عبد الرحيم التوراني *
حرّكت تصريحات رئيس الحكومة المغربي سعد الدين العثماني بشأن مدينتي سبتة ومليلية الخاضعتين للسيطرة الإسبانية منذ القرن السادس عشر، المواجع المغربية، واستدرجت في الوقت نفسه الإسبان إلى التعبير عن انزعاجهم المعلن من اعتراف الولايات المتحدة بمغربية الصحراء الغربية، المستعمرة الإسبانية السابقة، وذلك مقابل التطبيع الدبلوماسي بين المغرب وإسرائيل!
الاحتلال الاسباني لهاتين المدينتين الاستراتيجيتين (سبتة في 21 آب/ أغسطس 1415، ومليلية في 19 تموز/ يوليو 1497) في حسابات الجغرافيا السياسية، إضافة إلى احتلال الجزر الجعفرية المحاذية لهما، يعد من رواسب ومخلفات الحروب الصليبية في القرن الخامس عشر الميلادي، والتي كان البحر الأبيض المتوسط مسرحًا لَها.
وبرغم أفول عهود الاستعمار في القرن الماضي، فإن سبتة (مساحتها 20 كلم2، وتضم 87 ألف نسمة)، ومليلية (مساحتها 12 كلم2، وتضم 80 ألف نسمة). ظلتا ولا تزالان منذ ذلك التاريخ محتلتين. ويشبه البعض وضعهما باحتلال فلسطين السليبة واستيطانها من قبل الصهاينة الإسرائيليين.
الاسم المغربي الجريح:
لم تعد سبتة ومليلية تردان في الأخبار إلا بصفتهما معبرا للهجرة السرية أو لتهريب البضائع. وربما نسيت الأجيال المغربية الحالية في غمرة همومها وانشغالاتها المتلاحقة، أن سبتة ومليلية قطعتان مبتورتان من “الاسم المغربي الجريح”، وأن اسبانيا الدولة الأوروبية المطلة على الضفة الأخرى من المتوسط ليست إلا مستعمرة ومحتلة لأرض ليست منها ولا هي لها. إذ أن الأمر يدخل في باب “الاحتلال المستمر”، وهو وضع استثنائي وهجين في العلاقات الدولية في زمننا الراهن.
المغرب، شعباً وحكومةً وملكاً، ظل دائما يطالب باسترجاع مناطقه المحتلة من الإسباني المحتل، رافضا تكريس الواقع الاستعماري من خلال الزيارات التي تنظم لرئيس الدولة الاسبانية لسبتة ومليلية، ومحاولات تبديل الصفة الاستيطانية بشرعية مفتقدة.
لكن فترة الاحتلال طالت من القرن السادس عشر، والأمم المتحدة ترفض جدولة القضية في أعمال هيآتها المختصة بتصفية الاستعمار، كاللجنة الرابعة، والاتحاد الأوروبي يتعامل مع المدينتين كجزء من التراب الأوروبي. في حين يعتبر المغرب أنه وضع احتلال. وأوضح رئيس الحكومة سعد الدين العثماني خلال حوار تلفزيوني معه، قبل أيام قليلة، أن “سبتة ومليلية من النقاط التي من الضروري أن يُفتح النقاش حولها”، مشيراً إلى أن هذا الملف “معلّق منذ خمسة إلى ستّة قرون، لكنّه سيُفتح في يوم ما”، على حد قوله.
ملك يتفادى أخطاء ملك:
في الأعوام الأخيرة، أصبحنا لا نكاد نسمع بملف قضية احتلال سبتة ومليلية إلا عندما يتململ القصر الملكي في مدريد، ليعلن عن زيارة مرتقبة أو محددة للعاهل الاسباني يقوم بها للثغرين المحتلين. كما حدث في الصيف الماضي، قبل أن تنشر الوكالة الرسمية الاسبانية “إيفي” (7 تموز/ يوليو 2020) قصاصة مقتضبة تخص تدارك الملك الاسباني وإلغائه الزيارة التي كان سيقوم بها مع عقيلته الملكة ليتيثيا. لتظل الزيارة مؤجلة من دون تحديد على أجندة ساكن قصر العوسج، أو قصر “زارزويلا”، منذ اعتلاء فيليبي السادس العرش قبل ست سنوات.
وقيل إن السبب هو رغبة الملك الاسباني في تفادي أخطاء والده خوان كارلوس في 2007، عندما زار المدينتين. هذا التأجيل أسال كثيرا من الحبر وأنتج كلاما غزيرا في الصحافة والبرامج التلفزيونية الاسبانية، حول إلغاء الزيارة الملكية الأولى من نوعها منذ 13 عاما واستثناء المدينتين من قائمة برنامج الزيارات التي قام بها الملك وقرينته الملكة للمناطق الإسبانية دعما لاقتصادها بعد الركود الذي تسببت فيه جائحة كورونا.. برغم أن الملك “أبدى حماسة كبرى للفكرة”، كما نقل عنه حاكم مليلية “إدواردو دي كاسترو” بالقول إن الملك أخبره أنه “بالفعل سيخطط قريباً لزيارة المدينة”.
جزيرة ليلى:
بعد ثلاث سنوات على وفاة ملك المغرب الحسن الثاني وخلافته من قبل ابنه الأكبر محمد السادس، حصل توتر كبير بين المغرب واسبانيا في سنة 2002، اقترب أن يتحول إلى اندلاع حرب، لولا تدخل الولايات المتحدة وفرنسا، وذلك بسبب اعتزام المغرب إحداث مركز لمراقبة السواحل. وهو ما عرف بقضية “جزيرة ليلى”، أو “جزيرة المعدنوس”. ولتنحدر إثرها العلاقات بين الجارين بسرعة إلى درجات بالغة من السوء والتدهور. ولم تتحسن العلاقات إلا بعد سقوط خوسي ماريا أثنار وحزبه اليميني (الحزب الشعبي)، وصعود الاشتراكيين الاسبان بقيادة الزعيم الشاب “خوسي لويس رودريغيث ثباتيرو”، الذي أظهر ميولا واضحا للتعاون مع الجار الجنوبي الذي لا يبعد جغرافيًا عن إسبانيا سوى بـ 14 كلم فقط.
ما لبثت أن عادت العلاقات الدبلوماسية بين اسبانيا والمغرب إلى نقطة التدهور والفتور بتوقف التعاون المغربي الاسباني، بعد زيارة الملك خوان كارلوس لسبتة ومليلية (2007)، ووقفت مدريد وحدها عاجزة عن مواجهة تدفق أمواج الهجرة غير الشرعية عبر حدودها البحرية مع المغرب وعبر المدينتين المحتلتين باعتبارهما الحدود البرية الوحيدة للاتحاد الأوروبي مع إفريقيا. فالمئات من المهاجرين يحاولون بشكل يومي عبور جدار الأسلاك الشائكة الذي يفصل جيبي سبتة ومليلية عن المغرب. وهو الحاجز الذي اعترض المغرب على بنائه لأنه لا يعترف بالسيادة الإسبانية على سبتة ومليلية. إذ من حين لآخر ينظم المهاجرون غير الشرعيين هجمات منظمة على معبر سبتة بهدف دخول الأراضي الإسبانية، وغالبا ما يسفر بعضها عن سقوط قتلى وجرحى عندما تطلق عليهم القوات الاسبانية الرصاص المطاطي والذخيرة الحية أيضا. كما تم تسجيل قتلى في تدافع النساء المشتغلات بتهريب السلع من سبتة ومليلية، وقد لجأت السلطات المغربية في تموز/ يوليو الماضي إلى الإغلاق النهائي لمعبر باب سبتة أمام مَن وصفوا بـ”ممتهني التهريب المعيشي”، وهو ما انعكس سلبا على العائلات المعتاشة من التهريب، وتسبب في نشأة قضية “العالقين المغاربة في اسبانيا” بعد انتشار جائحة كورونا.
وأوضحت أزمة “جزيرة ليلى” أن ملف المناطق المغربية المحتلة يمكن أن يكون سببًا للنزاع العسكري. فتم تأجيل الملف، وبذلت مساعي من الجانبين من أجل تحريك المياة الراكدة بين الضفتين في السنوات الأخيرة، لتشهد إثرها العلاقات الثنائية بين المغرب وإسبانيا من جديد نموا مضطردا، بلغت ذروته في مجالات متعددة، من الاقتصاد والتعاون الأمني والاستخباراتي إلى الدعم السياسي الذي تقدمه مدريد داخل الاتحاد الأوروبي لجارتها الجنوبية. وأصبح المغرب ثاني شريك تجاري لإسبانيا خارج الاتحاد الأوروبي، فيما أضحت إسبانيا الشريك التجاري الأول للمملكة. وتصدر أكثر من 20 ألف شركة إسبانية منتجاتها نحو المغرب، بينما تتمركز أكثر من 800 شركة اسبانية بالمملكة المغربية، وأكثر من 600 شركة لديها أسهم في شركات مسجلة في المغرب.
وأمسى موضوع استرجاع المغرب لأراضيه المحتلة رهينا بضرورة إجراء مفاوضات مباشرة وحوار حقيقي، حوار يستند جذوره من دعوة سابقة أطلقها الملك المغربي الراحل الحسن الثاني من أجل الاتفاق على حل للوضع القانوني للمدينتين ينتهي بعودتهما المغرب، مع جزر أخرى يحتلها الاسبان. ووجدت فكرة الحوار سندها لدى دول الاتحاد الإفريقي لإنهاء آخر معاقل وبؤر الاستعمار في إفريقيا.
مزاعم استعمارية باطلة:
يروج غلاة اليمين الاسباني إلى كون احتلال سبتة يعود لزمن سابق على تأسيس الدولة في المغرب، وهو كذب بيِّن، فالتاريخ يشهد أن الدولة المغربية تأسست سنة 788 ميلادية، في زمن كانت فيه اسبانيا تحت حكم دولة المرابطين والموحِّدين والمرينيين. فإسبانيا لم تصبح دولة إلا في عام 1492.
ويزعمون أن الأمم المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي تعترف بأن سبتة ومليلية من الجزر الإسبانية. لكن اسبانيا نفسها تطالب من انجلترا استرجاع صخرة جبل طارق المحتلة منذ 1704، كما يؤكد المؤرخُ المغربي محمد عزوز حكيم. “أمَّا على المستوى الجغرافي، فيكفي إلقاء نظرةٍ على الخريطة المغربيَّة، يتبيَّن بالملموس أنَّ سبتة تكون جزءاً من التّراب المغربي، شأنُها في ذلك شأن مليلية وبعض الجُزُر المحتلة من قِبَل الإسبان”.
لم يسبق على امتداد تاريخ احتلال المدينتين أن اعترف السلاطين المغاربة بتبعيتها للإسبان، بل اعتبروها دائما جزءا لا يتجزأ من المغرب يجب استعادته.
كما كافح سكان المدينتين وتمردوا على واقع الاحتلال في نهايات القرن الثامن عشر وبداية القرن العشرين. وقاد الزعيم محمد بن عبدالكريم الخطابي ثورة ضد الإسبان (بين العامين 1921 و1926) أحبطتها إسبانيا بالتحالف مع فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية.
وخلال الحرب الأهلية الاسبانية استقطب فرانكو سكان سبتة ومليلية لدعمه ضد الجمهوريين، وجند شبابهم في حربه ضد حكومة الجبهة الشعبية، مقدما وعدا بمنحهم الاستقلال إذا تولى السلطة في إسبانيا، واستطاع بذلك تَجنيد الآلاف منهم في الحرب الأهلية الإسبانية عام 1936، وحقق انتصاره بهم ثم بلع وعده لهم.
وظلت الحكومات الإسبانية التي جاءت بعد انتهاء عهد الدكتاتورية الفرانكوية، ترفض الاعتراف بمغربية سبتة ومليلية. علما بأن الحزب الشيوعي الاسباني كان له موقف صريح من مغربية المدينتين، عبر عنه بوضوح في بلاغه الصادر في 20 شباط/ فبراير 1961 بدعوته “جميع الإسبانيين وخاصة الشباب إلى المطالبة بإخلاء الجيوش الإسبانية التي ما زالت على التراب المغربي وإرجاع جميع الأراضي للمغرب الذي يملكها جغرافيا وتاريخيا”. إلا أن الحزب اليساري سيلحس لاحقاً موقفه ليصطف إلى جانب اليمين المتطرف في تمسكه باستعمار المناطق المغربية واحتلالها.
الجواز الأحمر:
في مستهل تسعينيات القرن الماضي، كنت في ألمانيا، وصادف أن التقيت بشاب أنيق مديد القامة بشعر طويل مخرس، رافقني في سهرة بأحد مطاعم فرنكفورت، وقدم لي نفسه أنه من أبناء مدينة سبتة، ما جعلني أحتفي به وأستوضح منه ما يجري في المدينة السليبة. فإذا بالشاب يفاجئني أن لا احتلال ولا من يحزنون، وأخرج من جيب جاكيته جواز سفره الاسباني الأحمر معتزا به، إذ يفتح له كل الحدود بعكس جوازي أنا الأخضر.
ثم اقترح علي الشاب السبتي استكمال السهرة في ملهى ليلي، ما أن اقتربنا من باب الملهى حتى ألفينا نفسينا ممنوعين، المُتأسْبن وأنا، من ولوج المكان، بل طردنا تحت التهديد من الحراس الغلاظ أمام المدخل.
لم ينفع الجواز الأحمر مرافقي الشاب، فوجدتها فرصة للرد على تبجحه السابق. قلت له نحن الاثنان نحمل هويتنا في بشرتنا القمحية السمراء، فلا داعي لإشهار بطاقة هوية أو جواز سفر لن يسمح لك بتخطي حدود علبة ليلية.
ومنذ حركة عمر دودوح سنة 1987، الذي قاد احتجاجات واسعة ضد الاستعمار الاسباني لسبتة ومليلية، خمد الحراك الشعبي هناك، بعد أن استدعى الحسن الثاني دودوح إلى الرباط ليعينه محافظا بالإدارة المركزية لوزارة الداخلية في العاصمة الرباط.
وإنك لتجد بعض مغاربة سبتة ومليلية اليوم من الشباب راضين بالنظام الديمقراطي والمدني في مدينتيهما، عندما يلتفتون ويرون ما يجري من تزوير للانتخابات ومن قمع لشباب الريف وغيره من الحراكات الشعبية داخل وطنهم الأصلي المغرب، بل إن مغاربة الداخل عندما يسافرون إلى سبتة مثلا ينبهرون بنظافة شوارعها وهم على بعد أمتار قليلة، وأزبال وأوساخ شوارع تطوان والناضور والحسيمة وطنجة خلفهم.
الأسبان يحتجون!
ما تجب الإشارة إليه، هو غياب علماء الدين في المغرب وتخلفهم حتى الآن عن إصدار أي فتوى بخصوص قضية احتلال سبتة وباقي الثغور المغربية المحتلة. ربما هو ما وجد صداه في دعوة الإسلامي عبد الإله بنكيران لما ترأس الحكومة المغربية وأعلن “أن الوقت لم يحن بعد للمطالبة باسترداد مدينتي سبتة ومليلية”، داعيا الفرقاء السياسيين إلى الابتعاد عما وصفه بـ”المزايدات السياسية” في هذه القضية، مشيرا إلى أن أسبانيا شريك اقتصادي مهم للمملكة!
مع موقف سعد الدين العثماني الأخير، قررت السلطات الإسبانية إستدعاء سفيرة المغرب في مدريد كريمة بنيعيش التي ردت على الإستدعاء بالقول إنه “لم يطرأ أي تغيير على موقف المغرب في ما يتعلق بـسبتة ومليلية، ولا نعترف بالسيادة الإسبانية عليهما بل نعتبرهما محتلتين”.
الجدير ذكره أن الحكومة الإسبانية عبرت بوضوح عن إستيائها الشديد من الإعتراف الأمريكي بالصحراء، وشددت على وجوب الامتثال الى قرارات مجلس الأمن الدولي، وأعلنت وزيرة الخارجية الإسبانية أرانتشا غونزاليس لايا، أن “حل النزاع الإقليمي (قضية الصحراء) لا يعتمد على إرادة دولة واحدة مهما كان حجمها، والحل هو بيد الأمم المتحدة”!
* كاتب مغربي
المصدر: 180 درجة
التعليقات مغلقة.