سارة قريرة *
ألان غريش الكاتب والصحافي ومدير مجلة “اوريان 21” الرقمية المتخصص في شؤون الشرق الأوسط، كتب إفتتاحية في موقع “أوريان 21” بعنوان “فرنسا، تحريف العلمانية لاستهداف الإسلام”، ترجمته من الفرنسية إلى العربية الزميلة سارة قريرة. ماذا تضمن؟
في 9 ديسمبر/كانون الأول، وهي ذكرى إصدار “قانون 1905” الذي يفصل بين الكنائس والدولة في فرنسا، سيقترح مجلس الوزراء نصا لـ“تعزيز مبادئ الجمهورية” بحجة الدفاع عن العلمانية. لكن هذا المشروع يتعارض في الحقيقة مع نص وفكر قانون سنة 1905، الذي اتسم بليبيرالية ارتضاها مروّج النص النائب والوزير أريستيد بريان. كما أن هذا القانون بعيد كل البعد عن فكرة إخراج الدين من الفضاء العمومي التي تنادي بها الحملات الحالية ضد الإسلام والمسلمين.
“هناك التعصب الديني، والتعصب غير المتدين، والثاني لا يقل سوءا عن الأول”. هكذا خاطب وزير التربية – ورئيس الحكومة لاحقا – جول فيري الحضور في 19 أبريل/نيسان 1881 وسط قهقهة البعض، بمناسبة المؤتمر التربوي الثاني لمدرسي القطاع العام الفرنسي1. تذكّر كلمات مؤسس المدرسة العمومية (الرسمية) في فرنسا بواقع منسي، وهو أنه تم خوض الكفاح من أجل العلمانية في فرنسا على جبهتين. الجبهة الأولى والتي كانت الأولوية لها، هي جبهة الكفاح ضد الكنسية الكاثوليكية التي كانت قوة ذات ثقل وكبرياء، معادية للجمهورية، وكانت ترفض التسليم في أي من صلاحياتها. أما الجبهة الثانية، فكانت داخل المعسكر الجمهوري نفسه، ضد أولئك الذين كانوا يرون في العلمانية سلاحا ليس ضد النظام الكهنوتي، بل ضد الأديان.
لكن مراجعة التاريخ تبين لنا أنه في المرحلتين الحاسمتين اللتين ميزتا الطريق الطويل نحو فصل الكنيسة عن الدولة بعد ولادة الجمهورية الثالثة – أي إرساء التعليم العلماني وقانون سنة 1905 – فضلت الحكومات المتعاقبة التسوية على التعنت، والحوار على القدح، وتطوّر العقول على الحرب الأهلية.
صليب في المدارس؟
بين سنتي 1882 و1886، تم سن عدة قوانين لتنظيم “علمنة” المدرسة على ثلاث مراحل، أوّلها “علمنة” البرامج وثانيها المدارس ثم المدرسين. لكن “علمنة” التلاميذ لم تُطرح البتة. وبسن قانون 28 آذار/مارس 1882، أصبح التعليم الابتدائي مجانيا وإجباريا، بينما مُنع التعليم الديني في المدارس الحكومية2.
تم الانتقال نحو المدرسة العمومية (الرسمية) بطريقة صارمة وبليونة في آن واحد، كما تشهد على ذلك قضية الصليب. هل وُجب نزع هذا الرمز الديني من جدران قاعات الدراسة؟ نادت المناشير الوزارية بتطبيق القانون “بنفس الفكر الذي ساد على انتخابه، وبنفس فكر الإعلانات المتكررة للحكومة، وليس كقانون كفاح وجب اقتلاع نجاحه بعنف، بل كإحدى القوانين العضوية الكبيرة التي يقدر لها العيش مع هذا البلد، والدخول في تقاليده، لتكون جزءا من تراثه”3. تقرر إذن عدم تعليق الصليب في المدارس التي سيتم بناؤها، ونزعه في الحالات التي لا يسبب الأمر مشكلة، والإبقاء عليه في الحالات المعاكسة. وهكذا أخذ نزع الصليب بالكامل من المدارس العمومية قرابة القرن.
فسر جول فيري أهمية “التخفيف مما قد يحمله وضع جديد من صرامة من خلال التلطيف الحكيم”. وكما أشار إلى ذلك المؤرخ باتريك كابانيل4: “يجب أن تُفهم هنا كلمة التلطيف [الكلمة بالفرنسية تحمل في جذرها كلمة”الزمن“] بمعنى التليين والتمهل، أي تعويد الآراء والعقليات لمنحها الوقت الكافي الذي تحتاجه الإصلاحات والأنظمة الحريصة على الانتصار، لا من خلال عنف الطوبوية أو الأسلحة أو النصوص، بل من خلال التلقين الجماعي والتملك [من القيم]”.
إلى جانب قضية الصليب، هناك أمثلة كثيرة لهذا “التلطيف”، منها أن موضوع “الواجبات تجاه الله” أُدرج في البرامج الإلزامية للأخلاق لجيلين من التلاميذ، كما تقرر أن يكون يوم الأربعاء يوم عطلة لمن يريد متابعة التعليم المسيحي، وأتيح للتلاميذ التغيب عن المدرسة خلال الأسبوع الذي يسبق مناولتهم الأولى، إلخ.
“وسيلة تعذيب تدعى صليب”
كثيرا ما يُقتبس بحق من رسالة جول فيري إلى المدرسين، المحررة في 11 مارس/آذار 1882: “لو تناسى مدرس دوره إلى درجة تجعله يقدم تعليما عدائيا في إحدى المدارس، تعليما مسيئا لمعتقدات أي شخص الدينية، سيعاقَب بنفس الصرامة والسرعة التي قد يعاقَب بها إن قام بعمل مشين آخر كضرب تلاميذه أو الإساءة إليهم”. ماذا كان فيري سيقول لو فُرضت على التلاميذ رسوم كاريكاتورية لمجلات مناهضة لنظام الكهنوت مثل “لا لنتارن” (La Lanterne) أو “لا كالوت” (La Calotte)، والتي كانت تقدم الصليب على أنه “وسيلة تعذيب تحمل جثة من الجبس أو المعدن”؟ أو لو اشتكى مدرّس بتلاميذه الذين يبلغون 8 أو 10 أو 12 سنة إلى الشرطة لأنهم يحبون المسيح أكثر من حبهم لماريان – رمز الجمهورية – أو لأنهم يضعون القوانين الإلهية فوق القوانين الجمهورية؟
وجب هنا التذكير بنقطة مهمة، وهو أنه لا وجود لتعريف واحد للعلمانية، بل توجد تأويلات عديدة لهذا المصطلح منذ اختراعه. تعددت هذه التأويلات اليوم أكثر، بعد أن بات اليمين يدافع عن هذه العلمانية التي طالما كافحها بحماسة، ويلتحف بها لمهاجمة الإسلام والمسلمين. يمكننا إذن أن ندافع عن تأويلات عديدة للعلمانية، لكن وحدها قوانين الجمهورية التي تفرض على الجميع. قد يرى البعض أن العلمانية تعني إخراج الدين ولا سيما الإسلام من الفضاء العمومي، وهم أحرار في ذلك. لكن عليهم أن يعترفوا أن هذه الرؤية لا تمت بصلة بنص وفكر قانون سنة 1905.
الوجود في الفضاء العمومي:
أقرت عدة أحكام لمجلس الدولة بالقراءة الليبيرالية لهذا النص المؤسس، وضمنت للكنائس حقها في التنظيم كما يحلو لها وفي الظهور في الفضاء العمومي. ونرى ذلك في إحدى أولى النزاعات التي واجهتها الجمهورية بعد سنة 1905، حول المواكب الدينية. فقد أراد عدد من رؤساء البلديات منع هذه المواكب باسم الخوف من تعكير صفو النظام العام. تم استئناف قرار 139 منشور بلدي صدر بين 1906 و1930 بهذا الصدد، وتم نقضه في 136 حالة، كما تم نقض جميع قرارات رؤساء البلديات الذين أرادوا منع ارتداء الكهنة لعباءتهم على أراضيهم. كما رفض مجلس الدولة مطالب وقف عمل الكنائس التي تقدمت بها البلديات، ورفض منحها حق بيع الأمتعة المخصصة للعبادة، وحدّ من استعمال أجراس الكنائس لأغراض غير دينية خلال المواجهات بين رؤساء البلديات والكهنة.
سيفاجأ من يطالع النقاشات البرلمانية لسنة 1905 والتي تميزت بجودة عالية، بهذه الليبرالية التي نتحدث عنها والتي دافع عنها بحماسة كل من أرستيد بريان – الذي حمل هذا القانون أمام البرلمان – والقائد الاشتراكي جان جوريس. هكذا رفض البرلمان اقتراح حذف أيام العطلة ذات الطابع الديني أو قرار أن يكون جميع الكهنة فرنسيين5.
يتم عادة التذكير بالفصل الثاني من قانون 1905: “الجمهورية لا تعترف ولا تموّل ولا تدعم أي دين”، من دون ذكر الجزء الثاني من هذا النص الذي يكاد يتناقض مع ما سبق: “لكن يمكن إدراج مصاريف العبادة وتلك المهيئة لممارسة حرة للشعائر الدينية في المؤسسات العمومية مثل المعاهد والمدارس والمشافي والمستشفيات العقلية والسجون في هذه الميزانيات [أي ميزانية الدولة والجهات والبلديات]”. من جهة أخرى، ينص القانون على أن أماكن العبادة – التي باتت ملكا للدولة منذ الثورة الفرنسية – توضع مجانيا على ذمة الجمعيات الدينية (كان بالإمكان استئجارها) وأن مسؤولية صيانتها تقع على عاتق البلديات أو الجهات أو الدولة. ما عدا ذلك، فإن الدولة لا تموّل أي دين!
إن العلمانية المتخيلة لا توجد اليوم إلا في أذهان أولئك الذين جعلوا منها سلاحا ضد الإسلام. فلنذكّر إذن ببعض الخروقات التي شابت “النقاء العلماني”. لم يشمل قانون 1905 أبدا منطقة ألزاس موزيل، إذ لم تنجح في فرض ذلك – على مدى قرن – أي حكومة يمينية كانت أم يسارية. ما يترتب عنه أن فرنسا هي البلد الوحيد في العالم الذي يقوم رئيسه بتسمية أسقفين – أسقف ستراسبوغ وأسقف ميتز – قبل تسميتهما من قبل كنيسة روما! كما أن العلمانية لا تطبق إلى اليوم في كاليدونيا الجديدة أو في بولينيزيا. أما في غيانا، فوحدها المسيحية الكاثوليكية تتمتع باعتراف رسمي ويتقاضى كهنتها أجورهم من الدولة6. ناهيك عن كون القنصل العام الفرنسي في القدس – وهو ممثل عن الجمهورية – يحضر بصفته الرسمية قرابة 12 قداسا مسيحيا في السنة، ويباركه الكاهن ويقوم بتقبيل الإنجيل المقدس.
سلاح واحد: الحرية
ليس الهدف هنا التقليل من القطيعة التي مثلها قانون 1905، والتي تشهد عليها معارضة الأوساط الكاثوليكية الشرسة لهذا النص. لكن السؤال هو كيف كانت ردة فعل الحكومة؟
رفضت الكنيسة الفرنسية بأمر من الفاتيكان هذا القانون، كما رفضت مبدأ تأسيس جمعيات دينية لإدارة الكنائس. في هذه الظروف، كان تطبيق القانون الذي سنه المشرع سيؤدي إلى منع إقامة القداس. عوض ذلك، تم وضع تدابير انتقالية تضمن للكهنة الإدارة المؤقتة لأماكن العبادة الكاثوليكية. وتم تعديل قانون 1905 في 2 يوليو/تموز 1907 (إذ لم يكن النص مقدسا بالنسبة للمعسكر الجمهوري) لتنظيم استمرارية العبادة، في انتظار اتفاق لم يأت إلا بعد 20 سنة. وكما يذكر النائب جوزيف كايو، نجح بريان “في التنظيم القانوني للتسامح تجاه ممارسات غير قانونية، مهما يبدو ذلك متناقضا”. ونفسه بريان الذي توجه لليمين والكنيسة بالخطاب قائلا: “إن السلاح الوحيد الذي نريد استعماله تجاهكم هو سلاح الحرية”.
لو طُلب في تلك الفترة من الكنيسة إمضاء ميثاق يؤيد العلمانية وقوانينها أو “مبادئ الجمهورية” – وهو مصطلح ضبابي للغاية -، أي ما يُطلب اليوم من الدين الإسلامي، لغرقت فرنسا في الحرب الأهلية. لكن مشرعي الجمهورية الثالثة كانوا أكثر حكمة من ذلك، ولم يفرضوا قوانين لاختيار الممثلين عن الدين أو “تزكيتهم” من الدولة، والحال أن الكنيسة كانت آنذاك قوة أكثر تهديدا وأكثر خطورة على الجمهورية مما هي الطوائف المسلمة اليوم، وهي طوائف متفرقة، لا تتمتع بولوج إلى السلطة، ولا بمنابر سياسية أو إعلامية.
اليوم، ومن خلال تصريحات عدد من المسؤولين السياسيين والتهجمات اللاذعة، المفعمة بالكراهية لخطباء شبه علمانيين صعب عليهم إخفاء عنصريتهم، يتم فرض تأويل للعلمانية مرادف للعلمنة القسرية للفضاء العمومي ولمن يتحرك فيه. وقد فرض هؤلاء قناعة بأن العلمانية هي سلسلة من الممنوعات: منع النساء من ارتداء الحجاب في الشارع، منعهن من مرافقة الرحلات المدرسية، منع الحجاب في الجامعات. بل ويستعملون الخطر الإرهابي كذريعة لمساءلة الحريات وهم يتشدقون بها يوميا. ممنوعات وأوامر، اتهامات بالـ“انفصالية” وحث على الوشاية، إخطارات رسمية ووصم.
لا شك أن أريستيد بريان وجان حوريس يتقلبان في قبريهما.
* صحفية تونسية ومترجمة من الفرنسية
المصدر: 180 درجة.. نقلاً عن موقع “أوريان 21“
التعليقات مغلقة.