الحرية أولاً , والديمقراطية غاية وطريق

كتاب « الأندلس إبادة شعب وحضارة » للكاتب: ’’ معقل زهور عدي ‘‘.. الحلقة الثانية

( الحرية أولاً ) ينشر حصرياً كتاب « الأندلس إبادة شعب وحضارة » للكاتب: ’’ معقل زهور عدي ‘‘.. الحلقة الثانية

الفصل الأول ( الجزء الأول )

هل إسبانيا أوربية ؟                                                                                                           

ربما يبدو السؤال غريباً, فإسبانيا الحالية من أكبر الدول الأوربية, وإسبانيا أول إمبراطورية أوربية استعمارية وكانت الأقوى والأغنى, ولغتها اللاتينية جزء لا يتجزأ من اللاتينية الأم التي تفرعت عنها الايطالية أيضا وثقافتها المسيحية- الأوربية تقع في قلب الهوية الأوربية فكيف يمكن أن يكون مبررا مثل ذلك السؤال؟

في البدء فلست أنا من وضع إشارة الاستفهام حول أوربية إسبانيا لكن بعض المفكرين الأوربيين يعتبرون أن حدود أوربة التاريخية تنتهي عند جبال البيرينيه وليس عند مضيق جبل طارق وأن إسبانيا هي امتداد لشمال أفريقية أكثر منها امتدادا لأوربة, وفي كتاب “تاريخ إسبانيا” لـ سيمون بارتون جاء الآتي:

” بالنسبة لشبه الجزيرة الإيبرية فحتى اليوم يمكن للمرء أن يجادل خاصة مع وجود اقليم الباسك وكاتالونيا في أن اسبانيا كأمة مازالت في طريق التكون (الولادة), وحتى عهد قريب نسبيا فإن القول القديم المأثور ” أفريقية تبدأ عند جبال البيرينيه ” ظل محفورا بعمق في وعي المؤرخين من كل الجنسيات, فلقد ساد الاعتقاد بصورة واسعة أن إسبانيا شعب منفصل عضويا (فيزيائيا) جرى ضمه إلى أوربة مع كونه مختلفا عنها بصورة صادمة, ليس فقط بطبوغرافيته ومناخه وإيكولوجيته, ولكن بثقافته وعقليته وفوق ذلك كله بمساره التاريخي, وبعض المفكرين مثل أمريكو كاسترو يعتبرون أن الشخصية الإسبانية قد تأثرت بعمق بالتفاعل الثقافي الذي جرى في الأندلس بين الإسلام والمسيحية واليهودية, في حين يرفض آخرون ذلك الرأي بدعوى أن الهوية الإسبانية تكونت على عكس ما سبق خلال حروب “الاسترداد” وأنها نضجت في ذلك الكفاح المرير عبر مئات السنين؛ فإذا أخذنا برأي المتشددين الذين يعتبرون أن ما يسمى بحروب “الاسترداد” كانت هي الفرن والمصنع الذي شكل الهوية الإسبانية فلنا أن نتساءل فيما إذا كان ذلك يعتبر إقرارا بعدم وجود هوية إسبانية سابقة . وتلك حقيقة نتفق عليها, وهي بالمناسبة لا تنفي التأثير العميق للثقافة الأندلسية في الشعب الإسباني الحالي, فالصراع العسكري والانتصار فيه والسيطرة السياسية لا تكفي لصنع الهوية الثقافية لشعب من الشعوب ولا تمنع تأثر ذلك الشعب بثقافة العدو الذي يحاربه ويمكن ملاحظة ذلك أيضا في الحروب الصليبية التي كانت مناسبة لنقل الكثير من المعارف و الافكار من الشرق العربي – الإسلامي إلى أوربة.

فإذا حاولنا توسيع نطاق السؤال حول هوية شبه الجزيرة الإيبرية وعلاقتها بالهوية الإسبانية التي يقال إنها تشكلت في خضم حروب “الاسترداد” التي بدأت فعليا قبيل منتصف القرن الحادي عشر فلابد للعودة للتاريخ القديم لشبه الجزيرة الإيبرية . اذ يبدو من شبه المسلم به أن الرومان لم يكونوا هم الشعب الذي عمر شبه الجزيرة بل كانوا طبقة نخبوية مكونة من زعماء الفرق العسكرية وقسما من وحدات الجيش , وبعض الاداريين الملحقين, وأن ايبريا كانت قبلهم وفي عهدهم زاخرة بالعمران والزراعة والمراكز المدنية والحرف والصناعات اليدوية بل انها كانت مصدرا هاما لروما للزيت والخمر والسلع الأخرى .

وبصيغة مختلفة فأيبريا كانت بلدا حضاريا بكل ما في الكلمة من معنى, والعصر الروماني الذي امتد من حوالي 200 قبل الميلاد إلى حوالي 400 بعد الميلاد بالرغم من تأثيره الكبير في سيادة اللغة اللاتينية باعتبارها لغة الدولة, ونقله للتنظيم المتطور للرومان في حقل القوانين والبناء والادارة لكنه لم يغير هوية الشعب الحضارية بقدر ما أضاف عليها . وعلى أية حال فربما تعجلت قليلا في استباق البحث وعلي الآن العودة للموضوع بشيء من التفصيل .

تاريخ إسبانيا قبل الفتح العربي – الاسلامي:

تعود أولى دلائل وجود الانسان المتمدن في شبه الجزيرة الإيبرية لما قبل الألف السادسة قبل الميلاد حيث وجدت آثار للزراعة وتربية الحيوان في الجزء الشرقي الجنوبي على نطاق محدود المساحة ومتناثر وبأعداد قليلة, وبعد ذلك وفي العصر الحجري الحديث(1) حيث الزراعة المنزلية وتربية الحيوانات واستخدام الأدوات الحجرية وصناعة الفخار فيعتقد أن ذلك التقدم قد وصل من أواسط البحر الأبيض المتوسط أو من شمال أفريقيا إلى الجزء الشرقي الجنوبي ثم توطن وانتشر ببطء شديد, وبطريقة غير منتظمة, أما في القسم الغربي من إسبانيا والبرتغال فقد ساد نمط مختلف للتطور حيث جاء العصر الحجري الحديث متأخرا بين 4500-3800 قبل الميلاد.

بدأ استقرار الفينيقيين في ايبريا منذ بداية الألف الأول قبل الميلاد (حوالي 900 ق .م), وفي بادئ الأمر نشأت مستعمراتهم في الساحل الشرقي والجنوبي المطل على البحر المتوسط , لكنهم توسعوا بالتدريج نحو الشاطئ الغربي المطل على المحيط الأطلسي.

ويتحدث المؤرخون عن شعوب أخرى قديمة سكنت في وسط وشمال إيبريا, وبعضهم يرى الى أن أصولها المحتملة من شمال أفريقيا, بينما يرى آخرون أنها مهاجرة من آسيا إلى أوربة ثم عبرت جبال البيرينيه بدلالة لغتها الهندو- أوربية لكن تأثير تلك الشعوب بالمسار الحضاري لشبه الجزيرة كان أقل من تأثير الفينيقيين, بل إنهم اكتسبوا معارف عديدة من اختلاطهم مع الفينيقيين .

من هم الفينيقيون ؟

في تقديمه لكتاب آن نيفيللي الأركولوجي “جبال من فضة وأنهار من ذهب” والذي يعرض بالتفصيل المكتشفات الأثرية الأخيرة في شبه الجزيرة الإيبرية المرتبطة بالمرحلة الفينيقية وشيئاً من دلالتها التاريخية يقول السيد /آر. جي. اي. ويلسون/ إن ذلك الكتاب يقدم عرضاً مترابطاً ومبتكراً هاماً للبرهان فوق العادي للوجود الفينيقي في جنوب إسبانيا والبرتغال, لقد كان الفينيقيون دوماً بمثابة سندريلا في المطبوعات الأركيولوجية باللغة الانكليزية (يشير الكاتب هنا إلى النظر للفينيقيين كالصبية الجميلة الفقيرة التي لا يعبأ بها أحد والتي تنتظر أميرها) وبينما نجد هناك بيبلوغرافيا هائلة تهتم بتوسعات الاغريق الكولونيالية فإن هناك القليل جدا مما كتب بالإنكليزية عن المستعمرات الفينيقية الموازية والمعاصرة للمستعمرات الإغريقية وخاصة حول إنجازاتهم في أقصى الغرب من البحر الأبيض المتوسط .

ليس من الصعب التفكير بالأسباب المحتملة لذلك النقص غير العادي بالاهتمام بالأركولوجيا المختصة بحضارة الفينيقيين وتوسعاتهم الاستيطانية خاصة في شبه الجزيرة الإيبرية .

فإلقاء الضوء على الحجم الكبير للوجود الفينيقي هناك يظهر العلاقة التاريخية لشبه الجزيرة الإيبرية بالكنعانيين الساميين, والجذور الحضارية للشعب الإيبري, وسوف يلقي حجرا على السردية التي كانت تكتفي بتصوير السكان الأصليين في ايبريا باعتبارهم من الرومان . أو أنهم انقلبوا إلى رومان لافتقادهم الهوية الحضارية.                                                                والسبب المحتمل الآخر هو أن إلقاء الضوء على التوسع الكولونيالي الفينيقي يحمل معه إلقاء الضوء على الدور الحضاري الذي لعبه في الفترة اليونانية ذاتها , وهكذا سوف يظهر منافس للفردانية اليونانية التي تعتبر حجر أساس في سردية المركزية العالمية للحضارة الأوربية .

والمشكلة أن علم الأركيولوجيا الحديث لا يترك هامشاً واسعاً لإخفاء الحقائق أو تزييفها ضمن الأهواء الايديولوجية أو القومية أو العنصرية, فالحل الأمثل لمن لا تعجبه النتائج التي تصل اليها الأركيولوجيا في مجال معين هو إهمال ذلك المجال والابتعاد عنه, على أمل أن لا يفطن إليه آخرون ولو لفترة زمنية على الأقل .

وفي كتابها الهام: “الفينيقيون والغرب- السياسات- المستعمرات- التجارة” ناقشت السيدة ماريا ايغينيا أوبت من جامعة برشلونة الصعوبات الرئيسية التي تعترض الدراسات حول تاريخ الفينيقيين وتأثيرهم في الغرب ومن تلك الصعوبات: “النزعة الذاتية التي لا يمكن تفاديها حتى لا نقول النزعة الإيديولوجية لأولئك الذين يقومون بدراسة وتفسير المعطيات والمعلومات التي نحصل عليها, فالدور الذي لعبه الفينيقيون في الغرب نادراً ما تم تقديره بصورة موضوعية” ويظهر التناقض في تلك الدراسات مثلاً في اعتبارهم أن الفينيقيين لم يلعبوا سوى دور محدود للغاية في ديناميكية الثقافة الداخلية للمجتمعات الإسبانية الأصلية من جهة, وفي تثمينهم الفائق والمبالغ فيه لدور الفينيقيين باعتبارهم العامل الوحيد في نقل المعرفة والتقنيات التي بفضلها نهضت مملكة ترشيش في الغرب والجنوب من شبه القارة الإيبرية مما يعني أن الفينيقيين واجهوا شعباً غارقاً في التخلف”.

وبالطبع فقد كان من الصعب على المؤرخين الإقرار بأن الفينيقيين فعلاً قد واجهوا مجتمعات متفرقة شبه رعوية في ايبريا وأن الفارق الحضاري بينهم وبين تلك المجتمعات كان كبيراً, وبالتالي فقد تشربت معظم تلك المجتمعات المتفرقة ثقافتهم ولغتهم إلى حد كبير عدا بعض الاستثناءات خاصة في شمال شبه الجزيرة حيث شعب الباسك القديم شبه المعزول في مناطق المرتفعات وذلك لغاية وصول الرومان حوالي 209 ق.م, وبالمناسبة فإن ذلك الاقرار الذي تحدثت عنه السيدة ماريا بخصوص دور الفينيقيين في نهوض مملكة ترشيش التي اشتهرت باستخراج سبائك الفضة وتصديرها يأتي بصورة مخالفة بطريقة استثنائية للنظرة الغربية السائدة, خاصة في الدراسات الغربية حتى منتصف القرن العشرين, أما بعد ذلك وفي ظل تغير المناخ الدولي فقد أصبحت الأجيال الجديدة من الباحثين الغربيين أقل تحيزاً وأكثر استعداد لقبول الحقائق التاريخية خاصة تلك التي يدعمها علم الآثار بطريقة لا تقبل الجدل .

أصول الفينيقيين:

والذي يعني الحمر؛ بسبب Phoeniki والفينيقيون هم الكنعانيون الذين أطلق عليهم الإغريق ذلك الاسم أن الصبغ الأحمر القرمزي يبقى على أيدي رجالهم الذين يعملون ويُتجارون به, بينما اسمهم بلغتهم وحسب اللغة العبرية هو الكنعانيون . ومعظم المؤرخين الغربيين يرون أن موطنهم الشريط الساحلي لبلاد الشام من  رأس شمرا وجزيرة أرواد قرب اللاذقية إلى شمال فلسطين, وأن مدنهم الرئيسية صور وصيدا (صيدون) وجبيل وبيروت وأرواد وبعلبك, وقد عرفوا بارتيادهم البحار وطموحهم للسفر والاستكشاف والتجارة .

والتقدير المنصف لحضارة الكنعانيين “الفينيقيين” لا بد أن يضعها في مكان مختلف عن ذلك الذي وضعت فيه حتى الآن . فالفينيقيون ليسوا تجاراُ ومغامرين بحريين فقط لكنهم أصحاب حضارة عريقة تفوقت بكل شيء تقريبا وسبقت الحضارة اليونانية فمن السذاجة التفكير أن اليونان لم يأخذ من الفينيقيين سوى كتابتهم الأبجدية التي تضم 22 حرفا والتي كانت اختراعاً يعادل أهم اختراعات العصر الحديث . ويحدد المؤرخ اليوناني المشهور هيرودوت فينيقيا باعتبارها موطن ولادة الأبجدية ويقرر أن قدموس الفينيقي قد أدخلها معه حين جاء إلى اليونان قبل العام 800 قبل الميلاد, كما يؤكد أن اليونانيين لم يمتلكوا أية أبجدية قبل ذلك التاريخ, كما أن جبيل الفينيقية التي يسميها اليونانيون بيبلوس كانت المصدر الرئيسي لورق البردي المستخدم في الكتابة, ولذلك ارتبط اسمها بالكتب ومنه تسمية الكتاب: والذي ذهب بعد ذلك إلى الكتاب المقدس . كما أن هناك اعتقادا بأن العديد من آلهة الاغريق Bible جاء من فينيقيا حيث نجد شبها لا جدال فيه  بين بعض القصص المرتبطة بآلهة فينيقية مثل بعل ويم (آلهة البحر) وبين آلهة اليونان زيوس وبوسيدون .

  وبينما يعود بداية استقرار الفينيقيين وتأسيس المدن في بلاد الشام وساحلها الى الألف الثالث قبل الميلاد (حوالي 2750 قبل الميلاد تأسست صور ومعبد ملقارت حسب فيكتور بيرارد), ويبدأ العصر الذهبي للحضارة الفينيقية مع نهاية الألف الثاني قبل الميلاد, فإن العصر الذهبي لليونان يتأخر عنه نحو 350 عام على أقل تقدير.

ويمكن للمرء أن يفهم مدى الصعوبة في تقبل الأوربيين لفكرة أن الفينيقيين هم اساتذة اليونان ومن نقل لهم الحضارة وأوقد شعلتها, في حين أن الفينيقيين هم الكنعانيون الذين ينحدرون من ذات الأصول العربية . لكن الحقائق التاريخية لا يمكن إخفاؤها. يقول المؤرخ الإغريقي هيرودوت: “كان الفينيقيون الذين رافقوا قدموس إلى بلاد اليونان وأقاموا فيها قد أدخلوا معهم الكثير من المعارف, من بينها تلك الأحرف التي كانت برأيي مجهولة سابقاً في هذه البلاد”(2)، فحسب هيرودوت فإن الاسطورة الكنعانية التي تحكي عن اختطاف جوبيتر لأوربة الكنعانية الجميلة ابنة آجينور ملك صور, وسفر أخيها قدموس وأمها تيليفاسا وأخويها تاسوس وكليكس للبحث عنها وإعادتها, ثم استقرار قدموس في بلاد اليونان ليست محض اسطورة, لكنها تحكي بالرمز قصة هجرة حقيقية لفرع من الكنعانيين الفينيقيين إلى بلاد اليونان واستقرارهم هناك ونقلهم كثيراً من المعارف ومنها الأبجدية الفينيقية .

وفي سبيل الانفكاك من اعتراف مرير كهذا لم يكتفِ الباحثون الأوربيون بإعطاء الأركيولوجيا الفينيقية أهمية ثانوية لكنهم حاولوا جاهدين فك الارتباط بين الفينيقيين والعرب, وتقديم الفينيقيين باعتبارهم جنسا آخر, ويبدو أن تلك المحاولة التي سادت في الفترة السابقة قد انهارت اليوم كما يتضح من كتاب جان مازيل المختص بتاريخ الفينيقيين والذي أمضى ست سنوات يجوب خلالها البلدان المتعددة بحثاً عن آثارهم قبل كتابة مؤلفه “تاريخ الحضارة الفينيقية (الكنعانية)” والذي يذكر فيه أن أصولهم من جنوب شبه الجزيرة العربية, لكن المؤرخ (ج. كونتنو) في كتابه “الحضارة الفينيقية” وضع تصوراً أكثر وضوحاً وتماسكاً لأصول الفينيقيين- الكنعانيين حيث يقول في معرض الحديث عن تاريخ بناء مدينة صور الآتي: “ويبدو في ضوء الاكتشافات الحديثة أن التاريخ الذي حدده هيرودوت (يقصد لبناء صور) وكان تاريخاً تقريبياً هو التاريخ المطابق للحقيقة, ويوضحه ما نعلم من أنه في أول القرن السادس والعشرين قبل الميلاد حدثت هجرة سامية قوية بادئة من شمال سورية, وهي المنطقة التي أطلق عليها البابليون القدماء اسم بلاد أمورو, بمعنى أرض المغرب, وهؤلاء الساميون هم الذين أسسوا أسرة أجادة أو “أكاد” على يد الملكين سرجون ونرام سين, وكانوا من الشعوب الفاتحة الكبيرة… فالراجح على كل حال هو أن حركة الساميين البادئة من أبواب فينيقية اندفعت في قوة تتيح لها التكاثر في وادي الرافدين, وفي آسيا الصغرى بل تتيح لها أيضاً مد أحد فروعها على طول الشاطئ السوري, وعلى هذا الأساس ينطبق التاريخ الذي حدده هيرودوت لتأسيس صور في القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد انطباقاً كافياً على تاريخ استقرار الساميين استقراراً دائماً تاماً في البلاد” كما يقول في مكان آخر: “ونحن نسلم اليوم أن الفينيقي يدخل في مجموعة الكنعانيين ونصنف اللغة الكنعانية ضمن اللغات السامية”(3) واسم كنعان كان يطلق في الألف الثاني قبل الميلاد على الداخل السوري وعلى الشريط الساحلي في الوقت ذاته .

وتلك النظرية في أصول الفينيقيين الكنعانيين تمتلك درجة معقولة من المصداقية, وتتطابق مع نظرية ترى أن شمال سورية هو موطن أصيل للساميين, وأن هجرات الساميين قد حصلت منه نحو بلاد الرافدين كما نحو الغرب والجنوب من بلاد الشام .

ويتضح اتساع وعمق التأثير الفينيقي في العالم حين نجد بصماتهم على امتداد شمال أفريقيا وفي أهم جزر البحر الأبيض المتوسط من قبرص الى كريت وسردينيا ومالطة حتى مستعمرتهم المشهورة في ايبزا وصولاً الى مضيق جبل طارق وفي شبه الجزيرة الايبرية التي كانت لهم مثل أمريكا الجديدة للأوربيين خاصة بعد هجرتهم الأولى من صور التي دمرها الآشوريون في المئة السادسة قبل الميلاد, والهجرة الثانية بعد تدمير قرطاجة على يد الرومان عام 147 قبل الميلاد . وقد استطاع القرطاجيون الفينيقيون في ايبريا عقد معاهدة مع روما بعد الحرب البونية الأولى عام 228 قبل الميلاد, وبموجب تلك المعاهدة فقد بسطت قرطاجة نفوذها على مساحة واسعة من ايبريا تصل حتى نهر الايبرو كانت تدار من قبل قرطاجة وتقدم لها المحاصيل الزراعية والمؤن وتدفع لها الضرائب.                                  وهناك مؤشرات غير مؤكدة لتجارتهم مع الجزر البريطانية, أما رحلاتهم الى وسط وغرب أفريقيا بحثاً عن العاج والذهب والسلع الأخرى فقد كتب عنها المؤرخون اليونانيون:
“فنص هذه القصة الذي وصل إلينا هو عبارة عن ترجمة يونانية لقصة” حنون “الفينيقي (الذي وصف الرحلة الى غرب ووسط افريقية) ووضعها في معبد الإله بعل- حمون في قرطاجة وترجع الترجمة إلى نهاية القرن الرابع أو بداية القرن الثالث قبل الميلاد… ومما لاشك فيه أن الرحلة حقيقية, وأن هدفها كشف أسواق جديدة وأنها تقررت ونُفذت بناءً على قرار من مجلس الشيوخ القرطاجي”(4) .

ورغم أن المدن الفينيقية شرق المتوسط (بلاد الشام) لم تتوحد في إطار سياسي, وبالتالي لا يمكن الحديث عن دولة فينيقية, إلا أن سيطرة البحرية الفينيقية على البحر الأبيض المتوسط والتي تعززت بعد العام 700 قبل الميلاد, والثراء الكبير للفينيقيين بفضل تجارتهم العالمية الواسعة قد دفعهم إلى إنشاء عدد كبير من المستعمرات ومنها قرطاجة التي تحولت الى امبراطورية بعد أن امتلكت جيشاً قوياً تقوده نخبة قرطاجية وتموله قرطاجة الغنية ويضم من الجنود اضافة للقرطاجيين الليبيين والايبريين وغيرهم عدداً كبيراً من المرتزقة والعبيد. وفرضت سيطرتها التامة على شمال أفريقيا وشبه الجزيرة الايبرية وأجزاء من أفريقيا ثم وصل طموحها للسيطرة على روما في ذلك الصراع الدامي الذي أسفر في النهاية عن تدمير قرطاجة تدميراً تاماً وإنهائها عسكرياً وسياسياً . غير أن النفوذ الحضاري للفينيقيين ولقرطاجة لم ينته كما انتهى النفوذ العسكري والسياسي, بل بقي لفترة طويلة جداً في شمال افريقيا, أما في ايبريا التي هاجر إليها القرطاجيون بعد خراب مدينتهم فقد أضافت هجرتهم للنفوذ الفينيقي القديم قوة دفع جديدة بحيث أسفر عن سيادة الحضارة الفينيقية في ايبريا وتشكيل الهوية الايبرية كما سوف يناقش لاحقاً .

تكون العالم الفينيقي- الكنعاني شرق المتوسط من مجموعة من المدن, وكل مدينة كانت تحكم نفسها بنفسها, فهو عالم شبيه بالعالم اليوناني غير أنه أقدم منه, وفي المدينة- الدولة تطور نظام الحكم فيها نحو الملكية, لكن سلطة الملك لم تكن مطلقة, بل وجد هناك مجلس الشيوخ المكون من كبار التجار في المدينة, وكان بإمكان مجلس الشيوخ في صور اتخاذ القرارات حال غياب الملك, أما في صيدا فكانت صلاحية مجلس الشيوخ أبعد من ذلك إذ كان بإمكانهم اتخاذ قرارات مخالفة لقرار الملك, كما أن عددهم في صيدا كان مئة عضو .

ومثل ذلك النظام كان مطبقا أيضاً في قرطاجة, وشيئاً فشيئاً بدأت تبرز قوة مجلس الشيوخ على حساب قوة الملك, وفي النهاية أصبح مجلس الشيوخ هو الحاكم الفعلي, واستطاع رؤساء الأسر الثرية الاستيلاء على الحكم وتحولت المدن الفينيقية إلى حكم الأقلية الأرستقراطية (الأوليغاركية) كما حدث في اليونان(5).

الإسهامات الفينيقية الحضارية:                                                                                               

وفيما عدا الأبجدية الصوتية الهامة للغاية تُعزى للفينيقيين إسهامات عديدة في تطور الحضارة الانسانية :

* الملاحة: فهم البحارة الأوائل الذين جابوا البحار والمحيطات حتى توغلوا في المحيط الأطلسي . ويمكن للمرء أن يستنتج بسهولة أن تفوقهم البحري ما كان له أن يظهر لولا معارفهم الفلكية .

* الفلك: يبدو أن علم الفلك كان مألوفا لديهم ومن شواهد ذلك أن نجمة القطب بقيت زمنا طويلا تسمى ” النجمة الفينيقية ” .

* فن هندسة وتشييد المعابد والمدن: تذكر الروايات والتوراة أن سليمان استعان بالمعلمين والصناع من صور الكنعانية لبناء الهيكل . وتشهد المعابد الفينيقية كما في بعلبك بمدى تطور فن التشييد والبناء, ومن المحتمل أن المعابد اليونانية بنيت على الطريقة الفينيقية مثلما أن الالهة اليونانية نقلت من فينيقيا .

* صياغة الحلي والمواد الثمينة من الذهب والفضة والأحجار الكريمة: ومن المسلم به أن الصناعة الفينيقية للحلى والمواد الثمينة الفينيقية كانت ذات سمعة عالية لدى جميع شعوب البحر المتوسط وافريقيا والمناطق التي وصلت اليها التجارة الفينيقية .

*النسيج والمطرزات الفينيقية المشهورة وكانت رداء الطبقات الغنية والأمراء في اليونان وروما وغيرها .

* صناعة البرونز والحديد والمعادن ويشمل  ذلك  استخراج فلزات المعادن وفصلها عن الشوائب وصهرها وتحويلها الى  أدوات للزراعة والحرف والسيوف والدروع ..الخ . ويبدو أن الفينيقيين كانوا الأكثر تقدما في ذلك الحقل في زمنهم .

* الصباغ الأرجواني .

* ينسب “بلينوس الأكبر” للفينيقيين اختراع الزجاج .

* استخراج المياه العذبة من البحر .

* صناعة السفن والصناعات الخشبية .

وبصورة ملخصة فإن من الواضح أن الحضارة الفينيقية لعبت دوراً هاماً للغاية في تبادل المعارف وربط الحضارات في حوض البحر الأبيض المتوسط من مصرية وآشورية وكنعانية ويونانية وغيرها, وأنها امتلكت هويتها الحضارية الكنعانية الخاصة التي نقلتها أيضاً, وأن تلك الحضارة الكنعانية كانت بمرتبة متقدمة جداً نسبة للحضارات المعاصرة الأخرى, وذلك ما يفسر عمق تأثيرها في محيطها الذي وصلت اليه, وقدرتها على نشر ثقافتها ولغتها وأبجديتها ودمج كثير من الشعوب الأقل تطوراً في بوتقتها الحضارية كما حصل في شبه الجزيرة الإيبرية, وإن تصغير حجم الحضارة الكنعانية الفينيقية, ورسم صورة للفينيقيين باعتبارهم مجرد بحارة ماهرين وتجار محترفين هو إنكار للحقائق التاريخية, ومحاولة لطمس دور تلك الحضارة خاصة أثرها في انطلاقة الحضارة اليونانية.

ولعل مثالاً واحداً من القليل الذي وصل إلينا يلقي الضوء على شمول وعمق الحضارة الكنعانية ويتمثل في كتابة المؤلفات ذات الطابع العلمي التخصصي فقد كتب القرطاجي “ماجون” أول موسوعة معرفية في علوم الزراعة وتربية الحيوان في اثني عشر مجلداً باللغة الفينيقية مازال المزارعون حتى اليوم يقتدون بها ومازال يعتبر أباً لعلوم الزراعة.

فاذا حدث وأن جاء إلي شخص بهدية من مزهرية من الخزف غاية في الروعة والجمال من الصين فهل يعقل أن أفكر أن معلماً ماهراً واحداً يقوم بعمل مثل تلك التحف في الصين؟ بل لا بد من التفكير أن تلك الحرفة منتشرة في الصين حتى وصلت الى ذلك الكمال, وبالمثل لا يمكن التفكير أن “ماجون” هو وحده العالم الموسوعي القرطاجي بل لا بد أن “ماجون” كان واحداً من أعلام الثقافة والحضارة في قرطاجة حتى لو لم تصلنا بقية الانجازات المعرفية حتى الآن .

هوامش الحلقة الثانية:

(1) العصر الحجري الحديث: (Neolithic Period) تميز باستخدام الانسان الأدوات الحجرية والفخار وتربية الحيوانات والزراعة والتجمعات المحدودة بين 9000-4500 قبل الميلاد .

(2) كتاب تاريخ الحضارة الفينيقية- الكنعانية , تأليف جان بازيل, ترجمة ربا الخش- ص 78

( 3) الحضارة الفينيقية ج. كونتنو ترجمة الدكتور محمد عبد الهادي شعيرة

(4) المدن الفينيقية للدكتور محمد أبو المحاسن عصفور الأستاذ بجامعة بيروت العربية – ص 109

( 5) تاريخ الحضارة الفينيقية – جان بازيل – ص 111-112

———————————
يتبع.. الفصل الأول ( الجزء الثاني )

«معقل زهور عدي»: كاتب وباحث عربي سوري

التعليقات مغلقة.