الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

عن الانتقال الديمقراطي

ميشيل كيلو *

إذا كان غياب التوافق على الديمقراطية، كبديل للأمر الأسدي القائم، معضلةً لا بدّ أن تنجح الأحزاب والتيارات في تخطيها خلال الفترة الباقية من الصراع على سورية وفيها، ولا يعرف أحدٌ بعد كم ستطول، وماذا سيتمخض عنها في عالم غيب دولي حرص أربابه على “تطميش” السوريين الغارقين في ضباب أفكارهم؛ فإن تحديد نمط النظام الذي يريدون إقامته مهمةٌ ليست مسألة كلامية أو سهلة، كما يقول اعتقاد شائع في عالم العوام السياسي، الذي يضمّ عددًا كبيرًا من “نُخبٍ” تثق ثقة مطلقة بأن الديمقراطية ستقوم بفضل تكرار اسمها في أحاديثها التي تجعل منها خيارًا لا رادَّ له، متجاهلة أن أداء “المعارضة” بعد الثورة أثبت افتقارها إلى الأهلية المطلوبة لإرساء أسسها في واقعنا، فلا عجب أن ضيّعها تحويلها إلى مسألة “حكي” مقطوع الصلة بالثورة، وبما كان يجب أن تكرّسه من حقوقٍ للشعب الذي ضحى بكل غال ونفيس طلبًا لحريته.

ينبع تعقيد الانتقال الديمقراطي في بلادنا من جملة معوقات، أولها أن الديمقراطية ليست خيارًا دوليًا، وأن قسمًا كبيرًا من حملة سلاح الثورة المضادة يرى فيها كفرًا، عليهم التخلّص منه ومن حملته استباقيًا، بينما يفتقر دعاة الديمقراطية السلميون إلى ما هو ضروري من انضباط ووعي يعززان فرص نجاحها، عبر تحييد المسلحين من أعدائها، المرتبطين استخباريًا بخطط إقليمية ودولية، والمكلّفين بإحباط أي عمل جدي يستهدفها، وتقويض أي حامل مجتمعي وازن لها، واستغلال واقعة أن دور الشعب لم يعُد موحدًا، وإن نسبيًا، في المطالبة بها، بعد ما تعرض له من عنف وتكبده من خسائر، وعاناه من تفتيت تمزيقي أفقده الوسائل الكفيلة بجعله طرفًا يقرر مصيره بنفسه، وزاد الطينَ بلة أن نخبه الديمقراطية منخرطة في عالم كلامولوجي، تُفاقِم تهافته تناقضاتها وخلافاتها حول مسائل تجاهر باتفاقها عليها بالمفرّق، ولا تقلع عن “التناتف” المتبادل حولها بالجُملة. وأخيرًا، لأن ما بعد الأسدية سيطرح على السوريين تحديات لا خبرة لهم في التصدي لها، ولم يسبق أن واجهوا ما يماثلها، تتصل بإعادة بناء دولة ومجتمع دمّرهما جيش الأسدية عن سابق عمد وتصميم، لأن دمارهما هو ثمن بقائها في السلطة، فإذا أضفنا إلى ذلك أن إعادة البناء ستتم من نقطة الصفر، وستضع السوريين أمام مصاعب يستدعي تخطّي ما يُشبهها وقتًا طويلًا وجهدًا دوليًا مكثفًا ومتكاملًا في البلدان التي دمّرتها الحرب العالمية الثانية؛ أدركنا أن لنضال السوريين من أجل الديمقراطية فرادةً تتسم بمصاعب يزيدُ من تفاقمها رفضُها دوليًا، ورفض معظم راعيي فوضى السلاح لها كخيار وطني، وإصرار قطاع واسع من “أنصارها” على دعمها بكلماتٍ لا أبعاد عملية لها، بينما تراجعت مطالبة ملايين البسطاء بها، بسبب ما آلت أحوالهم إليه من بؤس إنساني واستنزاف أودى بطاقاتهم، بعد عقد كامل من حرب همجية استهدفتهم، لكنهم أعجزوا الأسدية الدولية والإقليمية والمحلية خلالها عن إحراز انتصار لا شبهة فيه عليهم.

ما الذي يمكن فعله، في هذه الظروف، لإنقاذ الخيار الديمقراطي؟ أعتقد أنه لا بد من أمور:

أولًا: تسوية تاريخية تكون الديمقراطية رهانَ الأطراف السياسية المنخرطة فيها، باعتبارها خيارها وخيار وطنها الإنقاذي، ولأن أي خيار آخر سيكون استبداديًا ومرشحًا لاستعادة نسخة معدلة من الأسدية، ومدعاة لانقسام يدمّر ما سيبقى بعد الحلّ من سورية الوطن، التي ستكون بحاجة إلى قدر أعظمي من الوحدة الشعبية والمجتمعية.

ثانيًا: برنامج ينبثق عن الأسس التي ستقوم التسوية عليها، ويدور معظمها حول خيار ديمقراطي مفتوح يسمح لها بالوصول إلى توافقات طويلة الأمد بين أطرافها، التي يستحيل تحقيقها بجهود أي طرف بمفرده منها، أو خارج إطار الديمقراطية الجامع: الذي يعدّ التوافق عليه مكسبًا لجميع أطرافه، في ظل علاقات وتوازنات القوى الراهنة التي يستحيل تجاوز ارتداداتها السياسية الخطيرة عليها وعلى الثورة، دون بلوغ توافق يوحدها ويدمجها في فضاء سياسي تواصلي ومتكامل، كطرف يواجه الأسدية، بما تمتلكه من قدرات ذاتية ومستعارة على التشويش والتعطيل.

ثالثًا: حتمية تشكيل هيئة مشتركة تستبق أعمالها المرحلة التي ستفصل الحل السياسي عن النظام الديمقراطي، وقد تكون مديدة أكثر مما يعتقد معظمنا، ومن غير المستبعد أن تأخذ سورية إلى استبداد جديد، إذا لم يتم في أقرب وقت توحيد الطيف المطالب ببديل للأسد، بدءًا بتوحيد أطراف البديل الحر والعلماني التي ستتولى من جانبها مواجهة الفترة الانتقالية التالية للحل، وستكون محل صراع شديد بين خيارات متناقضة، لن يكون خيار الحرية والديمقراطية محسومًا فيها، إلا بقدر ما يكون هناك توافق عليه منذ اليوم، قبل الانتقال من الحرب إلى الحلّ، ويرجح أن يواجه بقوى معادية لا يستهان بها، تدعمها أطراف معادية للثورة، أسدية وفصائلية، واسعة ومنظمة وعنيفة، سيكون من المحال مواجهتها بالفوضى والارتجال السائدين اليوم في صفوف المعارضين، المحكومين بخلافات وتباينات قديمة وجديدة، لم يعرفوا كيف يتغلبون عليها في الأعوام الماضية، وستتحول إلى كوارث تحلّ بهم جميعهم، إذا لم يواجهوها استباقيًا منذ اليوم، على الصعيدين البرنامجي/ الخططي، والعلائقي/ التنظيمي، العملي والميداني.

أخيرًا، أقول بصراحة: لن تنجو سورية، مجتمعًا ودولة، ولن ينجو السوريون، أفرادًا وجماعات، من الهزيمة، إذا ما استمرت أوضاع التبعثر والتناحر الحالية بين تمثيلاتهم السياسية والاجتماعية. ومهما بدت الدعوة إلى التسوية التاريخية التي أقترحها عصيةً على التحقيق، فلا مفرّ من الحوار حولها، والعمل لها من قبل جميع تيارات الساحة السياسية السورية منذ الاستقلال حتى اليوم، التي سيتخطاها الواقع، ولن تنجو من الهزيمة، إذا ما فشلت في إدراك أهمية التسوية واللحظة، وفي صياغة جوامع لا خلاف عليها، تصلح لبلورة برامج تغطي مجمل الشؤون الوطنية، ولإقامة هيئة إدارية أو قيادية مشتركة، هدفها الوحيد إزاحة الكابوس الأسدي، وما استدعاه من محتلّين روس وإيرانيين لوطننا، ووضع أحجار أساس مشتركة لنظام بديل هو مصلحة للجميع.

جرّبنا تغيير أوضاعنا طوال قرابة قرن، وفشلنا متفرقِين. دعونا نجرب لأعوام قليلة العملَ متوافقين متحدين، فإن نجحنا نجونا، وإن فشلنا لا نبرح مألوفنا، ونعود إلى ما ألفناه من عيش تحت أقدام طغاتنا، ونظمهم!

* كاتب وباحث ومحلل سياسي سوري

المصدر: حرمون

التعليقات مغلقة.