الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

سياسات الهوية الطائفية والعلاقات الدولية في الشرق الأوسط في العقد الأول بعد الانتفاضات العربية: من “ما إذا” إلى “كيف” و”أين” و”متى” و “من”

أحمد عيشة *

المحتوى:

– مقدمة

– الانتفاضات العربية وسقوط وصعود سياسات الهوية السائلة

– مقاربة لشرق أوسط جديد مُطيّف

– مناقشة العلاقات الدولية في شرق أوسط طائفي

– التغيير- والاستمرارية- في شرق أوسط مشبع بالهوية

مقدمة:

في العقد الماضي، حازت الطائفية مكانة بارزة في المناقشات حول السياسة الإقليمية في الشرق الأوسط؛ إذ دار كثير من النقاش حول أهمية سياسات الهوية الطائفية في العلاقات الدولية، في مرحلة ما بعد الانتفاضات العربية. هذا سؤال وجيه، وقد يغدو أكثر أهمية في السنوات المقبلة، إذا كانت “القومية المتطرفة” الجديدة ستحل محل الطائفية التي كانت محلّ تركيز واهتمام في العقود الأخيرة، كما اقترح بعض المراقبين [[1]]. ومع ذلك، عندما يتعلق الأمر بفهم دور سياسات الهوية الطائفية في العلاقات الدولية في الشرق الأوسط، في العقد الأول من مرحلة ما بعد الانتفاضات العربية، من المفيد تكملة سؤال “ما إذا” بمجموعة أخرى من الأسئلة، تركز على أدوات استفهام أخرى: كيف، أين، متى، ومَن؟ للإجابة عن هذه الأسئلة الإضافية، يجدر الانتباه إلى بعض القضايا الخلافية في الجدل الطائفي الأوسع، وإعادة النظر في بعض النقاشات الأكثر كلاسيكية حول نظرية العلاقات الدولية والشرق الأوسط.

الانتفاضات العربية وسقوط وصعود سياسات الهوية السائلة:

تقليديًا، ظهرت سياسات الهوية في دراسة العلاقات الدولية للشرق الأوسط، وهي منطقة اشتهرت بأنها “ترشح بسياسات الهوية” [[2]]. وقد ناقش الباحثون مسألة أهمية العوامل الفكرية، مقارنة بالعوامل المادية، وكذلك كيف أن وجود الهويات المتعددة العابرة للدول قد أثرّ في ديناميكيات السياسة الإقليمية، وهل يميز هذا الأمر المنطقة عن العلاقات الدولية في أي مكان آخر [[3]].

تحدّت الانتفاضات العربية هذا المفهوم للشرق الأوسط المشبع بالهوية. واقترح البعض إمكانية ظهور “شرق أوسط جديد”، يمكنه أن يمهد الطريق لنوع جديد من سياسات الهوية، أو ربما يجعل النقاش بأكمله حول سياسات الهوية من النقاشات التي عفا عليها الزمن [[4]]. وبالتالي، فإن غياب الشعارات القومية العربية أو الإسلامية الكلاسيكية، وحضور الأعلام المصرية فقط في ميدان التحرير، دفع البعض إلى الادعاء بأن الدولة والهوية الوطنية (القطرية) في الشرق الأوسط سادت أخيرًا.

ومع ذلك، فإن تسارع صعود الصراعات الطائفية والتعبئة الدينية العابرة للحدود الوطنية أوضحَ أن من السابق لأوانه إعلان الهويات العابرة للدولة، في مرحلة ما بعد “القرن العشرين”. تماشيًا مع ملاحظة لينش Lynch حول كيفية “تضافر عدد من الاتجاهات الأعمق في الأعوام الأخيرة، من أجل إعطاء قوة جديدة مخيفة لسياسات الهوية بشكل أكثر وضوحًا وأكبر” [[5]]، فقد بدأت أنواع مختلفة من الهويات العابرة للدول لاحقًا تلقى اهتمامًا متزايدًا. لفت بعض المراقبين الانتباه إلى هويات الدولة الفرعية القائمة على القبيلة أو العرق، وناقشوا إمكانية أن يؤدي ذلك إلى إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط [[6]]. واقترح آخرون أن السمة المميزة لسياسات الهوية في “الشرق الأوسط الجديد” ستكون “الطائفية الجديدة”، التي صاغها عبدو Abdo، ووصفها آخرون بأنها عملية “تطييف” [[7]].

مقاربة لشرق أوسط جديد مُطيّف:

الطائفية ليست موضوعًا جديدًا على جدول الأعمال الأكاديمي لسياسات الشرق الأوسط، لكنها أصبحت في العقد الماضي “شعارًا في السياسة والإعلام والأوساط الأكاديمية” [[8]]؛ فالنقاشات السابقة، حول إمكانية أن تكون الطائفية أمرًا مهمًا، قد استُبدلت باعتراف متزايد -حتى بين المتشككين السابقين- بأن الطائفية أصبحت “عاملًا حقيقيًا في السياسة” [[9]]. وقد انعكس ذلك في ظهور “موجة” منشورات حول الطائفية الشيعية/ السنية، في الشرق الأوسط، تناقش كيف يمكن تصور الطائفية وتحويلها إلى مفهوم وتخطيطها وشرحها، من حيث أسبابها وعواقبها، على السياسات المحلية والإقليمية [[10]].

في الجدل الأكثر تنورًا من الناحية النظرية، حول الطائفية، من الممكن تحديد طريقة مشتركة لتأطير الدراسة الحالية للطائفية [[11]]. حيث تُقدّم على أنها مستقطبة بين المقاربتين الذرائعية والبدائية/ الأزلية (primordialism and instrumentalist). كلتا المقاربتين اللتين تزعمان أن نفوذهما كبير تُعدّ خاطئة؛ لأنهما متهمتان، إما باختزال كل شيء إلى الطائفية، وإما تفسيرها بأنها ظاهرة ثانوية محضة. لذلك عادة ما يتبع هذا النقد دعوة للباحثين في الطائفية لتجاوز كل من البدائية والذرائعية.

يفتقر هذا التأطير إلى عدد من السمات المهمّة لنقاش الطائفية الفعلي. قد يكون نقد البدائية والذرائعية صحيحًا، ولكن عند الفحص الدقيق يتبين أن لهاتين المجموعتين (المعسكرين) تأثيرًا في الأوساط الأكاديمية أقل بكثير مما يُزعم. في الواقع، قد يكون من الصعب العثور على باحث أصيل يعتمد المقاربة البدائية، في الوقت الحاضر. وبدلًا من ذلك، يبدو أن معظم الباحثين يرون أنهم يمثلون “الطريق الثالث” المنشودة التي تتجاوز البدائية والذرائعية.

في الوقت نفسه، يتضح أيضًا أن “الطريق الثالث” ليس مجرد حقل مزدحم جدًا، وهو مأهول أيضًا بأنواع مختلفة جدًا من “المخلوقات”. وبالتالي، فإن الاتفاق حول الحاجة إلى تجاوز كل من البدائية والذرائعية لم يُترجم إلى أي “إجماع جديد”، من حيث كيفية القيام بذلك بشكل أكثر تحديدًا، وبدلًا من ذلك، من الممكن تحديد مجموعة من الأنواع المختلفة من استراتيجيات “الطريق الثالث” [[12]]. وهذا يترك مجالًا كبيرًا للخلافات والنقاش بين أولئك الذين يؤيدون، من حيث المبدأ، ذلك الطموح “البعيد” العام. لذلك، بدلًا من استخدام كل الطاقات في “الرهان على حصان خاسر”، يُنصح المهتمون بالخلافات الحقيقية في الجدل العلمي الحالي حول الطائفية بتحويل انتباههم إلى الاختلافات بين الاقتراحات المتعددة، حول كيفية التعامل مع الطائفية بطريقة غير بدائية ولا ذرائعية.

مناقشة العلاقات الدولية في شرق أوسط طائفي:

هذه الرؤى المستمدة من الجدل الأوسع حول الطائفية مفيدة أيضًا، عندما يتعلق الأمر بكيفية مناقشة دور الطائفية في العلاقات الدولية في الشرق الأوسط، في أعقاب الانتفاضات العربية. على غرار النمط السائد في الجدل الأوسع حول الطائفية، غالبًا ما تم تأطير المقاربات الحالية على أنها مستقطبة بين معسكرين: أولئك الذين يختزلون كل شيء إلى الانقسام الطائفي القديم بين الشيعة والسنّة، وأولئك الذين يركزون فقط على الجغرافيا السياسية ينتهي بهم الأمر بالابتعاد عن تفسير الطائفية. رُفضت كلتا المقاربتين، وبدلًا من ذلك يدعو النقاد إلى “طريق ثالث” جديد، يُزعم أنه متفوق ويتجاوزهما [[13]].

كما هو الحال في الجدل الأوسع حول الطائفية، من الممكن بالفعل العثور على أمثلة قريبة من هذين المعسكرين المستقطبين. ومع ذلك، عند الفحص الدقيق، يتبين -مرة أخرى- أنهم قليلون، وأن الأمثلة “النقية” إلى حد ما ستأتي عادةً من السياسيين أو الصحفيين أو الباحثين أكثر من المناظرات الأكاديمية الأكثر تنورًا من الناحية النظرية. وبالتالي، يبدو أن معظم الباحثين يعترفون بأن الطائفية أصبحت “بطريقة ما” عاملًا يجب أخذه بالحسبان، عند دراسة العلاقات الدولية في الشرق الأوسط في العقد الأول بعد الانتفاضات العربية. لكن الغالبية تؤكد أيضًا أن السياسة الطائفية بعيدة كل البعد عن “كل الحقائق/ كل شيء”؛ لأن الطائفية ليست سوى عامل واحد من بين عوامل أكثر أهمية [[14]]. وبالتالي، يبدو أن القضية المتنازع عليها حقًا تتعلق بكيفية انتقال المرء من العبارة المبتذلة إلى حد ما، بأنه من المهم الانتباه إلى كل من الجغرافيا السياسية وسياسات الهوية الطائفية، إلى تحديد كيف ومتى وأين ولمن تهمّ الطائفية في العلاقات الدولية.

هذه النقطة بعيدة كل البعد عن كونها جديدة، بالنسبة إلى أولئك المطلعين على النقاشات السابقة المشبعة بالهوية حول العلاقات الدولية في الشرق الأوسط. وبالتالي، لا يوجد إجماع واسع إلى حد ما حول مدى أهمية كل من الجغرافيا السياسية والهويات، ولكن الادعاء ببساطة أن “الهوية مهمة” لم يعد كافيًا، كما لاحظ لينش Lynch بالفعل، منذ عقدَين [[15]]. وكنتيجة لذلك، كانت دراسات الشرق الأوسط المتعلقة بالعلاقات الدولية أقلّ انشغالًا بالسؤال حول “ما إذا”، من اهتمامها بسياسات الهوية: “كيف”، “أين”، “متى”، و “لمن” [[16]]. جنبًا إلى جنب مع الرؤى المستمدة من النقاش الأخير، حول “ما بعد/ التجاوز” في الجدل الأوسع حول الطائفية، يمكن أن تكون بعض الفروق والأبعاد التحليلية من هذا الجدل الكلاسيكي مفيدةً لإعادة النظر، عندما يتعلق الأمر بفحص دور السياسات الطائفية في العلاقات الدولية للشرق الأوسط ما بعد الانتفاضات العربية.

أولًا، السؤال “كيف”. بإعادة النظر في بعض المناقشات في العلاقات الدولية بشكل عام، وبين باحثين من الشرق الأوسط بشكل أكثر تحديدًا؛ من الممكن تحديد عدد من الطرق التي يمكن أن تؤثر بها الهويات والأفكار على العلاقات الدولية [[17]]. بعبارات مبسطة: من الممكن تجميع الاقتراحات في مجموعتين عنقوديتين ذواتي بؤر مختلفة إلى حد ما. تتخذ المجموعة الأولى والأكثر بُعدًا نقطة انطلاقها وجهة النظر القائلة بأن الهويات والأفكار تعطي معنًى لوقائع الجهة الفاعلة وفهمها لمصالحها. لذلك تعد الهويات حاسمة لكيفية تصور الفاعلين للعالم الدولي، والإجابة على أسئلة أساسية مثل “ما هو التهديد؟” و “من الذي يهدد؟ وضد من؟” التي تؤثر مرة أخرى في ما يُعد قابلًا للتفكير/ (غير قابل للتفكير) وممكنًا/ (غير ممكن) [[18]]. توجّه المجموعة الثانية مزيدًا من الانتباه إلى السؤال: كيف يمكن للهويات أن تقيد وتمكّن الجهات الدولية الفاعلة في الطريقة التي تسعى بها لتحقيق مصالحها، بغض النظر عن مصدرها. وبالتالي، فإن انتشار أفكار وهويات محددة، من ناحية، يمكن أن يفرض تكاليف على أشكال معينة من السلوك، ويجعل الجهة الفاعلة تتردد أو تمتنع عن اتباع ما سيكون في مصلحتها من منظور مادي ضيق. ومن ناحية أخرى، يمكنها أيضًا تمكين الجهات الفاعلة من متابعة مصالحها بطرق غير ممكنة بخلاف ذلك [[19]].

بالنسبة إلى دور السياسات الطائفية في العلاقات الدولية في الشرق الأوسط، توفر هذه الأدبيات بعض الأدوات المفيدة، لأنها تدعو إلى مناقشة حول تحديد دقيق لموقع أهمية الطائفية في “المعادلة السببية”. بمعنى آخر: هل أثرت الطائفية في وجهات نظر إيران أو المملكة العربية السعودية للعالم، وتصوراتهم للتهديد، ومفاهيمهم عن مصالحهم، أو طرق تحديد الأصدقاء/ الأعداء؟ أم أن ذلك التأثير ناتجٌ عن تطييف العقود الأخيرة للسياسات الإقليمية الذي يتعلق بشكل أساسي بكيفية تمكين هذه العملية، وفي الوقت نفسه، تقيّد البلدان في السعي وراء المصالح، التي لا تتعلق بالطائفية بحد ذاتها بقدر ما تتعلق بالجغرافيا السياسية أو مخاوف بقاء النظام. على سبيل المثال، حتى لو لم تكن سياسة إيران الإقليمية واختيار الحلفاء على علم بهويتها الشيعية في حد ذاتها، فإن التطييف الإقليمي قد يستمر في لعب دور، من خلال الحد من قدرة إيران على الوصول إلى الجهات الفاعلة في “العالم العربي السني”، مقارنة بالعقد السابق للانتفاضات العربية، وفي الوقت نفسه، ربما تكون قد عززت الروابط مع مختلف “الفاعلين الشيعة غير الحكوميين” [[20]].

هناك طريقة أخرى لمقاربة سؤال “كيف”، وهي من خلال الأدبيات المتعلقة بالسياسة/ الدين (الدولية)، التي تسأل عن سياسات الهوية التي تنطوي على الهويات الدينية: هل تختلف إلى حد ما عن تلك السياسات المتعلقة بأنواع أخرى من الهويات. بعد مناقشة بروباكر Brubaker حول “الأبعاد الدينية للصراع السياسي والعنف”، تعتمد الإجابة على هذا السؤال على إمكانية اشتراك المرء في فهم “التشكيل” أو “التنظيم المعياري” للهويات الدينية [[21]]. بينما يرى بروباكر أن الهويات “فارغة ثقافيًا، فإن “محتوى” الهويات مهمّ في الفهم الأخير. ناقشت الشيخ Sheikh مسألة مساواة الهويات الدينية بأنواع أخرى من سياسات الهوية في العلاقات الدولية، أهي ممكنة أم أنها تتمتع ببعض الصفات المميزة. بينما تؤيد وجهة النظر الأخيرة، فإنها (الشيخ) تؤكد في الوقت نفسه الحاجة إلى بدائل للطرق الوجودية -والذرائعية- لإدراج الدين في العلاقات الدولية. على هذه الخلفية، تميّز بين إدراك الدين كمجتمع عقائدي، أو كقوة، أو كفعل كلامي [[22]].

في حين أن الدين والطائفية ليسا متماثلين، فإن هذه الورقة تلفت الانتباه إلى السؤال الأساسي: هل ينبغي اعتبار جميع الهويات “عقيمة”، وبالتالي فإن تأثيرها على العلاقات الدولية سيكون هو نفسه؛ أو من الضروري الانتباه إلى “محتواها” والتمييز بين الديناميكيات المرتبطة بالهويات المتمحورة حول الطائفة وأنواع أخرى من الهويات. بالإضافة إلى السؤال حول الهويات الطائفية بحد ذاتها: هل تختلف عن الأشكال الأخرى لسياسات الهوية [[23]]، يبرز عدد من الأسئلة الأخرى. على سبيل المثال، تختلف الديناميكيات المتعلقة بالهويات العابرة للدولة المتعلقة بالشيعة عن نظيرتها السنية [[24]]، وهل تحدث فرقًا، إذا انتهت المنافسات التي تنطوي على سياسات الهوية بين الجهات الفاعلة المرتبطة بتلك “الهويات المتمركزة حول الطائفة” أو المختلفة، على سبيل المثال خصومات قطر/ تركيا/ السعودية، مقابل إيران والسعودية [[25]]؟ هل يعقل رسم أوجه تشابه، بين الحرب الباردة العربية “الكلاسيكية” التي دارت حول هوية عربية قومية، والتنافسات الإقليمية الحالية التي وُصفت بأنها حرب باردة إقليمية “طائفية جديدة” أو “شيعية-سنية” [[26]]؟ هل يُحدث فرقًا أي نوع من الهوية (العابرة للدولة) يؤكده الرعاة الخارجيون عند الاقتراب من “الوكلاء” المحليين في سورية واليمن والعراق، وماذا عن ليبيا، حيث لا تلعب الطائفية الشيعية/ السنية أي دور؟ [[27]] وأخيرًا، هل الأهمية المتغيرة لإيران كونها فارسية أو إيرانية أو شيعية، وكون المملكة العربية السعودية عربية أو سنية أو سعودية، أمر مهم لتصوراتهم للتهديد والسلوك الدولي [[28]]؟

ثانيًا، بالنظر إلى كيف أن بروز الطائفية قد تعاظم وتضاءل عبر الزمان والمكان أيضًا، فمن المناسب أيضًا التفكير في “متى” و”أين” و “مَن” تهمّ سياسات الهوية الطائفية. بالنسبة إلى سؤال “من”، يسأل غاوس Gause في مكان آخر من هذه القضية: هل تُعد الطائفية في التكوين الإقليمي الحالي ظاهرةً من أعلى إلى أسفل، أو من أسفل إلى أعلى؟ تحمل الإجابة على هذا السؤال تداعيات على المرء: هل ينبغي له أن يوجه الانتباه بشكل أساسي إلى نخبة الجهات الفاعلة، أي صانعي السياسة الأجانب، أو إلى الجمهور الأوسع ومختلف الجهات الفاعلة غير الحكومية؟ في حين أن غاوس في وقت سابق قد شدد بشكل أساسي على النخب، وعلى الديناميكيات من أعلى إلى أسفل، في مناقشته لهذه القضية، يبدو أن الديناميكيات التصاعدية (الأسفل للأعلى) تلعب دورًا أكبر [[29]]. من خلال التركيز على سؤال “من”، سيصبح المرء أكثر انتباهًا إلى كيفية اختلاف دور الطائفية وبروزها بين فئات مختلفة من الفاعلين. على سبيل المثال، بالنسبة إلى البعض قد لا تكون الطائفية سوى أداة تستخدم بصورة ذرائعية، وبالنسبة إلى آخرين يمكن الشعور بها بصورة أعمق، أو مع مرور الوقت، قد يتم استيعابها وتستقل بحياتها الخاصة [[30]].

عندما يتعلق الأمر بأسئلة “أين” و”متى”، فقد يكون من المفيد إعادة النظر في الأدبيات الأوسع حول السياسة الدولية للصراعات العرقية، لا سيّما النقاشات الخاصة بالشرق الأوسط، حول نفاذية الدولة العربية في حقبة ما بعد الاستعمار في “غرفة الصوت الإقليمية التي يتردد فيها صدى المعلومات والأفكار والآراء مع القليل من الاهتمام بحدود الدولة” [[31]]. تلفت هذه الورقة الانتباه إلى كيفية ارتباط بروز الهويات العابرة للدول بمستويات تكوين الدولة، وكيف يوفر وجود الدول الضعيفة والهويات القوية العابرة للدول فرصًا كبيرة للحرب بالوكالة.

وبالتالي، يمكن للقوى الأجنبية استخدام الهويات العابرة للدول للتدخل والاشتراك في الصراعات المحلية في الدول الضعيفة ذات الحدود القابلة للاختراق (منطق ترتيب الداخل وفق متطلبات الخارج)، وكطريقة لمعالجة “معضلة الأمن العرقي”، يمكن للجهات الفاعلة المحلية أن تلجأ إلى الهويات العابرة للدولة، كطريقة لطلب الدعم من الخارج (المنطق من الداخل إلى الخارج/ الاحتواء). كما اقترح العديد من المراقبين [[32]]، فإن وجهة النظر التحليلية هذه مفيدة أيضًا في تحديد وشرح أين ومتى أصبحت السياسة الإقليمية “طائفية” بشكل خاص؛ وباختصار: غالبًا ما يكون ذلك في سياق “الحروب الأهلية الإقليمية”، حيث تصبح البلدان ذات مؤسسات الدولة الضعيفة أو المنهارة، مع نوعٍ ما من الانقسام الطائفي محليًا، ساحاتٍ للمنافسات المعقدة “الداخلية-الدولية” التي تنطوي على مشاركة قوى خارجية وجهات فاعلة محلية (غير حكومية)، على سبيل المثال سورية والعراق واليمن.

التغيير- والاستمرارية- في شرق أوسط مشبع بالهوية:

خلال العقد الماضي، احتلت الطائفية مكانة بارزة في المناقشات حول السياسة الإقليمية في الشرق الأوسط. بطريقة ما، يمثل هذا تغييرًا عن النقاشات التي سبقت الانتفاضات العربية. في ذلك الوقت، ظهر نوع من العروبة عادةً على أنه المثال الأبرز للهويات العابرة للدول، حيث ادعى البعض أنها أصبحت قديمة في القرن الحادي والعشرين. ومن ناحية أخرى، يمكن أيضًا اعتبار هذا التركيز على السياسة الطائفية استمرارًا لنقاش أطول وأوسع نطاقًا، حول دور الهويات العابرة للدول في السياسات الإقليمية للشرق الأوسط والعوامل الفكرية في العلاقات الدولية على نطاق أوسع. كما هو موضح أعلاه، من المفيد أخذ هذه المناقشات القديمة في الحسبان. إلى جانب توفير مجموعة من الأدوات التحليلية والاختلافات المناسبة لدفع النقاش من سؤال “ما إذا” إلى تفسيرات أكثر دقة للأسئلة: “كيف” كانت سياسات الهوية الطائفية مهمة في العقد الأول بعد الانتفاضات العربية، و”أين” و “متى” و “من”، يمكنها أيضًا تقديم رؤى حول السؤال الرئيس: هل كانت طائفية العقود الأخيرة للسياسات الإقليمية تشكل حقًا نوعًا جديدًا من سياسات الهوية في الشرق الأوسط أم لا؟

– اسم الدراسة الأصلية: Sectarian identity politics and Middle East international relations in the first post-Arab Uprisings decade: from ’whether’ to ‘how,’ ‘where’ ‘when’ and for ‘whom’

– الكاتب: مورتن فالبجورن، Morten Valbjørn

– مكان النشر وتاريخه: جامعة آرهوس، قسم العلوم السياسية، مشروع دراسات الشرق الأوسط، SCHOOL OF BUSINESS AND SOCIAL SCIENCES,AARHUS UNIVERSITY The Project on Middle East Political Science (POMEPS)

– رابط الدراسة: https://bit.ly/3eocnC0

هوامش:

[1] Ardemagni, E., “Gulf Monarchies’ Militarized Nationalism”, Sada – Analysis on Arab Reform, February 28, 2019, https://carnegieendowment.org/sada/78472; Alhussein, E., “Saudi First: How Hyper-Nationalism Is Transforming Saudi Arabia,” in ECFR Policy Brief (2019).
[2] – Telhami, S. and M. Barnett, “Introduction: Identity and Foreign Policy in the Middle East,” in Identity and Foreign Policy in the Middle East, ed. S. Telhami and M. Barnett (Ithaca: Cornell University Press, 2002), 3. ومن المفارقات أن الشرق الأوسط لم يوصف فقط بأنه مكان “يقطر/ يفيض بسياسات الهوية”، ولهذا السبب من المهم الانتباه إلى العوامل الفكرية. كما صُورت المنطقة أيضًا على أنها واحدة من الأماكن في العالم التي “تناسب أفضل وجهة نظر واقعية للسياسة الدولية، وانظر أيضًا Nye, J. S., Understanding International Conflicts – an Introduction to Theory and History (N.Y.: Longman, 1997), 148.
[3] – for an overview Valbjørn, M., “Introduction: The Role of Ideas and Identities in Middle East International Relations,” in International Relations of the Middle East (Vol. 3: The Role of Ideas and Identities in Middle East International Relations), ed. M. Valbjørn and F. Lawson (London: Sage, 2015).
[4] – Valbjørn, M.,” Studying Identity Politics in Middle East International Relations before and after the Arab Uprisings,” in The Routledge Handbook to the Middle East and North African State and States System, ed. R. Hinnebusch and J. Gani (London: Routledge, 2020).
[5] – Lynch, M., “The Entrepreneurs of Cynical Sectarianism,” POMEPS Studies no. 4 (The Politics of Sectarianism) (2013).
[6] – Wright, R., “Imagining a Remapped Middle East,” New York Times, September 28 2013. See also POMEPS, “Rethinking Nation and Nationalism” POMEPS Studies no 14 (2015).
[7] – Abdo, G., The New Sectarianism: The Arab Uprisings and the Rebirth of the Shi’a-Sunni Divide (New York: Oxford University Press, 2017); Hashemi, N. A. and D. Postel, eds., Sectarianization: Mapping the New Politics of the Middle East (London: Hurst Publishers, 2017).
[8] – Matthiesen, T., The Other Saudis – Shiism, Dissent and Sectarianism (Cambridge: Cambridge University Press, 2015), 16.
[9] – Gause, F. G., “Sectarianism and the Politics of the New Middle East “, Brookings Upfront Blog, June 8, 2013, https://brook.gs/3jSD1UB; cf. Gause, F. G.,”Saudi Arabia: Iraq, Iran, the Regional Power Balance, and the Sectarian Question,” Strategic Insights 6, no. 2 (2007).
[10] – Mabon, S. and L. Ardovini, eds., Sectarianism in the Contemporary Middle East (London: Routledge, 2018); Hinnebusch, R., “The Sectarian Revolution in the Middle East,” R/evolutions: Global Trends & Regional Issues 4, no. 1 (2016); Valbjørn, M. and R. Hinnebusch, “Exploring the Nexus between Sectarianism and Regime Formation in a New Middle East: Theoretical Points of Departure,” Studies in Ethnicity and Nationalism 19, no. 1 (2019); Haddad, F., Understanding ‘Sectarianism’: Sunni–Shi’a Relations in the Modern Arab World (London: Hurst Publishers, 2020).
[11] – for an elaboration of the below argument see Valbjørn, M., “Beyond the Beyond(S): On the (Many) Third Way(S) Beyond Primordialism and Instrumentalism in the Study of Sectarianism,” Nations and Nationalism 26, no. 1 (2020).
[12] – ميزت في مكان آخر بين ثلاثة أنواع واسعة من “إستراتيجيات الطريق الثالث”: 1) “المنقذ الجديد”، “2” “الطفل ومياه الاستحمام”؛ iii) “Lego Theorizing”، انظر Valbjørn، M.، “Beyond the Beyond (S)
[13] – for examples of this framing see Colgan, J., “How Sectarianism Shapes Yemen’s War,” POMEPS Briefings, no. 28 (The Gulf’s Escalating Sectarianism) (2016); Darwich, M. and T. Fakhoury, “Casting the Other as an Existential Threat: The Securitisation of Sectarianism in the International Relations of the Syria Crisis,” Global Discourse 6, no. 4 (2016); Malmvig, H., “Coming in from the Cold: How We May Take Sectarian Identity Politics Seriously in the Middle East without Playing to the Tunes of Regional Power Elites,” POMEPS Studies, no. 16 (International Relations and a new Middle East) (2015); Cook, S. A., “Why the Myth of Sunni-Shia Conflict Defines Middle East Policy — and Why It Shouldn’t “, Salon, May 7, 2017; Nasr, V., “The War for Islam”, Foreign Policy – Argument, January 22, 2016; Mabon, S., Saudi Arabia and Iran: Power and Rivalry in the Middle East (London: I.B.Tauris, 2016).
[14] – Mabon, S., “Saudi Arabia and Iran: Islam and Foreign Policy in the Middle East,” in Routledge Handbook of International Relations in the Middle East, ed. S. Akbarzadeh (New York, NY: Routledge, 2019).
[15] – Lynch, M., “Jordan’s Identity and Interests,” in Identity and Foreign Policy in the Middle East, ed. M. Barnett and S. Telhami (Ithaca: Cornell University Press., 2002), 56.
[16] – Mabon, “Saudi Arabia and Iran: Islam and Foreign Policy in the Middle East”; Valbjørn, “Studying Identity Politics in Middle East International Relations before and after the Arab Uprisings.”
[17] – Jepperson, R. L. et al., “Norms, Identity, and Culture in National Security,” in The Culture of National Security: Norms and Identity in World Politics, ed. P. Katzenstein (N.Y.: Columbia University Press, 1996); Saideman, S., “Conclusion: Thinking Theoretically About Identity and Foreign Policy,” in Identity and Foreign Policy in the Middle East, ed. S. Telhami and M. Barnett (Ithaca: Cornell University Press, 2002); Goff, P. M. and K. C. Dunn, eds., Identity and Global Politics – Empirical and Theoretical Elaborations (N.Y.: Palgrave, 2004); for an overview Valbjørn “Introduction: The Role of Ideas and Identities in Middle East International Relations.”
[18] – Bilgin, P., “Whose ‘Middle East’? Geopolitical Inventions and Practices of Security,” International Relations 18, no. 1 (2004); Bilgin, P., “Identity/Security,” in The Routledge Handbook of New Security Studies, ed. J. P. Burgess (London: Routledge, 2010); Campbell, D., Writing Security – United States Foreign Policy and the Politics of Identity (Minneapolis: University of Minnesota Press, 1998).
[19] – Saideman, “Conclusion: Thinking Theoretically About Identity and Foreign Policy”.
[20] – Byman, D., “Sectarianism Afflicts the New Middle East,” Survival 56, no. 1 (2014); Mabon, “Saudi Arabia and Iran: Islam and Foreign Policy in the Middle East”.
[21] – Brubaker, R., “Religious Dimensions of Political Conflict and Violence,” Sociological Theory 33, no. 1 (2015).
[22] – Sheikh, M. K., “How Does Religion Matter? Pathways to Religion in International Relations,” Review of International Studies 38, no. 2 (2012).
[23] – مالفينغ، “الخروج من البرد: كيف يمكننا التعامل مع سياسات الهوية الطائفية على محمل الجد في الشرق الأوسط، من دون اللعب على أنغام النخب الإقليمية”.
[24] – Haddad, F., “Anti-Sunnism and Anti-Shiism: Minorities, Majorities and the Question of Equivalence,” Mediterranean Politics (2020).
[25]– Cherif, Y., “Dahlan Vs Belhaj: The Maghreb in the Arab War of Narratives,” in The Middle East: Thinking About and Beyond Security and Stability, ed. L. Kamel (Bern: Peter Lang, 2019); Gause, F. G., “What the Qatar Crisis Shows About the Middle East”, Washington Post – The Monkey Cage, June 27, 2017;
[26] – Valbjørn, M.,” Dialogues in New Middle Eastern Politics – on (the Limits of) Making Historical Analogies to the Classic Arab Cold War in a Sectarianized New Middle East.”
[27] – Phillips, C. and M. Valbjørn, “‘What Is in a Name?’: The Role of (Different) Identities in the Multiple Proxy Wars in Syria,” Small Wars & Insurgencies 29, no. 3 (2018).
[28] – Maloney, S., “Identity and Change in Iran’s Foreign Policy,” in Identity and Foreign Policy in the Middle East, ed. S. Telhami and M. Barnett (Ithaca: Cornell University Press, 2002); “The Roots and Evolution of Iran’s Regional Strategy,” Atlantic Council – Issue Brief, no. September 28 (2017); Alhussein, “Saudi First: How Hyper-Nationalism Is Transforming Saudi Arabia.”
[29] – Compare Gause’s discussion in the present issue and for instance Gause, “Beyond Sectarianism: The New Middle East Cold War,” in Brookings Doha Center – Analysis Paper (2014).
[30] – Lynch, “The Entrepreneurs of Cynical Sectarianism.”
[31] – Posen, B. R., “The Security Dilemma and Ethnic Conflict,” Survival 35, no. 1 (1993). Salloukh, B. F. and R. Brynen, eds., Persistent Permeability? Regionalism, Localism, and Globalization in the Middle East (Aldershot: Ashgate, 2004); Gause, F. G., “Systemic Approaches to Middle East International Relations,” International Studies Review 1, no. 1 (1999); Binder, L., ed. Ethnic Conflict and International Politics in the Middle East (Gainesville: University Press of Florida, 1999); Noble, P., “The Arab System: Pressures, Constraints, and Opportunities,” in The Foreign Policies of Arab States, ed. B. Korany and A. E. H. Dessouki (Boulder: Westview, 1991).
[32] – Gause, “Beyond Sectarianism: The New Middle East Cold War.”; Hinnebusch, “The Sectarian Revolution in the Middle East.”; Salloukh, B. F., “Overlapping Contests and Middle East International Relations: The Return of the Weak Arab State,” PS: Political Science & Politics 50, no. 3 (2017).

* مهندس وناشط سوري ومعتقل سياسي سابق ومترجم لغة إنكليزية

المصدر: حرمون

التعليقات مغلقة.