جلبير الأشقر *
تكتسي الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو إلى «نيوم» في المملكة السعودية مساء يوم الأحد الماضي خطورةً أكبر مما قد يبدو لوهلة أولى. وقد بثّ مصدر إسرائيلي مقرّب من نتنياهو خبر تلك الزيارة يوم الإثنين، كاشفاً عن ملابساتها وهي تتضمن قيام نتنياهو بالزيارة برفقة رئيس الموساد (وكالة الاستخبارات الإسرائيلية) يوسي كوهين على متن طائرة «خاصة» استقلّها نتنياهو في زيارات سابقة متكرّرة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين. أما هدف الرحلة فكان لقاءً جمع الزعيم الصهيوني مع محمد بن سلمان، متولّي العهد السعودي، ومايك بومبيو، وزير خارجية دونالد ترامب المتحمّس للصهيونية بما يفوق حماس نتنياهو نفسه.
أما «نيوم» فهو اسم مشروع المدينة التكنولوجية والسياحية الذي شرع في تنفيذه بن سلمان في زاوية خليج العقبة والبحر الأحمر، على مشارف خليج السويس، بكلفة هائلة مقدّرة بخمسمئة مليار دولار، أي ما يعادل ثلثي الناتج المحلّي الإجمالي السعودي لعام واحد ويزيد عن الناتج الأردني لعشرة أعوام (ولمزيد من المقارنة تجدر الإشارة إلى أن كلفة المشروع تناهز تسعة أضعاف كلفة «العاصمة الإدارية الجديدة» التي شرع عبد الفتّاح السيسي في بنائها شرقي القاهرة).
فقد يبدو لوهلة أولى أن اللقاء يندرج بصورة عادية في تسريع عملية «التطبيع» بين الدولة الصهيونية والدول العربية، التي جعلتها إدارة ترامب في الأشهر الأخيرة أولويتها المطلقة في السياسة الخارجية، وقد حققت إنجازات معروفة في إقامة علاقات رسمية بين إسرائيل من جهة، والإمارات المتحدة والبحرين من الجهة الأخرى، انضاف إليهما الحكم العسكري السوداني (زار الخرطوم يوم الإثنين الماضي وفدٌ حكومي إسرائيلي رفيع المستوى).
لكنّ نجاح بومبيو في ترتيب زيارة نتنياهو وكوهين إلى «نيوم» داخل الأراضي السعودية ولقاء بن سلمان فيها، إنما يختلف نوعياً عن مسرحية «اتفاقيات أبراهام» (تليق بها التسمية العبرية أكثر من تسمية «إبراهيم» العربية) التي كرّست العلاقات المتينة القائمة أصلاً بين الدولة الصهيونية وأبو ظبي، في حين عجز بن سلمان عن إقناع والده بانضمام المملكة رسمياً إلى الاتفاقيات، فقدّم البحرين وحق الملاحة الجوية فوق أراضي المملكة السعودية إلى إسرائيل وإدارة ترامب تعويضاً عن عجزه (انضاف لاحقاً إسهال بندر بن سلطان الكلامي المعادي للشعب الفلسطيني). فقد جرت المسرحية في الصيف الماضي في وقت كان لا تزال جماعة ترامب تراهن على بقائه في الرئاسة لولاية ثانية.
والأهم أن محمد بن زايد، مهندس «اتفاقيات أبراهام» بالتعاون مع بومبيو ومع جاريد كوشنير، صهر ترامب، كان لديه باعث قوي على مساعدة ترامب في حملته الرئاسية من خلال منحه «إنجاز» في السياسة الخارجية يعوّض عن أفشاله. ذلك أن بن زايد متورّط بصورة كاملة مع جماعة ترامب بعدما تم الكشف عن ضلوعه في مساعدة حملة ترامب في عام 2016، من خلال سفيره في واشنطن يوسف العتيبة بوجه خاص. وهذا يعني، من جهة، أن بن زايد كانت له مصلحة قصوى في فوز ترامب، ومن جهة أخرى أنه كان يعلم تمام العلم أن علاقاته بواشنطن سوف تنحطّ لا مُحال لو عادت إدارة ديمقراطية إلى البيت الأبيض. لذا راهن بالكامل على جماعة ترامب، ويتطلّع الآن، بعد أن فاز بايدن، إلى الاتكال على ترامب والجمهوريين في وجه الإدارة الجديدة على غرار اتكال نتنياهو على الجمهوريين في صراعه مع إدارة أوباما.
غير أن المملكة السعودية أكثر ارتهاناً بكثير بحماية الولايات المتحدة مما هي الإمارات المتحدة: فحكمها أكثر هشاشة بكثير، يواجه شعباً محلّياً يزيد تعداده عن العشرين مليونا بما يشكّل ثلثي سكان المملكة، بينما لا يزيد عدد حاملي الجنسية الإماراتية عن المليون (وهم أصحاب امتيازات عديدة) أي ما يناهز عِشر سكان الإمارات فقط. هذا يعني أن الحكم السعودي أكثر هشاشة بكثير من الحكم الإماراتي، وقد يبدو أن في الأمر مفارقة لكنه سهل الإدراك، إذ إن تسعة أعشار سكان الإمارات لا حقوق لهم على الإطلاق تستطيع السلطات ترحيلهم متى شاءت، وهم ينتمون إلى جنسيات وثقافات عديدة لا يجمع بينهم سوى سعيهم وراء الارتزاق، بينما ليس مستبعداً على الإطلاق أن ينتفض يوماً شعب الجزيرة العربية ضد الحكم السعودي، فضلاً عن أن قسماً منه، تصل نسبته إلى15 في المئة حسب التقديرات، يتكوّن من أقلية شيعية مضطهَدة بصورة خاصة في إطار مملكة تقوم على أيديولوجية شديدة التعصّب الطائفي ضد الشيعة.
وينجلي الفارق العظيم بين المملكة والإمارات في أن الأولى أشدّ عداءً بكثير للحكم الإيراني مما هي الثانية، التي تربطها بالجارة الشيعية علاقات تجارية وطيدة. والحال أن إيران هي المستورد الأكبر من الإمارات (معظم ما تستورده هو من باب إعادة التصدير بالطبع) ويُقدّر عدد الإيرانيين القاطنين في الإمارات بنصف مليون، يشكّلون قسماً هاماً من قطاع الأعمال الإماراتي. ولهذا السبب بالذات، تستطيع أبو ظبي أن تنساق وراء المزاج اليميني المتطرّف لمتولّي العهد وحاشيته (أمثال عبيدة ومحمّد دحلان) فتتواطأ بصورة مكشوفة مع دونالد ترامب ومن لفّ لفّه، وتقيم علاقات رسمية بالدولة الصهيونية، بينما من شأن مثل هذه التصرّفات أن تمثّل مجازفة خطيرة جداً لو قلّدتها المملكة.
هذا ما يدعونا إذاً إلى أن نرى في ما قام به بن سلمان، بضغط من جماعة ترامب ومن عرّابه السياسي بن زايد، مجازفة خطيرة وخطرة، وقد رأت فيها مجلة «ذي إيكونوميست» البريطانية في عددها الأخير تحدّياً لإدارة بايدن، قائلة: «يبدو أن إسرائيل والسعوديين يحذّرون الرئيس المنتخب من أنهم ينوون جمع قدراتهم الدبلوماسية والسياسية الكبيرة في واشنطن لمعارضة أي تغييرات هامة في سياسة أمريكا في الشرق الأوسط» والمقصود هو السياسة إزاء إيران بالدرجة الأولى. فإن مجازفة بن سلمان تكمن تحديداً في أن ما قام به يستطيع أن يترك مثل الانطباع الذي عبّرت عنه المجلة البريطانية، في حين أن نظام مملكته أكثر ضعفاً بكثير من المجازفة بلعب مثل هذه اللعبة.
أما واقع الأمر فيعتمد على مدى صحة أو خطأ تقدير «ذي إيكونوميست» في سؤال حيوي، وهو: هل تصرّف متولّي العهد بضوء أخضر من والده، كما ظنّت المجلة، أو بمبادرة منفردة كما قد يوحي به تكذيب وزير الخارجية السعودي لنبأ الزيارة؟ وحيث بات بن سلمان في وضع مماثل لوضع بن زايد من حيث العداء السافر بينه وإدارة بايدن القادمة، لاسيما بعد التصريحات التي أدلى بها الرئيس الأمريكي المنتخب في إدانة انتهاكات حقوق الإنسان في المملكة وتعيينه بن سلمان مسؤولاً عنها بامتياز، لا يشاطره هذه الحالة حكم المملكة برمّته، وهو ليس في وضع يخوّله القدرة على المجازفة بمواجهة حكمي إيران والولايات المتحدة معاً. وسوف تكون الأسابيع والأشهر القادمة حاسمة بالتأكيد بما يخصّ مصير بن سلمان ومصير المملكة.
* كاتب وأكاديمي من لبنان
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.