بدرالدين عرودكي *
لو قيِّضَ للغة العربية من ينطق باسمها قديمًا وحديثًا وراهنًا، لتجسَّدَ هذا الناطق في كلُّ من قضى حياته في متاهاتها ودهاليزها ووديانها و جبالها، دراسة من أجل فقهها أو ممارسة في إبداع ثمراتها، أو من أجل إشباع نهم دفعه فضوله إلى معرفتها أو بفعل تطلعه إلى امتلاك ناصيتها كي يستجيب بها إلى إلحاحات هواجسه في كتابة مختلفة أو جديدة. ومع إحاطة كل واحد بينهم بما اكتسبه سلفه من قبله خبرة وممارسة، لم يبلغ الأمر بأيٍّ منهم، طوال تاريخها كله، أن زعم، على موسوعية ما اكتسبه هو نفسه من معارف فيها، بلوغَ تخومها القصوى. ذلك أن اللغة العربية ــ شأن كلِّ لغة في العالم ــ، هي الأخرى، كائن حيٌّ لا يكفُّ عن النمو والتطور والاتساع من خلال عملية تجدد تستعيد خلالها، وفي كل فصل من فصولها، طاقاتها وألقها. وفي هذا المجال يمكن الاستشهاد بأسماء كبيرة، قديمة وحديثة، لا تبدأ بسيبويه أو ابن جني أو الجاحظ أو عبد القاهر الجرجاني، ولا تنتهي بكل تأكيد عند طه حسين أو إحسان عباس أو عادل زعيتر أو نجيب محفوظ.
تلك، ولا شك، مجرّدُ صورة يمكن أن تستدعيها مختلف ضروب الاعتراض أو الجحود التي استهدفت ولا تزال تستهدف هذه اللغة، مشككة في قدراتها على مسايرة تطورات العصر المتسارعة التي تجلت آثارها منذ بداية العصور الحديثة، ولا تزال تتجلى كلَّ يوم في مفاهيم ومصطلحات ومسمّيات العلوم الوضعية والدقيقة. وهي اعتراضات ترد غالبًا إما في معرض الحديث عن أسباب لجوء البعض من العرب إلى التعبير بلغة أخرى غير اللغة العربية في المجالات الأدبية أو الفكرية أو العلمية، أو خلال النقاشات في مجال الصعوبات التي يواجهها محترفو الترجمة خلال محاولاتهم ترجمة أمهات الكتب في العلوم الإنسانية والاجتماعية إلى اللغة العربية. ما أكثر المرات التي ردَّدَت فيها قاعات الندوات بباريس أو سواها من المدن الغربية، أصداءَ حجة الأوائل التي يمكن تلخيصها نقلًا عن قائليها في أن “اللغة العربية عاجزة، بفعل غياب التقاليد في تراثها، عن التعبير عن الهواجس والمشاعر والأحاسيس الحميمة لدى الإنسان؛ ومن ثمَّ فمن المستحيل على كاتب أو كاتبة التعبير عن كل ذلك في قصة أو رواية باللغة العربية”. أو أن “ما يعانيه العالم العربي من تأخر في مجال العلوم والتكنولوجيا جعل من اللغة العربية عاجزة عن قول مفاهيم ومصطلحات لأشياء ولموضوعات لم تنشأ في بيئتها ولم تكن من ابتكار أبنائها”. ومن ثم لا يسع العلماء، الذين درسوا هذه العلوم بإحدى اللغات الأوربية ولاسيما الإنكليزية، أن يقولوا بلغة عربية سليمة ما يسعهم قوله بسهولة بالغة في اللغة التي اكتسبوا علومهم بها.
أما في مجال الترجمة إلى اللغة العربية، فسنعثر على من يقول أو يكرر القول بفقر أو بعجز اللغة العربية عن قول المفاهيم والمصطلحات. لكن مسألة العلاقة بين اللغة العربية والترجمة تتجاوز العلاقة المباشرة مع اللغة العربية ــ على صعيد الكتابة ــ لتشمل، إلى جانب طبيعة اللغة العربية ذاتها، جوانب أخرى سواء تلك الخاصة بعلاقاتها مع اللغات الأخرى أو بعلاقة من يمارس الترجمة إليها بها، أو المتمثلة في مختلف الإشكاليات التي تطرحها عملية الترجمة بصورة عامة أو بالنسبة للترجمة من وإلى اللغة العربية بوجه خاص.
ذلك كله يقود إلى أسئلة أساس تنصبُّ سواء على قدرة اللغة العربية على قول مختلف وجوه الحداثة في الأشياء وفي الموضوعات، أو على المشكلات التي تطرحها ترجمة ثمرات العلوم الحديثة الراهنة إليها. أسئلة يمكن أن نجد في مسار اللغة العربية التاريخي إجابات عنها تدحض معظم المزاعم المشار إليها حول عجز اللغة العربية عن مسايرة الحداثة والمعاصرة في مجال العلوم المختلفة وتبيِّن، في الوقت نفسه، أن العجز إنما يقوم في جهل من يتحدثون عنه باللغة العربية واقعًا وتاريخًا. فقد كان من الواضح أن بعض الأدباء الذين اختاروا الكتابة بلغة أخرى غير لغتهم الأم المفترضة وصرّحوا بأن سبب هذا الخيار كان عدم قدرة اللغة العربية على التعبير عن “الهواجس والمشاعر والأحاسيس الحميمة” كانوا يخجلون من قول جهلهم بهذه اللغة أو الاعتراف بعجزهم عن التعبير بواسطتها، في الوقت الذي لم يكن أحد يعترض على خيارهم الكتابة بالفرنسية أو بالهولندية أو بسواها من اللغات الأوربية. وعلى غرار الأدباء، كان زعم بعض العاملين في حقل البحث العلمي وهم يكررون ما يقوله الأدباء عن عجز اللغة العربية عن قول المصطلحات والمفاهيم الجديدة في حقول العلوم الإنسانية والاجتماعية، يشي، هو الآخر، بقصور معرفتهم باللغة العربية وبمسارها وبتاريخها.
ذلك أن أحدًا من الذين عرفوا هذه اللغة وقدراتها وأسرارها، أكانوا من القدماء أو من المعاصرين، لم يقل يومًا بقصورها أو عدم قدرتها على استيعاب كل جديد في الأِشياء وفي الموضوعات. بل وظف معارفه بها وبأسرارها كي يسهم في تطويرها أو بالأحرى في تطويعها كي تستجيب للحاجات التي تفرضها عليه موضوعات عمله: كاتبًا، لكي تصير أيضًا لغة النثر بقدر ما هي لغة الشعر، كما فعل الجاحظ قديمًا أو نجيب محفوظ حديثًا؛ ومترجمًا، لكي تستجيب إلى متطلبات ثقافة أخرى وضرورات فهمها أو التواصل معها كما كان الأمر في القرن الثامن بالنسبة إلى الذين جندوا أنفسهم لنقل ثمرات الثقافة اليونانية أو الثقافة الهندية والفارسية، كما فعل ابن البطريق وابن ناعمة وابن المقفع وأمثالهم. لم تكن اللغة العربية قبل القرن الثامن الميلادي لغة فلسفة أو لغة منطق، ومع ذلك، استطاع مترجمو بيت الحكمة في بغداد آنئذ ترجمة جزء هام من التراث الفلسفي اليوناني ولاسيما في فرعيه الأساسيين، ما وراء الطبيعة أو الميتافيزيقا والمنطق؛ كما تمكن كبار الكتاب العرب يومئذ، وفي مقدمتهم أبو عثمان عمر بن بحر الجاحظ (776 ـ 868 م.) لا من تطويع هذه اللغة لقول أشياء الحياة اليومية فحسب، بل لقول مفاهيم العلوم الوضعية على اختلافها في آن معًا.
لم تكن الشكوى من قدرات اللغة العربية أو جحود إمكاناتها ملجأ كتاب ومفكري ومترجمي ذلك العصر. فقد كانوا قادرين، بامتلاكهم ناصية لغة نشأوا على ممارستها، على أن يعثروا على كل ما يطرحه عليهم عصرهم من مشكلات في التواصل مع الثقافات الأخرى أو في ابتكار أساليب جديدة في التواصل مع أبناء لغتهم. على هذا النحو، لم يكن القرن الثامن منعطفًا في تطور اللغة العربية التي تجسَّدت كبرى ثمراتها في القرآن فحسب، بل لحظة تأسيس فاصلة أخرى في الثقافة العربية والإسلامية، سوف تكون دليلًا للعصور القادمة.
ولسوف يتلقف هذه التجربة الخلاقة كتابُ ولغويّو ومفكرو النهضة الثقافية العربية التي انطلقت من بلاد الشام اعتبارًا من النصف الثاني من القرن التاسع عشر. لاشك أن الصدام/اللقاء مع الغرب، الذي بدأ مع حملة نابليون على الصعيدين العسكري والثقافي ثم مع مشروع بناء أول دولة عصرية في عهد محمد علي، كان حافزًا على استعادة العمل الجاد في مجال التفاعل الثقافي والحضاري مع الثقافات الأخرى ولاسيما في الغرب الذي كانت العملية الحضارية قد انتقلت إليه منذ من منتصف القرن الخامس عشر وتجسدت على التوالي نهضة فكرية وعلمية واقتصادية وصناعية. كان إلزام أعضاء البعثات الدراسية التي أرسلها محمد على إلى فرنسا، والتي رافق أولاها رفاعة رافع الطهطاوي، بترجمة كتاب أساس في الحقل الذي يدرسه كل طالب من طلاب البعثة، فاتحة مشروع ثقافي هائل سوف يستمر صعودًا وهبوطًا بتأثير التطورات السياسية التي عاشتها مصر طوال القرن التاسع عشر، وسيتخذ في مساره الطويل، منذ ذلك الحين، صيغًا عديدة على الصعيد المؤسساتي لن تؤثر مع ذلك على مضمونه الأساس: التفاعل الثقافي والحضاري عبر الترجمة.
استمرت هذه الحركة في القرن العشرين وانصرف كبار روادها من مصر وبلاد الشام إلى ترجمة عدد من كبرى الأعمال الأدبية: سامي الدروبي (1921 ـ 1976) الذي ترجم الأعمال الكاملة لدستويفسكي، وعادل زعيتر (1895 ـ 1957) الذي كان من بعض ترجماته روح الشرائع لمونتسكيو والعقد الاجتماعي لجان جاك روسو وروح الجماعات وروح الثورات والثورة الفرنسية لغوستاف لوبون والرسائل الفلسفية لفولتير. وسيتكاثر المترجمون مع تأسيس نواة عمل جماعي مثلته لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة عام 1932 بإسهام طه حسين وإدارة أحمد أمين (1889 ـ 1954)، والتي نشرت عددًا كبيرًا من الترجمات الأدبية والفكرية عن الإنكليزية والفرنسية والفارسية على أيدي مترجمين كبارًا، مثل الشاهنامة للفردوسي التي ترجمها الفتح بن علي البداري وقارن ترجمتها على الأصل الفارسي وصححها عبد الوهاب عزام، وتاريخ الفلسفة الغربية لبرتراند راسل ترجمة زكي نجيب محمود، وكتاب السياسة لأرسطو ترجمة أحمد لطفي السيد.
وربما كان الأكاديمي والكاتب والناقد الأدبي إحسان عباس (1920 ـ 2003) أفضل من يقدم مثلًا على ما يمكن للغة العربية بين يدي خبير أن تسفر عنه من مكنوناتها وغناها. فإلى جانب مؤلفاته في النقد الأدبي والكتب التراثية التي حققها، ترجم إحسان عباس مثلما شارك في ترجمة العديد من الكتب ولاسيما في مجال النقد الأدبي. إلا أن قيامه ونجاحه بترجمة إحدى روائع الأدب العالمي، وهي رواية موبي ديك لهرمان ميلفيل، التي كان يمكن لها بسبب صعوبتها أن تردع الكثير من المترجمين سواه عن الاقتراب منها أو تثبط همتهم في الإقبال عليها، يبرهن على أن لا شيء يستحيل نقله من الثقافات الأخرى إلى اللغة العربية. يكفي أن نستشهد بما رواه إحسان عباس نفسه عن هذه التجربة:
“عندما عُرض علي أن أترجم موبي ديك كنت سعيداً لأنني سأتحول الى ترجمة كتاب ينتسب الى النوع الروائي ولم أكن حينها واعياً بالمعضلات التي ستواجهني في نقل هذا العمل العظيم الى العربية. وقد تمثلت المعضلة الكبرى في عدم وجود معاجم عربية تعرض للمصطلح البحري مقارنة بالقواميس الانكليزية. ولهذا بدأت في البحث المحموم عما تضمّه المعاجم العربية من مصطلحات بحرية ممكنة، ولسوء حظي لم أعثر علي الكثير منها إذ لم يكن لدى العرب تجربة ممتدة في عالم البحار، ولم يبنوا الكثير من السفن لتكون لديهم ثروة اصطلاحية خاصة بالبحر والسفن. كانت السفن التجارية هي ما عرفوه وعندما دخلوا العالم الحديث لم يكونوا قد بنوا سفناً حديثة، ومن ثمّ لم يسعفني التراث العربي بالكثير في هذا الشأن. وقد عملت لهذه الأسباب على صك المصطلحات التي تسهل على القارئ متابعة عالم الرواية. ومن ذلك ما أطلقته على عملية صيد الحوت التي دعوتها “تحويتاً”، وهي كلمة اشتققتها من “الحوت”، أما صائد الحيتان فقد سميته “حواتاً”. وفي مواضع عدة من الترجمة كان علي أن أحيد عن الأصل قليلاً لكي أجعل التعبير مفهوماً بالعربية، مثلما كان عليّ في مواضع أخرى أن أترجم الكلمة الواحدة بعبارة أو جملة. ولكي أنصف ملفيل في ترجمتي العربية وأنقل روح أسلوبه الرفيع لم ألجأ الى لغة الحياة اليومية في العربية إلا في ترجمتي لكلام كويكوج حيث استخدمت عربية مكسّرة تشبه ما يستعمله أهل الجنوب السوداني لكون كويكوج رجلاً أسود لا يعرف الانكليزية. استغرقتني ترجمة “موبي ديك” عاماً ونصف العام، وكنت قد طلبت من دار فرانكلين، ناشرة الطبعة الأولى من الترجمة، أن تزودني بطبعة انكليزية مشروحة مزودة بالهوامش من موبي ديك لكون الرواية محتشدة بالإلماعات والاشارات والرموز التي ينبغي شرحها لكي يتمكن القارئ العربي من متابعة معاني الرواية. وقد زودتني الدار الناشرة بالطبعة التي طلبتها وأفدت منها في ترجمتي أيما إفادة”.
لا تقدم شهادة إحسان عباس مجرد دليل على قدرة المترجم إلى اللغة العربية على تجاوز المصاعب أو المعضلات التي يواجهها في عمل أدبي رفيع يتناول عالمًا غريبًا على تراث اللغة العربية وغائبًا بمصطلحاته وأسماء أشيائه عن صفحات معاجمها، وذلك بمختلف الوسائل التي تحتل معرفته اللغوية في دعمها حيزًا كبيرًا فحسب، بل تنطوي على بعض الإشكاليات الخاصة بعملية الترجمة ذاتها والتي لابد لكل مترجم من مواجهتها وحلها.
كان عدد كبير من مترجمي النصوص الأدبية والروائية خصوصًا في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين يعتبرون عملية نقل نص من لغته الأصلية إلى اللغة العربية تعريبًا. وكان ذلك يعني نقل المعاني دون الالتزام بالضرورة لا بحرفية النص الأصلي ولا بمساره المنطقي. وكانوا يضيفون أحيانًا إلى جانب كلمة التعريب كلمة الاقتباس، وهو ما يتيح لناقل النص حرية أوسع في إعادة الكتابة بما يراه “المترجم” أكثر ملاءمة على صعيد المواضعات والعادات الاجتماعية أو الأخلاقية. وكان أشهر من قام بالتعريب والاقتباس مصطفى لطفي المنفلوطي (1876 ـ 1924) الذي عرَّب مع الاقتباس أو إعادة الكتابة أو مع بعض التصرف عددًا من الروايات الفرنسية لإدموند روستان وشاتوبريان وألكسندر دوماس الإبن وغيرهم.
لكن مفهوم الترجمة أخذ منذ ثلاثينيات القرن الماضي بالتطور تدريجيًا نحو الالتزام بالنص الأصلي التزامًا أقرب إلى الصرامة ولاسيما في مجال ترجمة الأبحاث في العلوم الإنسانية والاجتماعية. أما في ترجمة المبدعات الأدبية، فقد بات الالتزام بالنص الأصلي مطلوبًا ومعتمدًا من قبل عدد من دور النشر في لبنان وفي مصر بوجه خاص، ولكن مع المطالبة في مصر حتى الخمسينيات على الأقل باعتماد مفهوم التعريب الذي يقتضي تكييف النص الأصلي حين نقله مع مقتضيات اللغة العربية سواء بالاختصار أو بالتعديل الطفيف، بما يتيح إنجاز نص عربي لا يحمل آثار الترجمة إلا في أسماء الأشخاص أو الأماكن. وكانت سلسلة الترجمات التي صدرت في أربعينيات القرن الماضي عن دار الكاتب المصري تسير على هذا النهج في ما نشرته من أعمال أدبية كرواية ستندال دير بارم التي ترجمها عبد الحميد الدواخلي. وهي الرواية نفسها التي ترجمها هنري زغيب وجوزيف اليان تحت عنوان صومعة بارما ونشرت لدى منشورات عويدات في لبنان.
باستثناء عدد قليل جدًا من المقالات التقويمية لبعض الترجمات الهامة لبعض الأعمال الأدبية، لا وجود حتى الآن لدراسات تتناول بالنقد والتمحيص والمقارنة مع النصوص الأصلية ما تمت ترجمته من المؤلفات الأساس في مختلف فروع العلوم الإنسانية والاجتماعية من أمهات الأعمال الأدبية الأجنبية في الرواية والشعر والمسرح والنقد الأدبي. ومن المؤسف أن من يكتبون المراجعات الصحفية لبعض الترجمات ويقومون غالبًا بالثناء عليها لا يكلفون أنفسهم القيام بأبسط مقارنة بين النص الأصلي والنص المترجم، هذا بافتراض امتلاكهم ناصية اللغة المترجم عنها. ولابد لضرورات العمل لدى الباحثين أو للصدف لدى القراء من أن تحملهم على أن يكتشفوا بين الحين والآخر سوء الترجمة الفاضح تارة، أو الخيانة الموصوفة للنص الأصلي المترجم تارة أخرى، وذلك عن طريق القفز على مقاطع بأكملها لصعوبة ترجمتها. هكذا كانت الترجمة العربية لكتاب أعمدة الحكمة السبعة الذي نشر ببيروت في خمسينيات القرن الماضي لا تقدم إلا ما يعادل نصف النص الأصلي؛ أما ترجمة أحد كتب ميشيل فوكو بأجزائه الثلاثة، تاريخ الجنسانية، التي نشرت بالدار البيضاء عام 2003 ، على سبيل المثال لا الحصر، فهي بكل بساطة غير قابلة للقراءة بالعربية.
يفيد ذلك إلى أن المشكلة المشار إليها ليست نتيجة إحدى مقاربات مفهوم الترجمة في العالم العربي بقدر ما هي نتيجة النهج التجاري الذي سلكته بعض دور النشر العربية في إهمالها الجانب الثقافي في مهمتها لصالح الربح السريع. صحيح أن المسؤولية الأولى تقع هنا على من تصدى للترجمة، لكن ترجمته ما كانت لتصل إلينا لولا قيام دار النشر بتكليفه بها أو بقبول نشرها دم دون أي تدقيق أو مراجعة.
من الممكن ببساطة أن نلاحظ وأن نتثبّت من أن هذا الضرب من المشكلات في الواقع لا يقتصر على العالم العربي ولا على الترجمة إلى اللغة العربية. فما أكثر الأعمال الأدبية ــ إلى اللغة الفرنسية مثلًا ــ التي سبق ترجمتها ثم اكتشف عدم دقتها على هذا الصعيد أو ذاك، فأعادت دار النشر نفسها مجدّدًا العمل على ترجمتها على أيدي مترجمين آخرين. حدث ذلك مع مؤلفات كافكا الكاملة التي ترجمت في ثلاثينيات القرن الماضي ونشرتها دار غاليمار ضمن سلسلة لابلياد. وحين حاولت، وهي تعد الطبعة الجديدة، تصحيح الترجمة التي كان ميلان كونديرا قد كشف عن بعض أخطائها في عدة مقالات له، رفض ورثة المترجم الأول المسّ بنص ترجمته، فاضطرت آنئذ إلى الإشارة إلى التصحيحات المقترحة على هوامش مختلف النصوص التي تضمنتها الطبعة الجديدة.
تلك بعض الأمثلة التي تشير إلى مكامن إشكالات العلاقة بين اللغة العربية والترجمة. مكامن لا تقوم في اللغة العربية ذاتها بقدر ما تقوم فيمن يرميها من الكتاب أو من المترجمين، جاهلًا أو جاحدًا بفعل جهله، بالعجز أو بالافتقار إلى القدرة على استيعاب مفاهيم الحداثة والمعاصرة. لكنها تقوم أيضًا في جهل أو تجاهل معظم دور النشر الخاصة في العالم العربي لخطورة دورها في هذا المجال ولفداحة الأخطاء التي ترتكبها بحق الثقافة العربية ولغتها وهي تبحث عن الربح بأقصر الطرق. ولعل هذا ما يمكن أن يفسر ظاهرة الإقبال الضعيف على الكتاب المترجم. ثمة دور نشر تحاول ترسيخ تقاليد في عمل النشر، لكنها لا تزال قليلة بالمقارنة مع الحاجات المفترضة في هذا المجال في العالم العربي. ومن المؤكد أن بعض المؤسسات الرسمية والخاصة كالمركز القومي للترجمة في مصر والمنظمة العربية للترجمة في لبنان ومؤسسة كلمة للترجمة في الإمارات العربية المتحدة تؤدي دورها بحرفية عالية، لكن غياب التنسيق فيما بينها يحدّ من مدى تأثيرها ويحول دون تفعيل خطة لحل العديد من الإشكالات التي تعاني منها الترجمة إلى اللغة العربية اليوم على أكثر من صعيد، لن يكون أقلها أهمية البدء بالعمل حثيثًا على توحيد المصطلحات في العلوم الإنسانية والاجتماعية بين مختلف البلدان العربية.
* كاتب أكاديمي سوري ومترجم وصحافي
المصدر: موقع الكاتب؛ ونشر في مجلة الثقافية، لندن، عدد شهر تموز/يوليو 2019
التعليقات مغلقة.