مهند الحاج علي *
من محاسن الصدف أننا علمنا خلال 24 ساعة بوفاة وزير الخارجية السوري وليد المعلم عن عمر يناهز 79 عاماً، وبأن رئيساً لوزراء بلاده، أي سورياً، كان جاسوساً لبريطانيا وللحركة الصهيونية في آن.
كان وليد المعلم، وهو ثالث وزير للخارجية في عهد الرئيسين حافظ الأسد وابنه بشار، وفيّاً لمرؤوسيه. حتى إن الرجل تمنّع عن تخليص أحد أقاربه من أقبية أجهزة الأمن، وتركه لمصيره الحتمي، أي الموت تحت التعذيب، كما حصل مع عشرات آلاف السوريين. فضّل المعلم ترك قريبه يموت تعذيباً، على أن يُزعج مرؤوسيه بإتصال قد يدفعهم للشك في ولائه المطلق لآل الأسد. كان الولاء للعائلة المالكة يأتي أولاً عند المعلم. هذا هو الإرث الأخلاقي لوزير خارجية الأسد.
وكأي ديبلوماسي ناجح في الديكتاتوريات الشعبوية العربية، امتهن المعلم ببراعة التصريحات الاستعراضية، مثل تهديد إسرائيل “بالرد في الزمان والمكان المناسبين” أو التلويح بضرب الجيش الأميركي، أو مسح أوروبا عن الخارطة. كان بارعاً في هذا المجال، ويستحق نجمة أسدية على هذا الأداء.
لكن هذه ليست القصة بأكملها. الحقيقة أن الرجل نجح في نقل علاقات الخضوع والخنوع للمرؤوس في الداخل، إلى الخارج. الحق يُقال إن المعلم كان مُخلصاً للإيراني والروسي، بقدر إخلاصه لعائلة الأسد، وكان يمزج بين الثلاثة ببراعة، كبهلوان طابات ناجح في سيرك متنقل. هذا ما يُمكننا قراءته في النعي الإيراني والروسي للمعلم.
ميخائيل بوغدانوف، المبعوث الخاص للرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وافريقيا، ونائب وزير الخارجية الروسية، عبر بوضوح في عزائه بالمعلم عن هذه العلاقة، إذ قال إن “من المحزن أن يرحل هؤلاء”، و”لقد فقدنا شريكاً موثوقاً به للغاية وصديقاً مخلصاً”.
وفي أنباء غير بعيدة عن هذا “الإخلاص” للمعلم لآل الأسد في الداخل، ورعاتهما في الخارج، ادعى تقرير في صحيفة “هآرتس”، واستناداً الى وثائق فرنسية واسرائيلية، أن رئيس الوزراء السوري السابق (إبان عهد الانتداب الفرنسي) جميل مردم بك (توفي عام 1960) كان عميلاً مزدوجاً للاستخبارات الفرنسية وأيضاً للحركة الصهيونية. وفقاً لهذه الرواية، جنّدت الاستخبارات الخارجية البريطانية المعروفة أيضاً باسم “أم آي 6” مردم بك في اطار خطة لطرد الفرنسيين من المنطقة. لكن هذا التجنيد فتح باباً لابتزاز هذا السياسي السوري، من جانب الفرنسيين الذين أعاروه لأحد عملاء الحركة الصهيونية حينها.
بحسب “هآرتس”، كان مردم بك “مصدراً مهماً للمعلومات” الحاسمة لديفيد بن غوريون، قبيل نشوء دولة إسرائيل عام 1948. والكلام عن معلومات حاسمة قدمها رئيس وزراء دولة عربية مجاورة لفلسطين حينها، يُثير تساؤلات عديدة حيال إخفاقات تلك الحقبة وما تلاها من أحداث.
صحيح أن مردم بك ومعلوماته “الحاسمة” قد تكون ساهمت في اخفاقات النكبة العربية عام 1948، لكن عائلة الأسد كانت أكثر وضوحاً في خدماتها، من حرب الأب على الفصائل الفلسطينية وتشتيتها في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، الى حرب الابن على معارضيه السوريين عام 2011. بيد أن الحرب السورية مثّلت نقطة مضيئة في تاريخ دولة إسرائيل، أولاً لجهة أنها أعادت انتاج صورة الاحتلال بصفته “أكثر رحمة” و”أقل ضرراً” من النظام الأسدي، وثانياً كونها طغت على القضية الفلسطينية في صورها ومآسيها، وأضعفت بالتالي التضامن العربي معها.
طبعاً هناك فارق بين من وفّر معلومات قيمة وحساسة (في حال صحّ ذلك طبعاً)، من جهة، وبين من أطاح بشعب وبلد بأسره للبقاء في السلطة، وبمساعدة خارجية، من جهة ثانية. أحد الفوارق أن الأسد لا يحتاج للتجنيد، بل بات رأس الدولة اليوم لا يُمانع السير وراء فلاديمير بوتين في قاعدة عسكرية روسية في سوريا، أو تلبية دعوة للقاء في السفارة الروسية في دمشق. الفارق أننا في زمن أوضح، وإلى حد كبير، شديد الوقاحة.
* كاتب وصحفي لبناني
المصدر: المدن
التعليقات مغلقة.