حسين عبد العزيز *
لم يُدلِ جون بايدن، ولا المقرّبون منه، في حملته الانتخابية، بتصريحات كثيرة بخصوص الملفّ السوري، إنما اكتفوا بإطلاق تصريحات عامة لا توضّح اتجاه الرياح السياسية الأميركية المقبلة. وقد فهم بعض المراقبين أن قلة التصريحات تدل على عدم اهتمام بايدن بالملف السوري، وأن هذا الملف لن يكون أكثر من ملف صغير ضمن ملفات أكبر وأكثر تعقيدًا، في حين ذهب آخرون إلى أن قلة التصريحات لا تعبّر عن توجهاته المقبلة في سورية.
بغض النظر عن هذه المقولات، لا يحتاج الملف السوري إلى تصريحات بارزة وقوية من بايدن، لعدم وجود حاجة إلى ذلك، فالوضع السوري يفتقر إلى الخطورة، بعدما أصبح في حالة “ستاتيكو” على الصعيدين السياسي والعسكري. هذه هي المعادلة الثابتة التي تُبنى عليها الإستراتيجية الأميركية تجاه سورية، أيًا كان من يشغل منصب الرئاسة.
وسبق أن عبّر المبعوث الأميركي الخاص إلى سورية جيمس جيفري، في تصريحات له، عن الموقف الإستراتيجي للدولة الأميركية أو لـ “الدولة العميقة”، عندما قال، قبل نحو عشرين يومًا: “إن فرض حالة الجمود، وعرقلة التقدم في بعض الأحيان، مع الاحتواء قدر الإمكان في أحيان أخرى، ليست بالأمر السيئ البتة”، وأضاف -وهذا هو المهم- أن “الجمود الراهن في الملف السوري يساوي الاستقرار في تلك القضية الشائكة”.
هنا يكمن الهدف الأميركي، سواء أكان ترامب في السلطة أم بايدن، حيث لا يوجد قرار أميركي إستراتيجي بإزاحة النظام عبر الأدوات العسكرية، ما يعني أن السياسة الأميركية المقبلة حيال سورية ستكون مبنية على التراكمات التي ترسخت في عهد ترامب، ولن تكون انقلابًا عليها.
على خطى ترامب:
سيستكمل بايدن ما أنجزه ترامب في الملفات الرئيسية:
1- العقوبات الاقتصادية: ستستمر إدارة بايدن في فرض عقوبات اقتصادية على النظام السوري، وقد كشف تأجيل الدفعة الأخيرة من العقوبات، إلى ما بعد الانتخابات الأميركية، أن إستراتيجية العقوبات الاقتصادية هي إستراتيجية ثابتة للولايات المتحدة.
2- القوات العسكرية: الوجود العسكري الأميركي في سورية أمرٌ محسوم، عند كلا الحزبين الجمهوري والديمقراطي، ومن دون هذا الوجود، ستفقد واشنطن أداة الضغط الأقوى لديها على النظام السوري وإيران وروسيا، وقد كشف أنتوني بلينكن (كبير مستشاري السياسة الخارجية لبايدن) أن الولايات المتحدة، في ظل رئاسة بايدن، ستحتفظ بوجود عسكري في شمال شرق سورية كوسيلة ضغط ضد الأسد.
بطبيعة الحال، سيظل العنوان العريض للوجود الأميركي منوطًا بمحاربة تنظيم (داعش)، ليس فقط لأنها قد تشكل تهديدًا، بل لأنها تشكل حجة قانونية لبقاء القوات الأميركية في سورية.
3- إعادة الإعمار: الموقف الأميركي من إعادة الإعمار في سورية هو مسألة إستراتيجية فوق حزبية، لا تخضع لاختلاف الإدارات الأميركية في البيت الأبيض، فرفض إعادة الإعمار، قبيل نضوج التسوية السياسية، هو موقف ثابت في الولايات المتحدة.
وفي لقاءٍ مع الجالية السورية في واشنطن، قال أحد مستشاري حملة بايدن، مطلع تشرين الثاني/ نوفمر الماضي: إن إدارة بايدن في حال تشكلها ستوضح للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أنه لا يمكن أن يكون هناك دعم أميركي أو أوروبي لإعادة إعمار سورية، في ظل غياب إصلاح سياسي، ولا بد أن يكون ذلك الإصلاح ذا مغزى مع حركة موثوقة بشأن القضايا الإنسانية والمساءلة الرئيسية.
4- عودة اللاجئين: مسألة عودة اللاجئين إلى سورية مسألة محسومة في الولايات المتحدة، عند كلا الحزبين، حيث لا عودة إجبارية قبل نشوء مناخ محايد وآمن، وهو مناخ لن يحصل قبيل حدوث تغيرات سياسية كبيرة.
وكذلك ستبقى العناوين العريضة الثلاثة للتحرك الأميركي في سورية هي ذاتها: محاربة تنظيم “داعش” ومنعه من تشكيل أي تهديد جديد؛ منع إيران من التمدد والضغط لإخراجها مع الميليشيات التابعة لها من الجغرافية السورية؛ إيجاد حل سياسي وفق القرار الدولي 2254.
لن يطرأ أي تغيير في سياسة بادين تجاه سورية، حيال هذه المسائل، إلا إذا حصلت متغيرات كبيرة مفاجئة على الأرض، أو إذا حدثت متغيرات دولية طارئة، من شأنها أن تدفع واشنطن إلى تغيير أولوياتها داخل سورية.
دعم “الإدارة الذاتية”:
تشير المعطيات القائمة على الأرض من جهة، وتصريحات بايدن حول دعمه للأكراد من جهة أخرى، إلى أن أهمية حالة الاستقرار التي تحدث عنها جيفري، تستدعي تعزيزًا للعلاقة مع “الإدارة الذاتية”، على المستويين السياسي والعسكري، بما يؤدي إلى تقوية النفوذ الكردي في مواجهة النظام وتضييق الخناق عليه أولًا، ومواجهة الحضور العسكري التركي في الشمال السوري ثانيًا.
قبل نحو أربعة أشهر، نشر موقع حملة بايدن الانتخابية إطارًا لسياسته تجاه المنطقة، تحت عنوان “جو بايدن والمجتمع العربي الأميركي: خطة شراكة”، جاء فيها أن بايدن سيعيد الالتزام بالوقوف مع المجتمع المدني والشركاء المؤيدين للديمقراطية على الأرض في سورية. والمقصود بـ “الشركاء المؤيدين للديمقراطية على الأرض” الأكرادُ المنضوون تحت مشروع “الإدارة الذاتية”، بكل أفرعها السياسية والعسكرية والإدارية، وليس المقصود فصائل المعارضة التي تحمل سمات إسلامية في أغلبها.
ولذلك، فإن الجديد في جعبة بايدن، حيال الملف السوري، سيكون مركزًا على دعم الأكراد، كحامل عسكري، قادر على المحافظة على “الستاتيكو” القائم الذي تحدث عنه جيفري من جهة؛ وكحامل اقتصادي يمنع النظام من الاستفادة من خيرات الجزيرة السورية من جهة ثانية؛ وكحامل سياسي، يمكن أن يحدث فرقًا، إذا ما انخرط الأكراد التابعون لحزب “الاتحاد الديمقراطي” في التسوية السياسية، كحليف للمعارضة، من جهة ثالثة.
أولوية بايدن تجاه الأكراد ستؤدي إلى قطع الطريق المترنح بين “الإدارة الذاتية” من ناحية، وروسيا والنظام السوري من ناحية أخرى، لكنها بالمقابل ستدفع الأكراد إلى الاستقواء على تركيا، وربما التفكير في شن هجمات عسكرية، لدفع المعارضة السورية والجيش التركي إلى الانسحاب من المنطقة الواقعة بين تل أبيض شمال غرب الرقة ورأس العين شمال غرب الحسكة، وإن كان هذا الاحتمال بعيدًا.
يعتقد بايدن أن المتغيرات الدولية والمتغيرات الإقليمية، خلال العقدين الآخيرين، دفعت تركيا نحو أماكن من شأنها أن تهدد المصالح الأميركية، وكلما ازدادت تركيا قوة في الداخل والخارج، شقّت لنفسها مسارات بعيدة عن العباءة الأميركية. ولذلك، سيذهب الرئيس المقبل إلى رفع مستوى التصعيد تجاه تركيا، لكن هذا التصعيد سيبقى محكومًا بعوامل عديدة، أهمّها مدى استعداد المؤسسات الأميركية الحاكمة للذهاب مع بايدن نحو تصعيد العلاقة مع تركيا، في ظل المخاطر التي قد تترتب على هذا التصعيد.
عند هذه النقطة، ستعود مسألة الموازنة بين أولوية المصالح الأميركية الإستراتيجية بعيدة المدى، والمصالح التكتيكية قريبة المدى من جديد، وهو النقاش الذي دار في الأوساط الأميركية، في عهد ترامب الذي حسم المسألة بدعم التوجه التركي في الشمال السوري للمحافظة على المصالح الأميركية الإستراتيجية.
تفرض الجغرافية السياسية سطوتها على الجميع، حتى في أشد اللحظات التاريخية حرجًا، حين يتجاهل البعض قوتها وكينونتها. ووفقًا لذلك، لن يكون الضغط الأميركي على تركيا من داخل الملف السوري، وإنما من خارجه (العلاقة التركية – اليونانية، العلاقة التركية – الروسية)، ذلك أن أي ضغط أميركي قوي تجاه تركيا داخل الساحة السورية سينعكس بشكل قوي على المعارضة، وهو ما لا يريده بايدن الذي أكد نيته مواصلة الضغـوط على النـظــام السوري، ودعــم مقومات المجتمع المدني.
* كاتب سوري
المصدر: حرمون
التعليقات مغلقة.