الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

نخب حائرة ومرتبكة.. مَن يعيد بناء الثقة والأمل؟

هيثم حسين *

من الواجب التأكيد على فكرة أنّ العالم ملك للجميع، والأرض سفينة تبحر بنا معا، ولا يمكن أن يستهتر أحد بسلامتها، لأنّ الغرض مصير الجميع معا.

ليس كورونا مجرد فايروس يمكن مجابهته طبيا وعلميا فقط، بل تحوّل إلى مفاهيم جديدة عن الإنسان المعاصر، حيث مثل مناسبة لإعادة التساؤل حول الكثير من المفاهيم، لعل أبرزها حول علاقة الذات بالآخر، ومفهوم الفرد، والواقع المتناقض للعولمة التي وحدت بين شعوب العالم وفرقت بينهم في نفس الوقت. عديدة هي القضايا التي وضعت على طاولات التشريح اليوم وربما سنرى نتائج ذلك في القريب.

هل تكون جائحة كورونا بمثابة زلزال لشبونة معاصر للفكر والفلسفة، حيث تعيد ترتيب أوراق الفلاسفة واهتماماتهم وانشغالاتهم، وتفرض عليهم أسئلة مثيرة عن الراهن والمستقبل، وتضع الفكر في مواجهة مع التاريخ والمستقبل معا، لفهم الواقع، وتخطيه بما أمكن من تطويع قدراته، وترويض نقائضه وفهم مشكلاته.

فكما ألهم زلزال لشبونة الذي حدث عام 1755، والذي يعدّ من أكثر الزلازل تدميرا في التاريخ، فلاسفة عصر التنوير لمناقشة تطورات رئيسة في الفلسفة الدينية، وفتح المجال لتطوير الفلسفة، لتساهم بالمعالجة في فهم الحالة البرزخية التي سادت حينها، فإن جائحة كورونا يمكن أن تصبح زلزالَ لشبونة المعاصر، وذلك بما تمثله من تحدّ فلسفي وعلمي وإنساني، وما يمكن أن تخطّه من بداية جديدة في عالم الفكر والفلسفة والسياسة والاقتصاد والعلوم والبيولوجيا، ومختلف مناحي الحياة الأخرى.

تجديد المفاهيم:

أجبر وباء كورونا الذي يعتبر اختبارا وجوديا، وامتحانا مصيريا للبشرية، جميع الناس، في كلّ أرجاء المعمورة، على مواجهة أسئلة عميقة حول الوجود البشري، أسئلة سبق أن حاول الفلاسفة السابقون تقديم رؤاهم وتصوراتهم وآرائهم عنها بسبل مختلفة.

ساد نوع من الاختلاف في المقاربة التعاطي مع الجائحة وتأثيراتها من قبل الفلاسفة المعاصرين الذين حاول كلّ منهم تفكيكها ومعالجتها وتناولها تبعا لأدواته الفلسفية، وتوجهاته الفكرية، سواء كانت منتمية إلى هذا الاتجاه أو ذاك.

أعادت جائحة كورونا طرح الكثير من الأسئلة التي تتجدّد عبر التاريخ، أسئلة نفسية وسياسية وأخلاقية ووجودية أساسية، تحرك الفلاسفة لتقديم أطروحاتهم عنها ومقترحاتهم لتخطيها، وكشف الواقع المستجدّ أن البشرية تشهد تحوّلا تاريخيا، وتمرّ بمنعطف خطير، حيث يتبلور تصور جديد على وقع الأزمة المجتاحة، ينطلق من الصيغ الموجودة ويبني عليها، يلغي قيودا ويضع أخرى تناسب الشكل الجديد الذي يمضي في تسارع إليه، والذي لا يزال محط أسئلة وتشكيك ومقاربة وتأويل.

جددت الجائحة تعريفات سادت لزمن طويل، عن الذات والآخر، عن الهوية في عالم مضطرب، وكيف أن الآخر لم يعد الجحيم هنا، بل بات الشريك في مواجهة آخر أخطر، آخر غير مرئيّ، شبحي يطوف في الأرض ويفتك بالبشر، بدّد الأنانية، ورتّب مفهومي الأثرة والإيثار، الآخر أصبح الخطر، ولكنه ليس الخطر بمعناه السابق فقط، بل بمعنى مضاف، الفايروس المستجد أصبح الآخر، والآخر المستجد الحامل للفايروس أصبح كذلك تهديدا ضمنيا باعتباره حاملَ فايروس محتملا، ولا يجدي أي هروب منه أو تنكيل به نفعا، بل لا بد من مواجهته لتلافي الخطر المحدق بالجميع.

تتجلى إحدى طرق التفكير في الوباء من حيث قدرته على توحيد البشرية لمحاربة تهديد خارجي يكشف للجميع ضعفهم، ويبقيهم في قلق متجدد، ويجبرهم على تضافر جهودهم في جميع أنحاء العالم لمعالجة هذا المرض، عسى أن يكون هناك اكتشاف قريب لإيقافه، وهذا ما يحيي بعض الأمل بانتعاش الوحدة الإنسانية، لكنه من ناحية أخرى، يضمر خطر تشكيل وحدات متباعدة، تتجسد في الـ”نحن”، والـ”هم”، من دون تجسير الفجوة بينها.

صدرت أطروحات تدور في فلك الحيرة والتخبّط والارتباك، لكن من الأهمية بمكان التشديد على فكرة أنّ الوباء أرغم الناس على إعادة التفكير في أنفسهم، وفي وجودهم نفسه، وكيف أنّه لا بديل أمام الحضارات من التكافل لتحقيق التكامل، وتوحيد القوى والجهود والدراسات والأبحاث من أجل إنقاذ الكوكب الذي يبقى الجميع شركاء فيه.

صمت عدد كبير من النخب الأوروبية على الكوارث التي تقع في منطقتنا، غضّوا الطرف عنها، وكأنّهم اعتبروا أنّ الحروب التي تهلك ملايين البشر هي مشكلتنا ومأساتنا وعلينا التخلّص منها بطريقتنا، ولكن ذلك لا يعفيهم من المسؤولية الأخلاقية، ومن مسؤولية تعرية النظام العالمي المساهم في تأجيج تلك الحروب والصراعات التي ولّدت ملايين المهاجرين الذين توجّهوا صوب القارّة الأوروبية، حيث يمكن أن يكون فردوسهم المتخيّل.

شهد البحر المتوسّط غرق عشرات الآلاف في السنوات القليلة الماضية من المهاجرين سرّا، لكن ذلك صار يمرّ مرور الكرام في نشرات الأخبار، أصبحت أرقام الضحايا خبرا بسيطا، لا يلفت العناية ولا يسترعي الاهتمام في وسائل الإعلام، أصبح اللاجئون ملعونين وكأنّهم سبب المصائب التي تقع في الدول التي وصلوا إليها، وجد فيهم اليمين واليسار، هنا وهناك، ذريعة للتملّص من مسؤولياتهما وإلقائها على كاهلهم، باعتبار أنّ شيطنة الآخر قد تخلق سببا وجيها للإقناع، والالتفاف على الواقع.

الكارثة الراهنة جعلت الجميع لاجئين في بيوتهم، يعانون في الحجر، ويبتدعون أساليب التعايش مع العزل المفروض، وكثيرون من الناس لم يتمكّنوا من استيعاب فكرة البقاء في ظلّ الحجر، شعروا بغربة في بيوتهم، اكتأب قسم وعانى آخر، وظلّ قسم يبتدع لنفسه سبل تطويع الغربة التي تداهمه في بيته وبين أهله.

اللاجئون يعيشون حالة العزلة والحجر والغربة المزمنة في حلّهم وترحالهم، يعيشون محنة الوباء الذي تسبّبت فيه الدكتاتوريات لهم، وألقت بهم الحروب على قوارع الطرقات في مدن غريبة، وكانت الوحدة تنهش أرواحهم وهم وسط حشود مزدحمة من الناس في الحالات الطبيعية، ولعلّ الوباء يكون فرصة للآخرين كي يفكّروا فيهم، ويتماهوا معهم وعسى أن يتفهّموا حالات الاغتراب والإحباط والتشرّد والاستيحاش التي تحاصرهم منذ سنوات، وتسجن أرواحهم في سجون قاهرة مهلكة.

كورونا حوّل الجميع إلى لاجئين، وإن كان ذلك بصفة مؤقّتة. لكنّ الشعور سيدوم طويلا، عساه أن يساهم بإعادة بناء الأمل من جديد، في أنّ معاناة المضطهدين والمسحوقين والمظلومين واللاجئين ستحظى باهتمام أكبر، باعتبار أنّ الإحساس بها يفرض إحساسا بالمسؤولية إزاءها، لتبديدها والتخفيف من وطأتها القاهرة.

نقد العولمة:

أعاد الفلاسفة المعاصرون في ظل الأزمة الناجمة عن اجتياح الوباء للعالم طرحَ أسئلة عن الثقافة الاستهلاكية التي رسخها النظام الرأسمالي، وكيف تم تصدير الاستهلاك كميزة للعصر، حيث السرعة في التلقف والإلقاء، في الإنتاج والاستهلاك، بعيدا عن أية ديمومة مفترضة، بل تصوير أية سياسات تنموية، أو سلوكيات تروم الاستدامة، على أنها بعيدة عن روح العصر، وغير متوافقة مع أساليب السوق السريعة، وعجلتها الدائرة، التي تطحن الجميع في مضمار الاستهلاك السريع.

كما أعاد الفلاسفة والمفكرون وضع العولمة على مشرحة النقد والتحليل والتفكيك، وجددوا مساءلاتهم للنظام العالمي الذي ينبني على أفكار العولمة ويغذّيها، بحيث إن الحدود التي أطاحت عادت إلى الواجهة بشراسة أكبر، وفرضت الانغلاق والانعزال من منطلق الحماية والوقاية، وبددت فكرة الوصاية العولمية من قبل القطب الأوحد الذي بدا مهزوزا بدوره، ومرتبكا في مواجهة الأزمة التي خلخلت استراتيجياته، وكشفت هشاشتها التي كانت أحد تجليات سيادة ثقافة الاستهلاك بدورها.

فرضت الجائحة سبلا جديدة للبحث عن آليات مبتكرة للتصدي لها، وأوجبت توحيد الجهود لإدارة الأزمة العالمية، ولم تفسح أي مجال للتشفي بالآخر، لأنها ساوت بين الجميع في حربها عليهم، وتهديدها لهم، وأصبح الاختبار الحقيقي في إدارة الأزمة متركزا

على أهمية الوعي بقيمة التعاون العالمي، وكيف أن وحدة المصير الإنساني ينبغي أن تكون في الصدارة، لأنّ الكوكب الأرضي بات على هيئة سفينة معرضة لخطر الغرق، ومساعي إنقاذها تقع على عاتق الجميع، ذلك أن من شأن الغرق أن يودي بالجميع.

بات الناس يدركون في هذه الجائحة، مدى أهمية الرعاية والقلق والاهتمام، وفي الوقت نفسه، باتوا يدركون مدى تصميم النظام السائد بالكامل على الاستهلاك والإنتاج من أجل الحفاظ على هذه الحلقة التي لا نهاية لها، وذلك بالتزامن مع إدراكهم مدى هشاشة النظام الرأسمالي الذي تم تكريس قيمه بطريقة تراكمية سريعة لم تفسح مجالا كبيرا للمراجعة والمساءلة والتدبر والتقييم، بل اجتاح بقوة ليفرض آلياته، وجاءت هذه الجائحة لتنذر بضرورة إعادة التفكير في التسلسل الهرمي الذي أفرزه هذا النظام العالمي.

يتبدى من الأهمية بمكان، التأكيد على فكرة أن الناس، هنا وهناك، وعلى الرغم من العزلة المفروضة على حركتهم الطبيعية، خاصة في الحجر الصحي، إلا أنهم يعرفون أن وحدة الحال تجمع بينهم، وأنّهم يواجهون الحالة الإنسانية والنفسية معا، وبما أن وحدة الحال تكون الرابط المشترك بين الجميع، فإنها تفرض تلقائيا التفكير في وحدة المصير البشري الذي يبدو مهددا، والذي يحتاج إلى تضافر الجهود من أجل إنقاذ الحياة الإنسانية، بعيدا عن أية صراعات أو تناحرات أو خلافات أو عداوات أو اتهامات متبادلة بتخليق الفايروس أو التعتيم على انتشاره بداية، وبخاصة الاتهامات التي يطلقها الرئيس الأميركي دونالد ترامب ضد الصين.

ليس هنالك من شكّ في أن الأزمة العامة تفرض مسؤولية مشتركة للناس تجاه بعضهم بعضا، فليس هناك أحد محصّن في أي مكان ضد الوباء، ومن هنا يكون في رفض العمل مع الآخرين لمنع انتشار الفايروس تملص من المسؤولية الأخلاقية والإنسانية، ويحمل مخاطر يمكن أن تؤدي إلى تفاقم الوضع للجميع، بحيث يكون الجميع سواسية في التعرض للخطر والتهديد، ويكون في التعاون إجباريا من أجل إنقاذ الذات والآخر.

كورونا يدشّن بداية تغيير عالمي، ومن المأمول ألّا يكون القرار الأخير فيه للشعبويين والعنصريين الذين يجدون زخما فيه، يمكن أن ينعش آمالهم بالانغلاق على الذات واستعداء الآخر أكثر فأكثر. كلّ شيء يتغيّر في عالمنا. ومن ضمنه آليات الإنتاج والاستهلاك، سبل التفكير، دروب التخطيط للمواجهة. التغيير يمضي بسرعة، ومن الضروري، والمفيد ألّا يطحن بعجلته النخب وصناع الرأي من الأدباء والفلاسفة والمفكرين، الذين يفترض بهم عدم إفساح المجال لصناع القرار فقط لتوجيه دفة التغيير نحو الوجهة التي يريدونها، والتي تحفظ مصالحهم.

من الواجب التأكيد على فكرة أنّ العالم ملك للجميع، والأرض سفينة تبحر بنا معا، ولا يمكن أن يستهتر أحد بسلامتها، لأنّ الغرض مصير الجميع معا. المشتركات أكثر مما يزعم الشعبويون، ولا بديل عن التضامن للخلاص.

يبقى السؤال الأهم في يومنا هذا: مَن يعيد بناء الثقة والأمل!

* كاتب سوري

المصدر: العرب

التعليقات مغلقة.