مهند الخيكاني *
في التجارب الشخصية للإنسان هناك ثلاثة أرباع من التجربة تخصك وحدك لا غير، ثم هناك ذلك الجزء الصغير الوحيد الذي يخصك كأي إنسان في هذه الحياة ويجعلك كواحد منهم، من هذا الجزء وحده فقط، يمكنك أن تفهم الإنسان أكثر خارج نفسك، وتستطيع من خلاله التكهن بإمكانية الانطباق وتحقيق شيء من التماثل فيما لو تعرض إنسان آخر لتجربة أو مجموعة تجارب مماثلة. إلا أن ما يحصل في الحقيقة إن الأغلبية حين يفكرون، فإنهم ينظرون من خلال تلك الثلاثة أرباع ذات الأسيجة العالية في خصوصيتها، لتصبح لديهم مقياسا في التأسيس لتصورات، ومن ثم الحكم على الأحداث والمواقف، وعلى حيوات الآخرين كذلك، ولذلك أغلب هذه الأحكام تفتقر إلى الدقة والموضوعية. ولا شك في أن هناك الكثير من المفاهيم هي لأجل تمرير وتبرير هذه النوعية من الأحكام والآراء، التي لا تلامس التجربة كما هي على حقيقتها ونصاعتها في ميدان الواقع، إنما تتمركز الميول في اتجاه قولبتها، وفق انعكاساتهم العاطفية والنفسية الآنية أولا والخاصة ثانيا، ثم تندرج لاحقا في طابور: هذه وجهات نظر أو آراء شخصية، وغيرها من التسميات غير المشذبة، التي لا تعكس صورا ناصعة عن حقيقة ما يجري، فضلا عن أن العاطفة تغلب أحيانا إلى درجة أن هذا الإنسان لا يريد أن يرى الوقائع كما هي، بل يحرفها بملء إرادته ويقول ما لديه مع التحريف والرفض لتلك الوقائع، لمجرد أنه لا يستطيع تحملها ومواجهتها. وعلى هذا فإن القدرة على الانتفاع من التجربة الشخصية في جانبها الذي يشترك مع الآخرين، هو واحد من أهم أسس القراءة المتحررة من القوالب الشائعة، والنصوص التي يغلب عليها ذلك الطابع، ولذا فإن في فهم الآخر والحياة والنظر خلف السلوك الظاهري، أو السلوك المستهلك في التداول، مسافات مرنة وطيعة تتحرك فيها النصوص الإنسانية العميقة، وهذا بالمجمل يدخل في القراءة وتلقي النصوص، فهناك من يناقش النصوص الحياتية الحسّاسة، من خلال تجربته الإنسانية المغلقة على نفسها فقط، أو من خلال الشائع الضيق لا من خلال تجربته المنفتحة على الآخر في جزئها الإنساني الذي أشرنا إليه. وهنا سأذكر بعض الخيوط التي تشير إلى القارئ المؤدلج وقراءته المغلولة، إلى النموذج الشهير أو الأكثر انتشارا في النصوص، وله مقبولية متفق عليها، مثلا:
إذا تحدثت عن الحب في أحد النصوص، انطلاقا من زاوية حرجة لم ترَ الضوء من قبل، صار يحدثكَ عن تجربته في الحب لا عن الذي فهمه من تأثير تلك التجربة واحتمالاتها لدى الإنسان عموما، وبذلك يفرض قالب شعوره وحياته على النص، بدل أن يفسح للنص مساحة التأثير اللازمة، وإذا تحدثت عن الحزن، راح يحدثك عن أحزانه هو وكيف يتفاعلان مع بعضهما بدون أدنى تفكير بالآخر الذي يكنّه النص، وإذا كتبت نصا يخالف توقعاته وتركيبته القرائية الصلدة، يعترض عاطفيا ونفسيا لا فنيا، وكأن الشائع هو الصواب دائما، أو لربما يعتقد أن ما اكتشفه في نفسه من خصوصيات، هو شامل لكل نفوس الآخرين وينطبق عليهم جميعا.
ومن التأدلج أيضا في مشهد من مشاهد الحياة، حينما يدعو المرء ربه بينه وبين نفسه إلى اليوم، فإنه يدعوه بالفصحى كما جرى في الأدعية والمناجاة والكتب المقدسة. وكأن الله لا يزال في عهد قريش ونحن سبقناه في الزمن. أتحدث هنا عن تأثر الأفراد، بدون وعي منهم بمحمولات ثقافية عقدية متوارثة، وليس لأن الأدعية من الأساس تتحدث تلك اللغة أو هناك ما يحث عليها، وهذا لا يمنع وجود ما عداها. هذا النوع من التأثيرات التي يخضع لها الفرد موجودة في ثقافات عديدة باختلاف المؤثر، ونادرا ما يقف عندها أحد ليتساءل، لماذا أحدّث الله بالفصحى وهو رب العالمين؟ هذا القالب هو نفسه ما يهيمن على الوعي القرائي ويجعله يتحرك بطريقة ميكانيكية محسوبة مسبقا، وفق اشتراطات البيئة الثقافية والاجتماعية وغيرها، ولأنها تمثّل الأكثرية، أدّت إلى تخليق ظاهرة أخرى تدعم هذه الرؤية، وهي ظاهرة الشعراء، الذين يرون أنفسهم مجبرين على تغيير طريقتهم الخاصة في الكتابة بسبب التلقي لا بسبب أنها تعاني خللا مثلا، وذلك لكون التلقي أصبح مؤدلجا في اتجاه نماذج معينة من النصوص، يصفَّق ويرَوَّج لها، ثم نجيء لنتحدث عن ظاهرة تشابه النصوص، وهي واحدة من مخرجات هذا التلقي القاصر.
هذه واحدة من أهم أسباب التشابه، فعندما لا يجد الكاتب صدى لكتابته الخاصة، لكون المتلقي واقعا في شباك الموجهات القرائية، يلجأ إلى الكتابة بالأسلوب الذي جذب الآخرين، وهو ما يوقعه في مساحات كتابية لا تلائم مزاجه الشخصي أو حتى الفكري، هذا غير أن الفكرة الناضجة تُكتب بأكثر من وجه وطريقة. بالمناسبة أنا هنا لا أتحدث عن التأثر، بل أتحدث عن ظاهرة التحول في اتجاه النصوص الأكثر قبولا، في حين يتوافر الكاتب على مؤهلات لخلق بصمة شخصية.
أما إذا جئنا إلى القراءة والتلقي في عالم السرد، سنجد أن الروايات والقصص كما هو متعارف عليه أنها لكل القراء، وهو أكثر مما يمكن القول عنه في الشعر، لاعتبارات تخص طبيعة الجنس الأدبي، ولذا فإن القارئ يتعامل بمزاجية متطرفة مع السرد أكثر بكثير من تعامله مع الشعر، على عكس ما توحيه مقولة السرد لكل القراء، لأنه يتعامل معه من خلال مجسّات التذوق والانطباع والمتعة الخالصة، والأهم من ذلك كله، إذا ما كان الموضوع يهمه أم لا. وهذه كلها معايير لا يمكن الاحتكام إليها في تكوين صورة حقيقية عن عمل سردي، إذا لم تكن ناضجة. فعلى سبيل المثال لا الحصر، مرت عليّ طوال سنوات مصادفة هذه العبارة، شفهيا أو تدوينيا، بأنّ «قصة حب مجوسيّة» أضعف ما كتب عبد الرحمن منيف. ومثل هذه المصادفة وجدت انطباعات مماثلة تخص أعمال روائيين آخرين وبأسلوب التلقي والمقارنة نفسه، إذن كيف احتكم القارئ لتكوين مثل هذا التصور؟ هذا ما اعتمل في ذهني لفترات طويلة، حتى تبين لي بعض الخطوط العريضة، ووجدت أن السبب يرجع بالدرجة الأساس إلى كونه قارئا مبرمجا على ثيمات محدودة، أخذت رصيدا عاليا من النجاح والشيوع، ولذلك هو حتى إذا قرأ ثيمات مشابهة لتلك التي قرأها في السابق لكنها تعود لحقبة زمنية أخرى، كأن تكون ذات طابع سياسي مثلا يندس فيها التاريخ وعوالمه الغريبة عن القارئ من أسماء ومدن وأحداث لم يألفها، فإنه سيقبلها ويلتذ بها ويتحدث عنها كعمل ناجح. في مقابل أنه لن يرى ذلك في رواية موضوعتها الحب! أو رواية موضوعاتها من ماض قريب عاش كثيرا من تفاصيله، إذ يبدو الكثير من الأحداث مألوفة وليست غريبة عنه، ولعل هذا أهم سر دفع الروائيين في اتجاه الرواية التاريخية المضنية. ولكن هذا التلقي غير سليم حقيقة، فعلى هذا الأساس الرواية التي لم تنل حظوظها لكونها تمثل واقع القارئ مثلا، ستعتبر بعد 25 سنة أو 50 سنة أو100 سنة رواية مهمة، والسبب بسيط، لأنها أصبحت تتحدث عن حقبة زمنية قديمة بالنسبة للقارئ في المستقبل، وستكون هذه المألوفات داخلة في حيز اللامألوف المثير للقارئ. طبعا هذا مجرد افتراض للإيضاح إذ أننا لا ندري ما يمكن أن يطرأ على مستقبل الرواية والسرد على وجه العموم من تغييرات، هذا إذا لم تظهر أشكال أدبية مجاورة للرواية وهي ليست رواية، إذ أن السرود التجريبية التي لدى بعض الكُتّاب قابلة للشروع بالنضج، وربما يتطور واحد منها في اتجاه ما فتصبح شكلا أدبيا غير متوقع يقود المرحلة المقبلة حصلت ويمكن لها أن تتكرر. ولذا أعتقد من الخطأ قياس أهمية العمل الأدبي وفق موضوعه كما في الأفلام والمسلسلات، إنما القياس المتجرد من تلك المزاجية إلى قراءة واعية، تكون منطوية على هذا السؤال: هل وفّق الكاتب في كتابته عن هذه الموضوعة أم لا؟ هل وفق منيف في «قصة حب مجوسية» وفي إطار هذه الثيمة أم لا؟
لا نقيس بأنها ضعيفة وفق مقارنة سطحية، يضعها القارئ الموجّه حين يتخذ من مادة كتابية تتحدث في مناخٍ مغرٍ ومثير بالنسبة إليه مع مادة أخرى لا يثيره موضوعها. القول بأن تلك ضعيفة وتلك قوية، محتكما لشهرة الموضوع والشائع منه والمقبول، يعد محض مزاج لا يرتقي إلى مستوى الرأي، ولذلك نحن لا نملك جمهورا غزيرا مدركا لا في الشعر، ولا في السرد. إنما لدينا مجموعات تقرأ ما قولبتهم عليه الدكاكين التجارية، وما ينتثر هنا وهناك، باستثناء حلقات المهتمين فعلا بعالم الأدب، والأدهى حتى بمثل هذه الحلقات من المهتمين، نجد قراء مؤدلجين، إلا أنهم أكثر مرونة من غيرهم، ثم هناك أكاديميون مؤدلجون وفرقهم عن الآخرين أنهم مؤدلجون بوعي منهم كخيار شخصي وهذه واحدة من كوارث النقد الباحث عن الأدب الخلوق والملتزم بالشرائع والذوق العام.
إذن من الخطأ أن نقرن «قصة حب مجوسية» بـ«مدن الملح» أو الأخيرة بـ«الأشجار واغتيال مرزوق» وهكذا.. فعلى الرغم من أن هناك ثيمات متداخلة في بعضها، إلا ان هناك ثيمة تغلب الأخرى، أو طابعا معينا يأخذ الصدارة لدى القارئ والرواية ويضعها في اتجاهات معينة تنفتح من خلالها القراءة. ولربما من أسباب هذه التصدعات المزمنة في أرضية القراءة، أننا أمام مفاهيم هلاميّة فقدت حدتها بمرور الأجيال كنتيجة للتغييرات المحلية والعالمية المنعكستين على بعضهما، حيث نجد أننا ببساطة اعتمادا على الأذن مثلا، نستطيع أن نقول هذا صوت جميل أو صوت خارق، وهذا لا بأس به وذاك سيئ ولا يصلح للغناء، وكذلك بقية الحواس بإمكانها تأدية فعل التمييز هذا بين الجيد والرديء بسهولة، إلا أن الإشكال بقي عالقا أمام مفهوم « التلقي « في الكتابة والقراءة، خصوصا في وقتنا هذا حيث يفتقر التلقي إلى وحدة المعايير، كما لا يعود إلى حاسة معينة مثل السمع أو البصر، أو اللمس، إنما إلى كل ذلك، بالإضافة إلى اعتماد القراءة على محددات ذهنية بالدرجة الأساس، وهذه المحددات ترتفع وتنخفض حسب مستوى المتلقي وخبراته ومرجعياته المتنوعة، ومدى انفتاحه على الإنساني والكوني، وهو شرط جوهري في توجيه بوصلة القراءة.
٭ كاتب عراقي
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.