ماهر مسعود *
بعيدًا عن الكلام المعسول الذي لا يمكن إلا خيانته، لا يبدو الحل الديمقراطي لأزمة الوطنية السورية، إلا كوعدٍ للمغدورين بجنّة غير موجودة، كي يرضوا بجهنم التي يعيشون فيها فوق كل بقعة أرض، وعلى كل ذرة تراب، في سورية.
لكن قبل الحديث عن الحال السورية والحل الديمقراطي، لا بد من توضيح مسائل متعلقة بالديمقراطية يفترض أنها أولية، إن لم تكن بديهية:
أولًا، ليست الديمقراطية هي حكم الشعب لنفسه بنفسه، كما جرت عادة تغليفها بتعريفها، فالشعب لا يحكم. إنما يختار حكّامه من النخبة التي ستحكمه في أحسن الأحوال، وحتى عندما يختار حكّامه، فإن نصف الشعب على الأقلّ سيبقى محكومًا، بأجندة النخبة التي اختارها النصف الآخر. لكن النظام الديمقراطي الذي هو حكم العديد (وليس الأكثرية بالمعنى السائد) يبقى يتميز، بالقياس إلى الحكم الموناركي (حكم الواحد) والأوليغاركي (حكم القلّة)، بأنه يسمح بمسألتين: تحديد الفترة الزمنية للحكم، وتوزيع السلطة على العديد من مراكز القوى، واستقلالها عن بعضها وعن يد الواحد أو القلّة.
ثانيًا، كل كلام عن تحقيق الديمقراطية في زمن الحرب هو كلام فارغ من المعنى، فالديمقراطية تحتاج إلى سلام واستقرار وسيادة، وأي خلل بتلك الشروط يقوّض الديمقراطية، مع أن تلك الشروط ذاتها لا تنتج ديمقراطية بالضرورة، فقد يكون السلام سلامَ العبيد، والاستقرار استقرارَ الدكتاتور في الحكم، والسيادة سيادةَ السلطة المطلقة على الشعب.
ثالثًا، الديمقراطية -جوهريًا- هي حالة صراع دائم بين الأفراد والجماعات والأحزاب والحركات، ضمن الكيان المسمّى دولة، وليس إلغاء الصراع سوى دكتاتورية عفنة، سواء كان الساعي لإلغاء الصراع ذا لحية ماركسية أو لحية جهادية أم علمانيًّا أجرد. ولكن فضيلة الصراع الديمقراطي تكمن في أنه صراع يقوم أولًا على الاعتراف بالمُنافس وبالمنافسة ذاتها، وثانيًا أنه صراع سلمي غير مسلح، وأي خلل بتلك اللعبة يحوّلها إلى لعبة دموية.
الآن نعود للحديث عن الحال السورية:
إن الغائب الأبرز سياسيًا في سورية هو الاعتراف، ليس الاعتراف بالتنافس والصراع والتعدد والاختلاف فحسب، بل الاعتراف أولًا بتحطّم الكيان السوري الجامع، وتخلّع الهيكل المسمى دولة، إن كان بالاحتلالات من الخارج أو بالانقسامات من الداخل. والاعتراف ثانيًا بأن صراعنا ذاته بات صراع المهزومين، والقوة الوحيدة التي يمتلكها مهزوم هي قوة الاعتراف بالهزيمة، فمشروع النظام الأبدي هُزم، والثورة الديمقراطية هُزمت، ومشروع الحكم الإسلامي، ثم الخلافة الإسلامية، الانفصال الكردي، تحالف الأقليات، الدولة العلوية، المشروع الشيعي.. كلّها هُزمت، أو هي في طريقها إلى الهزيمة، وإصرار أي من أصحاب تلك المشاريع على مشروعه، بدعم القوى الحامية، ليس سوى إيغال في الهزيمة، له وللآخرين وللشعب وللكيان السوري المطلوب بناؤه من جديد.
ثالثًا، الاعتراف بأن ما يجمع الشعب السوري، تحت سقف كيان اسمه سورية، ليس الأخوّة ولا المحبة ولا التعاضد والبنيان المرصوص ولا الأصل والعمق التاريخي والأصالة، ولا أي من تلك الفضائل الأخلاقية التي لم تنجب سوى القتل والشيطنة والتسلّط. بل إن ما يجمع السوريين هو المصلحة، مصلحتنا بالعيش المشترك والاعتراف المتبادل وتقاسم السلطة والثروة والنفوذ، وذلك حفاظًا على دمائنا ومستقبل أطفالنا، فليس للعلوي مثل حظ السُّنييّن، ولا للسنّيّ مثل حظ الكرديَّين ولا لغيرهم.. هذا من جهة، ومن جهة ثانية مصلحة النظام الدولي الذي لا غنى لنا عنه، والذي رسم حدودنا مع سايكس بيكو قبل مئة عام، فتلك الحدود باتت حدود كياننا السياسي الذي ليس لنا سوى البناء عليه والعيش تحت سقفه، فلا يمكن توسيعه، كما رغب الحالمون بالقومية والإسلامية والماركسية، ولا تضييقه كما يرغب الحالمون بالتقسيم أو الانفصال اليوم، فالشعب الذي دفع ثمن الأحلام القومية الأكبر من الكيان السوري سابقًا، ليس عليه أن يدفع ثمن الأحلام الطائفية والقومية الأصغر من ذلك الكيان اليوم، لنلتزم بحدودنا السياسية إذًا، ونصنع حياة مشتركة داخلها بناءً على الفائدة والمصلحة معًا، وإن كان الكلام السابق يخصّ الجميع، طبعًا، فإنه يخص الائتلاف التابع لتركيا من جهة، والقيادات الكردية الحالمة بقومية كردية عابرة للدول من جهة أخرى، تلك الثنائية التي لن تنجب سوى “غزة” في سورية، من جهة الائتلاف، ودكتاتورية قومية من جهة الأكراد، هي أشبه بنظيرتها القومية العربية، أو دولة علمانية عنصرية في أحسن الأحوال، مثل “إسرائيل”.
رابعًا، الاعتراف بأن المظلوميات هي العنصر الأساس لبناء الدكتاتوريات ورعاية المذابح، والتوافق على منع تحويل الظلم إلى مظلومية، وهذه مسألة في غاية الحساسية والدقة، فالأكراد ظُلموا كثيرًا قبل الثورة، والسنّة ظلموا كثيرًا بعد الثورة، وللعلويين قصصهم مع الظلم، ولكل طائفة وإثنية وفئة تاريخُها وقصّتها حول الظلم الذي تعرضت له، لكن الاعتراف بالظلم لا يجدر به التحول إلى مظلومية، فالمظلومية هي تسييس الظلم لتحصيل الامتيازات، تحويل الظلم إلى سياسة المظلومين وابتزاز الآخرين بها (إسرائيل هي المثال الأسطع في العالم المعاصر على استغلال الظلم الذي تعرض له اليهود وانتهى بالهولوكوست، لتحويله إلى سياسة دولة عنصرية، مقدسة، ضد الفلسطينيين)، وبينما يفتح الاعتراف بالظلم بابًا متواضعًا أمام العدالة، فإن المظلومية تعتاش على انعدام العدالة، تأجيلها إلى الأبد، جلد الآخرين بغيابها، استخدام ظلم الماضي لتبجيل الذات وبناء تسلطها على الآخرين في الحاضر والمستقبل، أسطرة التضحيات، ليس من أجل الضحايا، بل لبناء أوضاع امتيازية باسمهم وتحويل المضطَهدين القدامى إلى مُضطهِدين جدد. هذا انتقام لا يحول ولا يزول، وليس عدالة.
إن المثال الديمقراطي القائم على مجتمع مدني قوي ومتماسك ومفارق للعصبيات، وانتخابات فردية خالصة من الجماعات الأولية، وتوفير الاستقرار والسلام والأمن والسيادة، واستقلال المؤسسات والسلطات السيادية والسياسية.. ليس ممكنًا في الحال السورية بأي حال، ولذلك علينا صياغة نموذج ديمقراطي “على قدّنا”، يقوم على الاعتراف والتوازن، الاعتراف بالواقع كأرض للانطلاق لا محطة للوصول. الاعتراف بالطوائف والاثنيات والقبائل والجماعات والمناطق والجهات والإدارات، والتوقف عن أَمَثَلَة الوطنية السورية، بجعلها مثل امتحان “التوفل” للجامعات الغربية، لا ينجح فيه إلا كلّ طويل عمر. وصناعة وطنية سورية من أرضية المركب الاجتماعي والسياسي السوري، دون صياغة نظام سياسي طائفي يقوم على التمييز في المواطنة العامة والحقوق الفردية. ولأن تلك النقطة من أكثر النقاط حساسية وخلافية في السياسة السورية، سأشرح المقصود منها:
لا توجد قوة دولية صغيرة أو كبيرة، صديقة أو عدوة، إلا وهي تتعامل معنا، كطوائف وقبائل واثنيات وخلافه، ولا توجد قوة سياسية أو عسكرية فاعلة في الداخل، من النظام إلى الائتلاف إلى (قسد) والفصائل والميليشيات والزعماء والقادة والأمراء والمشايخ والأئمة.. إلى كلّ ما يُسمى قوى الأمر الواقع والمؤثرين بالواقع، إلا وهي ترى بالعين ذاتها التلاقي مع القوى الدولية، ثم تأتي “المعارضة الوطنية الديمقراطية”، لتكون كل شيء باستثناء جميع من سبق ذكرهم، فتكون بالمحصّلة “لا شيء”، ولذلك فإن الاعتراف المتوازن يقطع الطريق على كلا الحديّن المتطرفين (حد القوى الدولية والميليشيات المحلية، وحد التصوّر المثالي للديمقراطية الذي تطرحه النخبة العاجيّة)، لأنه يعترف بالواقع الطائفي المناطقي الاثني والقبائلي السوري، دون أن يحوله إلى تحاصص طائفي سياسي على المستوى الدستوري، وبالنتيجة لا مخرج من الطائفية إلا من قلب الطوائف، ولا من القبلية إلا من قلب القبائل.. ولكن للخروج من التمثيل الإجباري لبشار والجولاني ومشايخ العقل وPYD ونصر الحريري وغيرهم، لا بد من فسح المجال للمجتمع الأهلي والمدني، ليفرز ممثليه اختياريًا ويطوّر تمثيلاته وطنيًا، ولا بدّ من التوقف عن التعالي الزائف الموروث عن سياسة “الأب القائد”، في رفض الطائفية والمناطقية والاثنية في العلن، وتنفيذها كاملة تحت الطاولة، والتوقف عن إعطاء علامات الوطنية من نخبة لم تمارس السياسة يومًا إلا كثقافة.. ثقافة وأخلاق “الما يجب” بدلًا من سياسة “الما يكون”.
ليس تحطيمُ المثال الديمقراطي فتحًا لباب الشعبوية، على أي حال، فما يُنتج الشعبوية ليس تمثيل الناس بل تجاهلهم ثم “الطبطبة” على أوجاعهم، ولا تكريسًا للدكتاتورية بأي شكل؛ فالبديل الديمقراطي يُصنع صناعة ولا ينزل “بكيسه” جاهزًا من السماء، بل هو تحرير للخجولين بذواتهم، والخائفين من آبائهم خوفًا يمنعهم من العمل، تحريرهم من عقدة المتعالي وفكرة المثالي والـ perfectionism التي تحكم سلوكهم السياسي، وتطوّر نفورهم المتبادل من بعضهم الذي يغذّي اســتحـالة العمل المشـترك، ونفور المجتمع الـدولي منهــم الذي يغذّي استحــالة بناء البـديل السـياسي، وهو ما يقــودنا في المحصلة، ويعــود بنا إلى تـلك الــدائـــرة الجهنميــة التي تبــدأ بغياب الحــلّ الديمقــراطــي والبــديــل السياسي، وتنتهي ببقاء الدكتاتور.
* كاتب وباحث أكاديمي سوري
المصدر: حرمون
التعليقات مغلقة.