ماهر مسعود *
لطالما كان الخيرُ دافعًا أساسيًا لدى البشر، يميزون به أنفسهم وأعمالهم عن الشرّ والأعمال الشريرة، ولطالما كان القيمةَ البشرية العليا التي تربّعت مع قيم الحق والجمال، لتصبح تلك القيم الثلاث مقاييس متعالية للأخلاق والعدل والحقيقة والمساواة، وغيرها من القيم التي تمثل العناصر الإيجابية في حياة النوع الإنساني، بحيث تتصارع وتتسابق الأديان والفلسفات والأيديولوجيات على زعم احتضانها وتبنّيها، وعلى القول بتمثيلها في حياة البشر.
وعلى الرغم من الطابع الكوني للخير، بوصفه قيمةً عليا، فإن طغيان الأحكام الإيجابية التي منحها البشر لتلك القيمة منعَ التشكك في أهميتها وأصلها وفصلها، ومنع التساؤل حول إمكانية أن يكون الخير ذاته إحدى أكبر أدوات القتل في التاريخ، وأن الدوافع الخيرة تتقاسم المسؤولية مع الدوافع الشريرة، في الجرائم والحروب التي حصلت في تاريخنا. ولكن الأهم من ذلك أن قدسية القيمة حجبت رؤية اللعبة أو الخدعة الكامنة في طبيعة الخير وفي وظائفه ووسائل استخدامه، وفي أنه يمثّل أهمّ الدوافع والمبررات التي استخدمها البشر لإضفاء الشرعية على أعمالهم الوحشية، وتغليف رغبتهم في السلطة والحكم والتسلط والهيمنة، وارتكاب البشاعات والجرائم الكبرى في سبيل تحقيق ما يرونه خيرًا عامًا!
إذا نظرنا إلى الأديان السماوية الثلاث، فسنجد أنها -بلا استثناء- جاءت بدعوى هداية الناس إلى طرق الصواب والحق، الخير والمحبة والسلام؛ ورفعت مقولات تُعزز دعواها: “من ضربك على خدك الأيمن أدرْ له الأيسر”، و”إنما بُعِثتُ لأتمم مكارم الأخلاق”، وسنجد أيضًا أن فكرة أن الدين لا يمثل الخير ولا يدعو إليه، تبدو فكرة مجنونة ولا عقلانية ومجانبة كليًا للصواب، حيث يبدو الدينُ والخيرُ ملتصقين كتوأمين سياميين في جسد واحد. إلا أن نظرة أخرى إلى الحروب الدينية التي حصلت، تاريخيًا، سواء بين الأديان فيما بينها كالحروب الصليبية والفتوحات الإسلامية، أو داخل الدين الواحد الذي انقسم إلى طوائف وشيع، كالحروب الكاثوليكية/ البروتستانتية – والسنية/ الشيعية، تُظهر أن تلك الحروب قامت وما زالت تقوم باسم “الخير”، لإعلاء كلمة الحق، دفاعًا عن العدالة والمساواة، ضد الشر والظلم الذي يمثله دائمًا الطرف الآخر.
ابتداءً من الحروب الدينية الجماعية الكبرى، مرورًا بالتنظيمات الإرهابية التي ما زالت ترتع في بلادنا لتحطّم آخر ما تبقى من إرث ومعنى لثورة الحرية، وصولًا إلى العمليات الفردية الأخيرة في فرنسا والنمسا، لن تجد إلا أفرادًا وجماعات مقتنعين ومؤمنين تمامًا بخير ما يفعلونه، لأنفسهم ولجماعاتهم ولأديانهم ولآخرتهم، وأحيانًا للبشرية جمعاء. ومن هنا، تأتي تلك الخدعة التي يتلطى خلفها الخير، فهو يمنح المعنى للقتل والقتلة، ويجعل لجرائمهم رسائل سامية، ويخفي جميع المصالح والمنافع البشرية، الضيقة والواسعة، تحت ستار المثل الأعلى والخير المطلق الذي يتم الدفاع عنه والتضحية من أجله. ومن هنا نسأل عن الدافع خلف كل ما سبق: هل هو الرغبة في السلطة أو السيادة أو الثروة أو الانتقام؟ أم هو تحقيق مصلحة القادة والزعماء والجماعات والأفراد، أو المصلحة الفردية بالدخول إلى الجنة؟! جميع تلك الدوافع الأصلية تختفي وتتخفّى خلف القيمة العليا والخير الأسمى الذي يمثله ذلك الدين وتلك الجماعة أو الطائفة أو الزعيم أو الفرد الذي يتحوّل من مجرم إلى رمز، ومن قاتل إلى مناضل لأجل العدالة الغائبة!
المثال ذاته ينطبق على الأيديولوجيات الكبرى، وعلى الأيديولوجيا اليسارية تحديدًا أكثر من غيرها، لأن اليسار -على عكس اليمين- ينطلق من مُثلٍ إنسانية عليا: المساواة والعدالة في توزيع الثروة، وتحرير الطبقات المسحوقة من العبودية والظلم والاستغلال والتفاوت الذي ينتجه النظام الرأسمالي. جميع تلك المثل كانت دائمًا في قلب القيم اليسارية. إلا أننا عندما ننظر إلى تاريخ اليسار القديم والمعاصر، نجد أنه لا يقلّ بشاعة عن تاريخ أعدائه، فكولاغ ستالين لا يقل بشاعة عن هولوكوست هتلر. ولا يهدد الحريةَ والديمقراطية وحقوق الإنسان اليوم أكثر من نوعين من الدول والأنظمة: الدول الدينية مثل إيران، والدول القائمة على التاريخ اليساري، مثل روسيا والصين وكوريا الشمالية. وبالمقارنة مع اليمين، الذي يبدو أكثر وضوحًا في شرّيته، دعمه للأغنياء وللتفاوت الطبقي، عنصريته ضد المرأة، ضد السود، المثليين، الأقليات المهمّشة على اختلاف أشكالها؛ وهو ما يسهّل الوقوف ضده، يبدو اليسار إذًا، وكأنه ممثلًا للخير الأرضي، بعد أن مثّل الدينُ الخيرَ السماوي والأرضي معًا، ويبدو اليسار أيضًا وريثًا للدين ومنافسًا له في الوقت ذاته، وهذا يفسّر حالة الكراهية المتبادلة والعداء التاريخي بين اليسار والدين، في الصراع على تمثيل الخير في حياة البشر، على الرغم من كونهما، ضمن تلك الزاوية للرؤية على الأقل، متشابهين جدًا، أو لنقل إنهما وجهان لعملة واحدة.
تلك الشرور الناتجة عن الخير ذاته لا نجدها على مستوى الكبائر والأنظمة والسياسات الكبرى فحسب، بحيث ينطبق المثل القائل إن “الطريق إلى الجحيم معبّد بالنوايا الحسنة” والرغبات الخيّرة، بل على مستوى الصغائر والعلاقات الفردية أيضًا، حيث إننا كثيرًا ما نقوم بتدمير أطفالنا أو أحبابنا، نتيجة حبّنا لهم، خوفنا عليهم، أَمثَلَتَهم، دفعهم بالقوة إلى ما نراه خيرًا لهم ولنا؛ فيصِلون في النتيجة إلى ما يخنقهم ويدمّر طاقاتهم وشخصياتهم وإبداعهم، وينطبق هنا أيضًا المثل الشعبي: “ومن الحبّ ما قتل”.
جميع تلك الأمثلة الفردية والجماعية السابقة ليست للقول إنه ليس هناك خير أو حب أو ما شابه، بل لإدراك الصعوبة التي يواجهها البشر، عندما يناضلون ضدّ ما يبدو أنه خيرٌ عام، بالرغم من كل الشرور التي يحتويها بداخله أو الناتجة عنه، ولا سيّما عندما يتلَحَّف ذلك الخير العام بالمقدس السياسي أو الديني أو الاجتماعي أو الثقافي، ولذلك كتب نيتشه -مثلًا- كتابَه “ما وراء الخير والشر”، لكي يتجاوز تلك الثنائية التبسيطية والخطيرة، ولذلك تعمّقت حنّة آرنت في تحليل “تفاهة الشر”، لتبرز أن إنسانًا عاديًا مثل آيخمان، قد تخرج عنه أقصى أنواع الشرور، في الوقت الذي يفعل ما يفعله بوصفه خيرًا لوطنه وشعبه الألماني.
في عام 1952، خسر الفيلسوفان الصديقان جان بول سارتر وألبير كامو علاقَتهما المتينة، إلى الأبد، نتيجة للخلاف الفكري والمبادئي الذي نشب بينهما على أثر انتهاء الحرب العالمية الثانية، وصعود الاتحاد السوفيتي بزعامة ستالين، كقوة شيوعية عالمية، في مواجهة الغرب الذي لم يبدُ حاملًا لأي مشروع خلاصي للبشرية، بل على العكس من ذلك، متبنيًّا النظامَ الرأسمالي وقوته الإمبريالية والاستعمارية المتوحشة، النظام الرأسمالي الذي أشبعه كارل ماركس تحليلًا وتفنيدًا، وأشبعته الماركسية إدانة وتقويضًا أخلاقيًا وفكريًا. اختار سارتر الخيار الفلسفي والسياسي الذي بدا أخلاقيًا وقتها: دعم الثورة الشيوعية، ثورة العمال والفلاحين والمقهورين والبروليتاريا ضد البرجوازية والطبقات المسيطرة والاستغلال الرأسمالي، وإنْ كانت بقيادة خاطئة -برأيه- تحت حكم ستالين، مُعتبرًا أنه لا بأس في موت الملايين، من أجل تحقيق الغايات الكبرى التي تعود بالخير على البشرية جمعاء!
في المقابل، رفض كامو رفضًا قاطعًا الأيديولوجيا الشيوعية الأممية القابعة تحت مجرم ودكتاتور مثل ستالين، ليس لأنه مغرمٌ بالنظام الرأسمالي، ولكن لرفضه الفلسفي لفكرة الخلاص الشيوعي الذي اعتبره نوعًا من أنواع الخلاص المسيحي الذي يعِد بالغائب ليبرر قسوة الحاضر وإجرام المستبدين، ذلك الحاضر الذي سيبقى سيزيفيًا -برأيه- مهما تعددت أنواع الخلاص. لقد رفض كامو التبرير السارتري للجرائم الستالينية في الكولاغ، ليعلن بعدها مقولته الشهيرة: “نحن لا نطمح إلى عالَم لا قتلَ فيه، بل إلى عالَم لا يمكن فيه تبرير القتل”.
* كاتب وباحث سوري
المصدر: حرمون
التعليقات مغلقة.