علي أنوزلا *
لمّا اندلعت ثورات “الربيع العربي” قبل عشر سنوات، شعر حكام أنظمة عربية كثيرة بأن عروشهم أصبحت في مهبّ الريح، لكن أكثر من داهمه الخوف هو الكيان الصهيوني الذي رأى فيه تهديدا استراتيجيا ووجوديا لاستمراره، خصوصا بعد أن اقتحم المتظاهرون السفارة الإسرائيلية في مصر، في جمعة “تصحيح المسار”، وأزالوا العلم الإسرائيلي ورفعوا المصري محله، ومزّقوا الوثائق التي تناثرت في الهواء، معلنة نهاية مرحلة وبداية أخرى جديدة. شكلت تلك الصور صدمةً كبيرة للساسة الإسرائيليين وحلفائهم في الدول الغربية، خصوصا في أميركا التي بدت متحمّسةً للحراك الشعبي العربي لمّا اندلعت شرارته الأولى في تونس. لقد أدّت تلك الأحداث وما صاحبها من تغيرات كبيرة في المنطقة، فاجأت مراكز البحث والاستخبارات والمؤسسات العسكرية في المنطقة والعالم، إلى فرض تحدّياتٍ كبيرة على كل أعداء ذلك الربيع، الذين رأوا فيه تهديدا حقيقيا لوجدهم، وبات مطلوبا منهم بلورة ردود فعل آنية لوقف موجة التحوّلات الكبيرة التي أحدثها، ووضع سياسات بعيدة الأمد للحد من تكرار هزّاته غير المتوقعة.
وليس خافيا أن إسرائيل كانت أكبر من استشعر الخطر من تداعيات “الربيع العربي” على مستقبلها ووجودها في المنطقة، وقرأ ساستها في تلك التحولات تهديدا لادّعائها أنها “الديمقراطية الوحيدة” في المنطقة الذي كانت تروّجه لكسب تعاطف الغرب معها، ورفضا شعبيا لوجودها عندما ربطت شعارات الثورة بين رحيل الأنظمة وتواطؤاتها في نصرة القضية الفلسطينية. والتقى خوف إسرائيل مع خوف أنظمةٍ عربيةٍ صغيرة سرعان ما احتلت الواجهة بعد أن سقط النظام المصري، وقبله تم القضاء على النظام العراقي، ليبدأ أخطر تحالفٍ شهدته المنطقة بين النظام الصهيوني في إسرائيل والنظام في كل من الإمارات والسعودية، فهذه الأنظمة الثلاثة استشعرت الخوف نفسه من انتقال العدوى إليها، ومن صعود أنظمة شعبية ديمقراطية في محيطها تهدّد وجودها.
لذلك، ما نشهده اليوم من تطبيعٍ بقيادة هذه الأنظمة الثلاثة ومباركتها ما هو سوى استمرار لسيرورة الثورات المضادّة، التي بدأت بعسكرة الربيع العربي في سورية وليبيا واليمن، وقمع حراك البحرين التي ما زالت تقيم فيها قوى “درع الجزيرة”، وخنق اقتصاد الدول التي بدأت فيها إرهاصات الدمقرطة، خصوصا في تونس والمغرب والأردن. وأدى هذا التحالف إلى أن ينشأ حلف ثلاثي، شبّهه المؤرّخ المغربي، المعطي مُنجب، بـ “الحلف المقدس” الذي شهدته أوروبا عقب قيام الثورة الفرنسية ما بين روسيا وألمانيا والنمسا، تحت شعار الحفاظ على السلم والنظام، وللحدّ من تداعيات تلك الثورة على المقدّس الديني الذي كانت تلك الأنظمة تدّعي تجسيده والدفاع عنه أمام شعارات الثورة الفرنسية التي كانت تنادي في موجتها الأولى بالحرية والمساواة. فما أشبه ما يحدث اليوم من تحالف بين إسرائيل وأنظمة عربية رجعية، وما حدث قبل مئتي عام من تحالف بين روسيا القيصرية ودول أوروبية لكسر ربيع الثورة الفرنسية. ومعلومٌ أن تلك الثورة، في بدايتها، لم تستمر سوى خمس سنوات، كانت كلها مضطربة، ما مهّد للانقلاب العسكري الذي قاده نابوليون بونابرت الذي أقام نظاما ديكتاتوريا، ووضع حدّا للمد الثوري الفرنسي. واستمر الوضع كما هو زهاء ستين حولا، قبل أن تندلع من جديد الموجة الثانية من الثورة الفرنسية عام 1848، والتي عرفت بثورة ربيع الشعوب أو الثورات الأوروبية، وعمّت نحو خمسين دولة أوروبية، واعتبرت من أكثر الموجات الثورية انتشارا في التاريخ، قامت على المطالبة بالحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية.
ما نشهده اليوم من موجات “التطبيع” العربي مع إسرائيل ما هي سوى استمرار للثورات المضادّة التي تعتبر إسرائيل عقلها المدبر، والإمارات والسعودية ذراعها المنفذ، والأنظمة العربية المطبعة هي الحلقة الأضعف التي تشبه فئران تجارب في مختبر كبير هو مختبر التاريخ الذي نادرا ما يكرّر نفسه، وغالبا ما يفاجئ من يراهنون على التحكّم في سيرورته. وليس غريبا أن الأنظمة العربية التي وقفت ضد الربيع العربي، وقادت الثورة المضادة هي التي تقف اليوم في صف التطبيع من الإمارات العربية التي قادت الثورات المضادّة في كل البلدان التي شهدت انتفاضاتٍ شعبية، إلى المغرب، حيث عرف النظام ونخبته السياسية كيف يلتفّان على مطالب الشعب. ولو أردنا أن نضع لموجة التطبيع الحالية التي تكتسح أكثر من دولة عربية عنوانا عريضا، لكان هو غلق قوس “الربيع العربي”، وإعلان انكساره، من دون أن يعني ذلك الاستكانة إلى التحاليل السهلة التي تريد أن تقنعنا بأن القوس أغلق وإلى الأبد، في قراءة متسرعة وخاطئة لمجريات الأحداث التي لا يمكن التنبؤ بتطوراتها.
لقد شكّلت الفوضى التي أحدثتها إسرائيل وأذرعها في المنطقة العربية، لتكسير الربيع العربي، حالة من الانهزام واليأس من التغيير في نفسية المواطن العربي، وأتاحت الفرصة للكيان الصهيوني وأذرعه العربية للتمدّد وفرض أنفسهم قوى بديلة تَعِد بالاستقرار والتنمية للشعوب التي أرهبتها حروب الثورات المضادّة، لكن ما لا يجب أن يخفى علينا أن المشروع الصهيوني هو المحرّك الأساس لما يحدُث اليوم في المنطقة من مخاض، يحمل في ثناياه بذور تفجيره من الداخل، بما أنه مشروعٌ عنصريٌّ توسّعي استيطاني يسعى إلى فرض هيمنته على المنطقة وعلى العالم، وهو أخطر بكثير من مشروع روسيا القيصرية، وأذرعها الأوروبية التي قادت الثورة المضادّة ضد الموجة الأولى من الثورة الفرنسية، وكان من نتائجها المباشرة ولادة ديكتاتور فرنسا، نابليون بونارت، الذي غزت جيوشه أوروبا كلها، وتجاوزت أطماعه الاستعمارية حدودها، قبل أن تأتي الموجة الثانية من الثورة الفرنسية لتصحّح أخطاء الموجة الأولى، وتعيد تشكيل أوروبا الحديثة كما نعرفها اليوم.
لذلك لا يجب أن نتشاءم من موجة التطبيع العربي اليوم، لأنها تحمل في طياتها الكثير من تناقضاتها التي ستنفجر، طال الأمد أم قصر، في وجه مهندسيها، لأنها لم تأت بإرادة من الشعوب، وإنما فرضت عليها فرضا لتزيد من حدّة الاحتقان الذي لا يمكن التنبؤ بموعد انفجاره الثاني الكبير.
* صحفي مغربي من أصول صحراوية
المصدر” العربي الجديد
التعليقات مغلقة.