حسن نافعة *
ها هو الرئيس الأميركي، ترامب، يضطر للنزول من فوق الشجرة، ويرضخ لاعتبارات الأمن الوطني التي أملت عليه إصدار توجيهاته إلى لجنة الخدمات العامة، كي تبدأ في إجراءات نقل السلطة إلى الرئيس المنتخب، من دون مزيد من التأخير أو المماحكة. وعلى الرغم من أنه ما زال يكابر ويعاند، ويرفض الاعتراف رسميا بهزيمته في الانتخابات الرئاسية، بل ويصر على أنه الرئيس الفائز بولاية ثانية، وعلى مواصلة الإجراءات القضائية التي يدّعي أنها كفيلة بإثبات أحقيته في الفوز، إلا أنه بات من الواضح تماما أن سلوكه هذا غير السوي لن يؤدي إلا إلى الكشف عن مزيد من سمات تركيبته النفسية الشاذّة، ولن يمكّنه مطلقا من الاحتفاظ بموقعه في السلطة. وفي تقديري أنه بدأ يقتنع في قرارة نفسه، على الرغم من هذا العناد البادي على السطح، أنه لم يعد أمامه سوى لملمة أوراقه، استعدادا للرحيل نهائيا من البيت الأبيض في الموعد المضروب سلفا. صحيحٌ أن العالم سيظل يحبس أنفاسه تحسبا لأي عمل طائش قد يقدم عليه هذا البهلوان الشرير خلال الأسابيع المتبقية من ولايته البائسة، لا لشيء إلا لإرضاء رغباته المكبوتة لخلط الأوراق، وإرباك عمل الرئيس المنتخب، غير أنني أعتقد أن لدى المؤسسات الأميركية من القوة والحنكة ما يكفيان لكبح جماح أي نزواتٍ منفلتة، والحيلولة دون تمكين الرئيس المهزوم من القيام بعمليات انتقامية غير محسوبة العواقب، وإلا سوف تتعرّض صورة أميركا في العالم لمزيد من الأضرار التي قد يستحيل إصلاحها في المستقبل.
ومن الواضح أن العالم كله يهيئ نفسه الآن للتعامل مع إدارة جديدة مختلفة، وبدأ ينشغل بالبحث عما قد تحمله السياسة الخارجية الأميركية في المرحلة المقبلة من عناصر التغير والاستمرارية.
إذا احتكمنا إلى السجل التاريخي لتطور السياسة الخارجية الأميركية طوال العقود الماضية، فسوف يسهل علينا أن نصل إلى نتيجةٍ مفادها أن عناصر الاستمرارية فيها تطغى غالبا، إنْ لم يكن دائما، على عناصر التغير، من دون أن تتأثر كثيرا بانتقال السلطة من رئيسٍ إلى آخر، أو من حزبٍ إلى آخر، إلا في أضيق الحدود. غير أن الوضع الراهن يمثل استثناءً على هذه القاعدة العامة، لسبب بسيط، أن ترامب، والذي لم يكن رئيسا تقليديا أو نمطيا بأي معيار، وكان الوحيد من بين كل الرؤساء الأميركيين الذي لم يسبق له أن تولى أي منصب رسمي أو منتخب قبل وصوله إلى مقعد الرئاسة، كان قد تمكّن من إحداث انقلابٍ في السياسات الأميركية، على الصعيدين الداخلي والخارجي، وبالتالي لن يكون هناك مفرّ أمام بايدن سوى العمل على إعادة ترتيب الأوراق المبعثرة في كل مكان وتنسيقها. لذا يتوقع أن تغلب عناصر التغير في سياساته على عناصر الاستمرارية، مقارنةً بما كان عليه الحال في عهد ترامب. وللتعرّف إلى احتمالات التغير والاستمرارية في سياسة بايدن الخارجية، تبدو الحاجة ماسّة إلى استجلاء ثلاثة عوامل رئيسية:
الأول: سمات بايدن الشخصية ونسقه العقيدي. هو شخصية يغلب عليها الطابع التقليدي، ولا تتمتع بأي نوع من مواصفات الكاريزما أو السمات الزعامية، ولم يعرف عنه جنوح في العواطف أو مغالاة في الطموحات الشخصية، ومن ثم شخصيته أقرب ما تكون إلى المعتدلة والرزينة التي يسهل التنبؤ بتصرفاتها. ولأن بايدن درس القانون، وتربّى في أحضان الحزب الديمقراطي، وعمل فترات طويلة داخل مؤسسات، وفي أعلى مستويات صنع القرارين التشريعي والتنفيذي، ومن ثم يجمع بين التأهيل القانوني والخبرة السياسية العميقة، يتوقع أن تتسم قراراته بالتدرّج والهدوء والدراسة المتأنية والبعد عن الانفعال، وأن تشارك في اتخاذها مختلف المؤسسات المعنية. لذا، الأرجح أن يكون هناك توافق وانسجام بين إدارة بايدن ومؤسسات الدولة الأميركية العميقة، بعكس ما كان عليه الحال إبّان إدارة ترامب.
الثاني: تركيبة الفريق المعاون للرئيس المنتخب وتوجهاته. بدا بايدن شديد الحرص على أن يكون فريقه المعاون صورة مصغرة للولايات المتحدة، كما يراها هو، وليس كما كان يراها ترامب، أي صورة أميركا المتعدّدة الأجناس والأعراق، والحريصة على العيش المشترك، بدلا من أميركا الترامبية البيضاء العنصرية والأنانية والاستبعادية، وهو ما ظهر بجلاء من اختياراته وترشيحاته المعلنة. وهذا ما يفسّر اختياره كامالا هاريس نائبة له، واختياره أليخاندرو مايوركاس وزيرا للأمن الداخلي، واختياره ليندا توماس جرينفيلد المندوبة الدائمة لدى الأمم المتحدة، واختياره ريما دودين لتكون نائبة لمدير مكتب الشؤون التشريعية في البيت الأبيض. وذلك على سبيل المثال. وهم جميعا من أصول هندية أو أفريقية أو لاتينية أو عربية فلسطينية. وقد غلبت على هذه الاختيارات، بالإضافة إلى عامل التنوع العرقي، عوامل أخرى مهمة، كالكفاءة والخبرة الفنية العميقة، كل في مجال تخصصه، والاعتدال في المواقف السياسية والفكرية التي تغلب عليها الوسطية والبعد عن التطرّف الأيديولوجي، يمينا أو يسارا. بعبارة أخرى، يتوقع أن تكون الإدارة الأميركية متنوعة الأعراق، تكنوقراطية التكوين، وبراغماتية التفكير. وتلك كلها عوامل ستعكس نفسها بالضرورة على طبيعة ونوعية القرارات التي ستتخذها على صعيدي السياسات الداخلية والخارجية.
الثالث: حجم (ونوعية) التحدّيات الداخلية والخارجية التي ستواجهها الإدارة الأميركية الجديدة. ورثت إدارة بايدن عن إدارة ترامب تركة داخلية مثقلة بالأعباء والهموم والمشكلات. على الصعيد الداخلي، تعاني الولايات المتحدة حاليا من انقسام مجتمعي حاد، ناجم عن سياسات ترامب اليمينية المتطرّفة والعنصرية، ومن وباءٍ فشلت إدارة ترامب في التعامل معه، وتمكّن من حصد أرواح أكثر من ربع مليون نسمة، وإصابة ما يقرب من اثني عشر مليونا آخرين. وعلى الصعيد الخارجي، تعاني الولايات المتحدة حاليا من فقدان المصداقية والهيبة والمكانة الدولية، بسبب انسحابها من اتفاقية باريس للمناخ ومن اتفاقية البرنامج النووي الإيراني ومن منظمة الصحة العالمية. كما تعاني من فقدان الثقة، حتى مع أقرب حلفائها، فعلاقتها مع أوروبا الغربية ومع كوريا الجنوبية تكاد تكون مفقودة، إن لم تكن معدومة، والعلاقة مع الصين متوترة إن لم تكن مأزومة، وعلاقتها بروسيا ليست في أفضل حالاتها، وكذلك الحال مع اليابان والهند. وذلك كله بسبب سياساتها الانعزالية، أو تلك المرتكزة على شعار “أميركا أولا”. لذا يتوقع أن تكون معالجة الآثار السلبية الناجمة عن انقسام المجتمع الأميركي وتمزّقه، وعن تفشّي وباء كوفيد 19، في مقدّمة الأولويات الخاصة بسياسات بايدن الداخلية، وأن يكون العمل على استعادة الولايات المتحدة مكانتها وهيبتها في النظام العالمي أول الأولويات المتعلقة بسياسته الخارجية.
قد يكون من الصعب، في هذا الحيز، رصد كل أوجه التغيرات المحتملة في السياسة الخارجية الأميركية في عهد بايدن، غير أنني أقترح هنا مدخلين لمحاولة فهم التوجهات العامة لمجمل هذه التغيرات:
- كلّي أو عالمي، فحاجة بايدن الماسّة لاستعادة هيبة الولايات المتحدة ومكانتها على الصعيد العالمي سوف تدفعه حتما إلى البدء بترميم العلاقة مع الحلفاء الغربيين، والعمل على إصلاح الشرخ الذي أصاب حلف شمال الأطلسي (الناتو) في عهد ترامب، غير أن مصداقية الولايات المتحدة على هذا الصعيد لن تثبت إلا إذا تخلى بايدن كليا عن شعار “أميركا أولا”، واعتمد، بدلا منه، سياسة تقوم على مبدأ العمل الجماعي متعدّد الأطراف. لذا يتوقع أن يسارع بايدن إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة لعودة الولايات المتحدة إلى اتفاقية باريس للمناخ، وإلى منظمة الصحة العالمية، وربما السعي إلى إصلاح منظومة الأمم المتحدة، وهو ما سيمهد الطريق أمام استعادة الثقة بين الشركاء على جانبي الأطلنطي، خطوة أولى في اتجاه التأسيس لقيادة غربية مشتركة لنظام عالميٍّ ينحو نحو التعدّدية القطبية. وفي تقديري أن الطريق أمام بايدن سيكون ممهدا نسبيا على هذا الصعيد، ولن يواجه بصعوبات غير قابلة للتغلب عليها.
- جزئي أو إقليمي، فهناك اعتبارات كثيرة متشابكة ومعقدة، تدفع الولايات المتحدة إلى العمل بكل الوسائل الممكنة، لضمان عدم امتلاك إيران السلاح النووي. ولتحقيق هذا الهدف لن يكون أمامها سوى الاختيار من بين بدائل ثلاثة: الاستمرار في السياسة التي ينتهجها ترامب، وتستهدف إجبار إيران على إعادة التفاوض حول برنامجها النووي، من خلال ممارسة أقصى قدر من الضغوط الدبلوماسية والاقتصادية المتاحة. الذهاب إلى حد الصدام العسكري وإعلان الحرب على إيران، خصوصا إذا فشل البديل الأول، أو اتضح عجزه عن تحقيق الأهداف المأمولة. محاولة احتواء إيران بالوسائل الدبلوماسية من خلال العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، تمهيدا لإغرائها بإعادة فتح باب التفاوض بشأن القضايا الخلافية، وفي مقدمتها برنامج إيران الصاروخي، وسياسة إيران ونفوذها في المنطقة، غير أن الطريق أمام بايدن لن يكون ممهدا على هذا الصعيد، لأسباب عديدة، أهمها أن إسرائيل، ومعها الدول العربية الخليجية، وفي مقدمتها السعودية، ستقاوم بكل السبل عودة الولايات المتحدة إلى الانخراط في الاتفاق النووي مع إيران، وستدفع في اتجاه العمل على اعتماد الخياريْن الآخرين: العقوبات القصوى أو شن الحرب على إيران.
يعتقد بعضهم أن القضية الفلسطينية، ومعها الصراع العربي الإسرائيلي ككل، لن تحتل موقعا متقدما في أولويات السياسة الخارجية لإدارة بايدن. وقد يكون ذلك صحيحا إذا كان المقصود هنا استعادة العلاقات الأميركية الفلسطينية للوضع الذي كانت عليه قبل وصول ترامب إلى السلطة، غير أن وجهة النظر هذه تغفل عن حقيقة أساسية، أن الصراع العربي الإسرائيلي سوف يتسرّب حتماً إلى صدارة جدول أعمال إدارة بايدن، ولكن من باب الخيارات التي ستعتمدها هذه الإدارة عند تعاملها مع الملف النووي الإيراني. وتلك قضيةٌ تحتاج إلى تفصيل يصعب التعرّض له في هذا المقام، ويحتاج إلى معالجة منفصلة.
* كاتب وأكاديمي مصري، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.