ليلى المر *
تعد المنظمة الأوروبية للأبحاث النووية في جنيف أضخم مختبر بالعالم في فيزياء الجسيمات، وتتلخص مهامها حول توفير مسرعات الجسيمات، وغيرها من البنى التحتية اللازمة لبحوث فيزياء الطاقة العالية، وهو ما يمنحها مكانة، قلما تحظى بها المؤسسات الدولية، نظراً لأهمية وحساسية مهامها.
في منتدى النورماندي العالمي للسلام، الذي عقدت دورته الثالثة في مدينة كان الفرنسية، ألقى فريديريك بوردري، مدير المسرعات والتكنولوجيا في السيرن (الاسم المختصر للمنظمة)، كلمة حول الثورات التكنولوجية ودورها في السلم والحرب.
وعلى هامش المؤتمر التقت “اندبندنت عربية” الفيزيائي بوردري، ليحدثنا عن تاريخ المنظمة وآمالها، وكيف ينظر إلى مستقبل الطاقة النووية، ورهان العالم عليها، كما تطرق الحديث إلى اتهامات الثقب الأسود التي لازمت المنظمة مع كل تجربة مسرعة، وكذلك رؤيته لمشروع “سيزامي” الأردن، الذي وصفه بـ”حفيد السيرن”. وأخيراً قدم بوردري أمنياته للبشرية عموماً والشباب خصوصاً العازفين عن الحقل العلمي، الذي يرى فيه طوق نجاة.
البداية كانت من مركز الأبحاث النووية، الذي قال عنه بوردري، إنه “منظمة تمولها حكومات الدول الأعضاء وعددها 23، أنشئت في 1954، ومهمتها الأساسية البحث العلمي لصنع مسرعات للجسيمات على غرار المسارع النووي الكبير أو مصادم الهدرونات الكبير المعروف اختصاراً بـ (LHC) الذي يمتد على مساحة 27 كلم، والمنظمة مفتوحة أمام جميع علماء الفيزياء من حول العالم، ويقصدها نحو 14 ألف فيزيائي لتنفيذ بحوثهم”. مشيراً إلى أن “مصادم الهدرونات الكبير يعمل بحسب قواعد التنمية المستدامة، والمنظمة دورها إضافة مسرعات جديدة إلى القديمة، والمسرع الحالي LHC، الذي دشن في 2010، سيبقى في الخدمة حتى 2040”.
رحلة البحث عن المادة المظلمة:
وفي 2012 خطفت تجربة المصادم الأضواء، إذ وُضِع بروتون تحت درجة حرارة عالية وكُسِّر عبر التصادم بسرعة الضوء، وبعد أربع تجارب تأكدت نظرية بوزون هيغز، وحول هذه النظرية يقول مدير المسرعات والتكنولوجيا في السيرن، “نظرية هيغز وضعها ثلاثة علماء فيزياء في 1964، وتعتبر أن كل ما هو موجود في الكون مكون من جسيمات مثل لعبة الليغو، وتضم قطعاً وأجزاء. هناك الهدرون الذي يضم الجسيمات كوارك، التي تتكون من البروتون والنيوترون والليبتون، التي تتكون من الجسيمات الخفيفة مثل الإلكترون، والمويون، والنوتريون. والواضح أن الجسيمات الأولية ليست لديها كتلة في الأصل، لكنها تكتسبها بالاحتكاك، والتفاعل بحقل بوزون. وكان على العلماء تأكيد نظريتهم”.
ويتابع، “يتطلب الأمر، تضافر جهود العلماء خلال نصف قرن، لتأكيد نظرية كتبت على صفحتين، ومن خلال تجربة تصادم الهدرونات استطعنا تأكيد وجود بوزن هيغز. وبفضل التجربة حصل هيغز وانجلرت على جائزة نوبل في 2013. والمصادم (أل أتش سي) يواصل عمله لمعرفة واستكشاف الجوانب الأخرى، وما نعرفه عن المادة التي تشكل الكون لا يعادل سوى أربعة في المئة من كتلة الكون”.
ويواصل بوردري، “ما زلنا في بداية التعرف إلى مجال هيغز. نحن لا نعرف بوزون هيغز كلياً، وما نبحث عنه هو المادة المظلمة التي تشكل 25 في المئة من مادة الكون والطاقة المظلمة التي تشكل 68 في المئة من طاقة الكون. المجرات تدور بسرعة متزايدة، وتبتعد عن بعضها أكثر فأكثر، علينا دراسة خصائص بوزون هيغز، واكتشاف ما هو أبعد من ذلك، نبحث عما يوجد وراء الأربعة في المئة، التي نعرفها، نبحث عن المادة المظلمة لنعرف ما في داخلها”.
ويشير مدير المسرعات في السيرن إلى أن المنظمة تعمل حالياً على “تطوير التقنيات الجديدة وما يمكن تنفيذه ما بعد 2040″، قائلاً “سنعمل على مسارع على مدى مئة كلم يعمل على تكسير الجسيمات بشكل أكبر أي تكسير البروتون بشكل أكبر، ونحصل على ما في المادة المظلمة”.
اتهامات الثقب الأسود:
وبالعودة إلى الوراء وفي 2012، وفور إعلان تجربة المصادم علت الأصوات المنتقدة، محذرة من أن ذلك سيولد ثقوباً سوداء ستبتلع الكرة الأرضية. وعن تلك الاتهامات يقول بوردري، “نظرية مضحكة، ثقب أسود (يبتسم). مع كل تجربة مسرع كانت أصوات تتعالى باتهامنا أننا سنخلق ثقوباً سوداء في الولايات المتحدة. في لونغ آيلند كان هناك مسرع اسمه (ريك)، حينها أيضاً ساد الاتهام بحصول ثقب أسود، هذا الأسبوع كُشِف عن ثقب أسود عملاق في الكون تكون قبل 13 مليار عام، وعندما نحدث تصادماً نشكل ثقوباً سوداء متناهية الصغر، لا تدوم سوى أجزاء من الثانية (ميكروثوان). مادة كتلة مكثفة تجذب ما حولها العالم، لن يختفي بفعل كتلة مكثفة تجذب ما حولها لجزء من الثانية. فعلنا ذلك ولم يحدث أي شيء، كلما تقدمنا في معرفة الكون نجد أشياءً، تمكننا من معرفة الإنسانية ونمو الإنسانية بالتالي”.
وفريديريك بوردري ليس من الأشخاص الذين يرون في الأحداث والتطورات التي نعايشها سبباً للتشاؤم، فهو من مؤيدي نظرية التفاؤل ويشرح ذلك بالقول، “أنا متفائل، كلما بحثنا اكتشفنا ووجدنا أشياء جديدة تُسهم بفهم العالم، والتقدم والتعمق في العلوم يُضاعف بانفتاحنا على الفن والجمال، وتفتُّح أذهاننا على كل ما جميل، وهذا أيضاً يوصلنا إلى الفلسفة والفن وعالم (المتناهي الصغر)، عالم جميل يكشف عن توازنات رائعة، والإنسان في بحث دائم عن المعرفة، وكلما اقتحمنا عالماً نصل إلى عوالم أخرى”.
ويواصل، “دراسة المتناهي الصغر ومقارنته مع اللا متناهي، أي البحث في ماهية الجسيمات الأساسية ومقارنتها مع اللا متناهي في فيزياء الفضاء هما عالمان يلتقيان. كلما فتحنا وعينا وجدنا قوانين جميلة جديدة نحن في بحث دائم”.
سيزامي الأردن حفيد السيرن:
وحول مشروع المسرع الذي تستضيفه الأردن، ويضم عدداً من دول المنطقة، الذي يعمل على مصدر الضوء، يقول فريديريك بوردري “إنه مركز بحوث مستوحى من نموذج (السيرن)، وبالتعاون مع اليونسكو، بتمويل مشترك بين الحكومات، وهو مفتوح للعلوم، يُجري فيه العلماء تجاربهم على شعاع الضوء. بمعنى أنه هو مصدر ضوء للعلوم التطبيقية يحتوي على مسرع بمساحة كلم واحد، قرب عمان في الأردن، ويضم كلاً من قبرص، ومصر، والأردن، وباكستان، وإيران، وتركيا، والسلطة الفلسطينية، و”إسرائيل”، والبحرين. دول ليس لديها علاقات سهلة على الدوام”.
وأضاف “افتُتح المركز في 2017 تحت إشراف اليونسكو، ويستقبل تجارب علماء الفيزياء من الشرق الأوسط، ونجم عنه عقود صناعية عدة، مشروع منفصل عن السيرن، لكن يمكن القول إنه حفيد السيرن. ويجري العمل في المسرع (سيزامي)، على دراسة أشعة إكس، التي ستساعد على اكتشاف مصادر التلوث، سواء في الهواء والتربة. والأشعة ما تحت الحمراء التي ستساعد في الكشف المبكر عن سرطان الثدي، ودراسة بلورات أشعة إكس، لا شك في أن الاختبارات في سيزامي ستمكن الباحثين في ميادين الطب والبيولوجيا، والكيمياء والصحة، والبيئة والزراعة والآثار. ويعلق بوردري قائلاً “المؤسف أنه لا يجري التعريف بهذه المبادرات. مشروع يضم الجميع بعيداً عن التناقضات السياسية، لكن مع الأسف لا يُسلط الضوء عليه”.
من السيرن انطلق الويب:
ويوضح بوردري، “كل النتائج مفتوحة للجميع. لا نعمل على تطبيقات عسكرية. التقنيات في سيرن مفتوحة الويب ولد في السيرن. وهنا يمكن التساؤل لماذا أوروبا لم تموّل ستارت آب، لتستفيد من هذا الإنجاز؟”. ويروي العالم الفيزيائي الظروف التي أدت إلى اختراع الشبكة العنكبوتية التي هي أساس عالمنا اليوم بالقول، “الويب وجد في السيرن. في عام 1989 بدأنا العمل على مصادم البوليترون، والإلكترون والبوزيترون. كنا نريد أن يتمكن كل فيزيائي في العالم من الوصول إلى هذه المعطيات، وكان ذلك يتطلب وصل حواسيب مختلفة تعمل على برامج مختلفة بين بعضها، ليتمكن الفيزيائيون من تحليل المعطيات، والوصول إليها من أي بقعة في العالم”.
ويتابع “وجدنا أن (آي بي ام) تعمل على توصيل حواسيبها معاً، ونحن قلنا إن علماءنا لا يمكن أن نفرض عليهم نموذجاً معيناً من الأنظمة والحواسيب. أنشأنا الشبكة، وأردنا أن تكون مفتوحة للجميع مجاناً. لكن العالم يضع تكنولوجيا ينقلها إلى المجتمع، لكن تحويلها إلى مكسب تجاري يحدث بقرار سياسي. بمعنى أننا وجدنا النظام لكن الدول لم تمول شركات صغيرة ستارت آب، كون المعرفة هي ملك الإنسانية”.
البحث العلمي لا يثير الشباب:
وكون الميدان العلمي لا يجذب كثيراً من الفتيات وعما إذا كان السيرن يعمل على خطة لتشجيعهن للتوجه إلى هذا الميدان يقول بوردري، “نحاول التعريف بأعمالنا. اليوم لدينا سيدة مديرة في السيرن فابيولا جانوتي، وجُدد لها لرئاسة ثانية، وهذا شجع الكثير من النساء، لكن على الدولة ووزارة التربية كما على وسائل الإعلام، العمل على برامج تلفزيونية تعمم ذلك، وعلى المدرسة معالجة العلوم بشكل أوسع. كنت مع مديرة صحيفة (لوبس)، وقالت لي (من بين 40 صحافياً تجد بصعوبة واحداً منهم يريد العمل على الميدان العلمي). نحن هنا في فرنسا لدينا نقص بالمهندسين، والتقنيين. والجيل الحالي يتوجه إلى التجارة والمال. والبحث العلمي الأساسي لا يثير الشباب. عندما أذهب إلى الهند أرى أن المهندسين هم نجوم أبطال، لكن في فرنسا الحال ليست كذلك”.
ومن توغل بالبحث العلمي يجد أن شغفه لا نهاية له، وهذه حال بوردري، الذي يرى أن أمنيته “مواصلة البحث، والاهتمام بالأزمة المناخية، وتحديات البحث عن مصدر نظيف للطاقة”، موضحاً أن العالم بأمس الحاجة إلى “تطوير تكنولوجيا جديدة لإيجاد مصادر طاقة متجددة، والعمل على تخزين الطاقة النووية النظيفة، ونعمل على تحويل النفايات النووية عبر تكسير الذرة، لتكون دورة حياته أقصر، للحصول على طاقة نووية نظيفة، وهذا تحدٍ ورهان يجب أن يتوجه إليه الجيل الجديد. الطاقة النووية برأيه ليست “مصدراً بالياً، بل هذا هو التحدي للأجيال المقبلة، أن نتوصل إلى طاقة نووية نظيفة”.
* صحفية لبنانية
المصدر: اندبندنت عربية
التعليقات مغلقة.