآن أضحت الحلول المنفردة مسعى عاما يتشبث به ليبراليون عرب، وساعدتهم على التعامل مع القوى التي عادت بمعية الغزاة، وعلى متن دباباتهم، أما أولئك الذين تواروا، فعادوا إلى الحياة العامة؛ برعاية أمريكية بريطانية، وتوفرت لهم الأغطية اللازمة، وساعدتهم ودعمتهم قوي وعناصر عربية وإسلامية، وحققوا للدولة والحركة الصهيونية ما عجزت عن تحقيقه منذ «فضيحة لافون» في 1954، وحتى وصول دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 2016.
وما زالت المحاولة مستمرة بجهود صهيو غربية لصياغة «إسلام غربي» على غرار المسيحية الغربية، ودمجه بدوره في مشروع «الدين الإبراهيمي» المرتقب الذي يطبخ على «نار حامية» في الأروقة والدهاليز السرية، ويعكفون على «كتاب مقدس» جديد؛ جُمعت مادته من التوراة والإنجيل والقرآن، ومن المتوقع تطويعه في خدمة الإمبراطورية اليهودية؛، أو «الامبراطورية الإبراهيمية المسلحة»!
* كاتب من مصر
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.