عروة خليفة *
ملاحظة أساسية: لا يدّعي كاتب المقال أنه يستطيع الإلمام بظاهرة واسعة ومتغيرة هي (أعيان الحرب) كما يسميهم المقال، لكنه يسعى لرصد جانب منها وهو تفاعل هذه الفئة مع حالة الهدن الجديدة في سوريا وأثر ذلك على البيئة الاجتماعية.
كان نشوء طبقات اجتماعية جديدة في سوريا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مفتاحاً أساسياً لنشوء الدولة الوطنية السورية، والنخب التي حكمتها طوال الفترة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية (1).
ونتيجة تعارض مصالح تلك الطبقات- وبالذات تعارض مصالح طبقة “الملاك-البيروقراطيين” مع نمو نظام مركزي جديد في الإمبراطورية العثمانية- بدأت بعض النخب “أعيان المدن” تتوجه لصياغة عقد اجتماعي جديد، ينهي ارتباطها بـ”الأستانة” مقابل إنشاء نظام جديد يكفل نمو مصالحها، وسيطرتها الاجتماعية. وجاءت عملية الصراع مع قوات الانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان، لتعزز من مكانة هذه الفئة التي أصبحت ممثل “الأمة” في مواجهة الاستعمار، ما كفل لها السيطرة على النظام السياسي الوليد في الدولة السورية. غير أن فشلها في مواجهة عدة تحديات كبرى منها الكساد الاقتصادي الذي ضرب العالم نهاية عشرينات القرن الماضي، وموجة الجفاف والقحط التي أثرت على اقتصاد سوريا الزراعي، جعل النخب الجديدة التي أنتجها توسع التعليم العام وافتتاح جامعة دمشق خلال فترة الانتداب الفرنسي، إلى بناء تصور أكثر راديكالية (2) للقومية العربية اقترن لاحقاً بالأفكار الاشتراكية التي عبَّرت عن الفئات التي همشتها سياسة أعيان المدن طوال تلك الفترات (3) لينتج الصراع بين نخب أعيان المدن وتلك النخب الجديدة التي استعانت بالجيش لحسم هذا الخلاف إلى أن تكون القوة العسكرية هي العنصر الحاسم في الصراع السياسي في سوريا، لتضيف إليها العوامل الدولية حول سوريا والظروف التي رافقت نشوء الحرب الباردة عوامل شجعت ضباط الجيش على الدخول في الحياة السياسية وتولي الحكم أكثر من مرة، ونتيجة عدم انتهاء الصراع الذي سببته مشاكل سياسية واقتصادية لم تحل، أصبح العنف هو الوسيلة الوحيدة للاستحواذ على السلطة في سوريا، وكانت المحصلة لهذا الانسداد السياسي هي وصول حزب البعث إلى السلطة بعد الانقلاب الشهير عام 1963.
أصبحت السياسة بعد ذلك وخاصة خلال عهد حافظ الأسد، ملكية حصرية لفئة مسيطرة، تدور في فلكها ولم تعد التحولات السياسية نتيجة صراعات ومواجهات مع التحديات الاجتماعية والاقتصادية في البلد أو المنطقة، بل أصبحت على العكس من ذلك مانعاً للتحول (4)، أي أن السياسة تحولت إلى ضدها، فأصبحت سلطة حافظ الأسد تعتمد على احتكارها العنف لصالحها ولصالح الدوائر التابعة لها والمنتفعين منها (وسأسميهم هنا وكلاء العنف) داخل المجال العام في سوريا (5).
التحولات التي نشأت منذ انطلاق الثورة في سوريا، خلقت -نتيجة عدة عوامل محلية ودولية- نوعاً من إعادة توزيع تلك السلطة (احتكار العنف) موسعة طبقة وكلاء العنف في البلاد. اذ أنتجت ظروف الحرب المديدة والتي شنها النظام السوري على المدن السورية، البيئة المناسبة لتكون فئة جديدة من الأعيان، هذه الفئة التي تمتلك حصرياً قدرة التحدث على العموم والتأثير، نتيجة امتلاكها الحصري للعنف أو ارتباطها بأدوات ذلك العنف؛ هذه الفئة التي تضم أمراء حرب وسياسيين، ورجال أعمال أصبحت هي الحاكم الفعلي لسوريا خلال السنوات الماضية وخاصة خلال السنتين الأخيرتين، ورغم بقاء القشرة الخارجية للنظام السوري، إلا أنه تعرض لتغيرات مماثلة جعلت منه واجهة لأمراء الحرب الجدد.
تلك الفئة تعتبر أن استخدام القوة هي الطريقة الوحيدة لإنتاج التحولات في السياسة، ليس بوصفها أداةً للوصول إلى السلطة، بل بوصفها أداة ًأساسية وحصرية لإعادة إنتاج الظروف التي تعطيها الأفضلية على باقي السوريين.
المحاججة الأساسية في هذا المقال تقوم على افتراض أن استمرار السيطرة الحصرية للقوى العسكرية بعد اتفاق الهدن في سوريا، سينتج أوضاعاً ملتبسة تقوم على سيطرة العنف غير المنضبط (سواءً بالأسباب أو بجهة تمتلك الشرعية) الأمر الذي ستكون نتيجته الحفاظ على مصالح الطبقة الناشئة حديثاً في سوريا وهي طبقة “أعيان الحرب”.
تحول/ثبات علاقة القوة في مناطق الهدن:
خلال الفترة الماضية بدا أن الظروف المرتبطة بالهدن وكأنها تحديٍ كبير لهذه الفئة التي اعتمدت على بنية العلاقات التي تنتجها الحرب في السيطرة والتحكم وتنمية مصالحها، إلا أن الإطار العام للاتفاقات التي أقرت الهدن وعلى رأسها اتفاق خفض التصعيد الذي وقعت عليه الدول الراعية لمؤتمر أستانا (روسيا وتركيا وإيران) كرست على العكس من ذلك هيمنة تلك الفئات على المجال العام وعلى السياسة، من خلال ربط التحاق المناطق باتفاق الهدنة بشكل حصري عبر موافقة القوى العسكرية فيها، بالإضافة إلى عدم الإشارة إلى أي نفوذ واضح المعالم لهيئات “حكم محلية” والتي قاومت القوى العسكرية نشوئها بشكل واضح -وفعّال- منذ نشوء مناطق “خارج سيطرة النظام السوري”، فيما حافظت القوى المهيمنة في مناطق النظام على انسداد الأفق تماماً بشكل أكثر عنفاً الأمر الذي جعلها هي المتحكم الفعلي بتلك المناطق.
منذ توقيع الدول الراعية لمؤتمر أستانا على اتفاق خفض التصعيد (6)، والذي لم يطبق بحذافيره على أرض الواقع، بل اعتبر مرجعاً يستند إليه في توقيع اتفاقات محلية وجزئية مع أطراف محلية، كما حدث في ريف حمص الشمالي مؤخراً، أو مع أطراف دولية كما حدث في اتفاق خفض التصعيد في الجنوب الغربي لسوريا، منذ توقيع هذا الاتفاق تم اعتبار مسار الهدنة المسار الرئيسي في النقاشات السياسية حول سوريا، وبما أن الاتفاق يثبت خارطة السيطرة العسكرية ،وإن بصورة نظرية على الأقل، فإن الهدوء على خطوط التماس يعطي الفرصة للمنظمات العسكرية لتثبيت الأمر الواقع الذي نشأ نتيجة سيطرتها على مناطق مختلفة من سوريا، لتبدأ مرحلة جديدة من عملية ترسيخ النفوذ مشابهة للمرحلة الأولى (7)، تبدأ بالقضاء على كل المنافسين العسكريين ضمن منطقة النفوذ، كما حدث في الصدام بين تنظيم “هيئة تحرير الشام” (وهو تحالف يضم جبهة النصرة) و”حركة أحرار الشام” والذي انتهى بهيمنة “الهيئة” على أهم مناطق إدلب بالإضافة إلى سيطرتها على المعبر الحدودي الأساسي مع تركيا.
المرحلة الثانية من الصدام ستكون مع التكوينات المجتمعية التي تنطوي على صدام وعداء مع هذه المنظمات، وضربها وحصارها للقضاء على أي مقاومة محلية لوجود المنظمات العسكرية، وتنتهي حلقة الصراع هذه بتتويج المنظمة العسكرية وقادتها (أعيان الحرب) كوكلاء محليين للنفوذ الدولي والإقليمي في سوريا.
توقع هذا المسار من الأحداث مبني على تجارب سابقة في عدة مناطق في سوريا، كما أنه مبني على افتراض أساسي وهو أن بنية المنظمات العسكرية في سوريا قائمة على الاستتباع، فهم الشرطة المحليون الذين سيفرضون الاستقرار على سوريا. فاليوم تبنى المقاربة الدولية لفرض الاستقرار في سوريا على مبدئين أساسيين:
الأول هو التركيز الحصري للضربات العسكرية ضمن إطار المعركة ضد الإرهاب.
والثاني هو تنمية وكلاء محليين يعملون “كشرطي” يحفظ استقرار منطقته الخاضعة لنفوذه العسكري.
وتبدو تحركات القوى العسكرية جميعها في هذا الاتجاه، فالاتفاق الذي وقعه جيش الإسلام في القاهرة مع روسيا (8)، يقر هذا الاتجاه فهو يمنح سلطة كاملة لجيش الإسلام على مناطق سيطرته ويمنحه سلطة التفاوض عنها واتخاذ القرارات العسكرية.
بهذه الطريقة فإن بناء الاتفاقات المحلية بالاستناد على وثيقة خفض التصعيد الموقعة في أستانا تكرس حالتين أساسيتين، وهي سلطة المنظمات العسكرية واستمرار وكالتها للقوى الدولية في سوريا، كما تكرس استقراراً في مناطق شهدت حرباً لستة أعوام تقريباً دون إيجاد بدائل لدورة اقتصاد الحرب فيها. نص الاتفاق أكد على دخول “المساعدات” إلى هذه المناطق الأمر الذي سيكرس الاستتباع لمنظومة المساعدة الدولية والتي تعني عدم استقلال اقتصاد هذه المناطق وعدم تطوير انتاجيته التي انخفضت إلى مستويات ضئيلة جداً نتيجة ظروف الحرب.
التحطيم المديد:
طوال ست سنوات، حطمت ظروف الحرب في سوريا البنى الاقتصادية والاجتماعية لعدد كبير من المدن والبلدات السورية. وقد طال التدمير البنى التحتية، والشبكات الاقتصادية المحلية، كما أنه حد من قدرة القطاعات الأساسية مثل الزراعة على توفير احتياجات السكان.
وقد نتجت عن هذه السياسات التدميرية التي انتهجها النظام السوري تأثيرات كارثية على أكثر من صعيد، غير أن التأثير الأكثر تدميراً تمثل في خلق الظروف المواتية لنمو التنظيمات الراديكالية والمنظمات العسكرية، والتي مرت بعدة مراحل من النمو والتطور والصراع حتى وصلت إلى شكلها الحالي؛ فظروف عدم الاستقرار واستمرار القصف اليومي والعشوائي على التجمعات المدنية، خلق حالةً مستمرة و”مستقرة” من المواجهة مع الفناء التام بالنسبة للمجتمعات المحلية، ليصبح تبشير المنظمات الراديكالية بالموت متماشياً مع واقع يعيشه الجميع، فأصبح اعتياد الموت الوسيلة الأفضل لتنمية تلك المنظمات التي لا تعد سوى بالموت أيضاً.
تدخل اليوم عدة مناطق في سوريا الهدنة بشكل رسمي، أو غير رسمي، وقد تعرضت إلى تدمير شامل وإبادة مستمرة لست سنوات، دون أي مساعدة أو توجه لذلك في استعادة الحد الأدنى من التعافي للقطاعات الحيوية، الأمر الذي يعني استمرار انهيار البنى الاقتصادية وعدم قدرتها على خلق دورة انتاج جديدة. وفي حين لا تشير أي من الاتفاقات إلى واجبات سلطات الأمر الواقع نحو السكان من تقديم الحد الأدنى من الخدمات أو التنمية فهي لا تشير أبداً إلى حقوق السكان في هذه المناطق، وبدلاً من ذلك أوجدت لهم معابر “إنسانية” للتنقل بين مناطق سيطرة النظام ومناطق خفض التصعيد، دون التطرق إلى أي من حقوقهم الأساسية على جانبي هذا المعبر.
تسير الاتفاقات الدولية حول سوريا إلى عدم الاعتراف بأي من الحقوق الأساسية للسوريين، وربما سيوضع السوريون أمام خيارات كارثية يتساوى فيها بقاء نظام بشار الأسد من عدمه، في ظل انهيار تام للبنية المجتمعية وعدم وجود خطة واضحة لاستعادة عافيتها، الأمر الذي سيترك المجال مفتوحاً أمام المنظمات الراديكالية، لتعود وتجد لنفسها مناطق نفوذ جديدة في الوقت الذي يحكم فيه أعيان الحرب مناطق خفض التصعيد، كوكلاء محليين لقوى دولية “تحارب الإرهاب فقط”.
الهوامش:
1- فيليب خوري، أعيان المدن والقومية العربية، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية 1993 ص19.
2- يمكن أن يكون أكرم حوراني المثال الأفضل عن هذه النخب الجديدة وخاصة وأنه قد ربط بين آرائه الراديكالية ونشاطه السياسي ودعمه للتحركات ضمن الجيش بعد الاستقلال والتي انتهت بأن أصبح الجيش هو المتحكم الأول في السياسة السورية.
3- فيليب خوري، سوريا والانتداب الفرنسي، سياسة القومية العربية 1920-1945، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية 1997 ص452.
4- ميشيل سورا، سورية الدولة المتوحشة، ترجمة: أمل سارة، مارك بيالو، بيروت، الشبكة العربية للأبحاث والنشر 2017، ص97.
5- ياسين الحاج صالح، سوريا في العالم/ العالم في سوريا، موقع مجموعة الجمهورية انظر الرابط.
6- النص الكامل لاتفاق خفض التصعيد كما نقله موقع روسيا اليوم، انظر الرابط.
7- يمكن استعراض مثال تنظيم جيش الإسلام حول جنوح هذه المنظمات إلى فرض السيطرة المطلقة على مناطق نفوذها العسكري، حول الموضوع يمكن مراجعة مقالتي حول بنية تنظيم جيش الإسلام في موقع “مجموعة الجمهورية”، انظر الرابط.
8- طه عبد الواحد، عناصر من النظام والشرطة الروسية على حواجز في الغوطة، صحيفة الشرق الأوسط، انظر الرابط.
—————————-
* باحث سوري
المصدر: معهد العالم للدراسات
التعليقات مغلقة.