ممدوح المهيني *
ينتمي المفكر الكبير جورج طرابيشي [1939 – 2016] إلى عجينة المفكرين العظماء. لا يمكن أحيانًا التصديق أن شخصًا واحد قادر على إنجاز ما فعله، وستشعر بالدوار إذا عرفت فقط أنه ترجم وحيدًا أكثر من 225 كتابًا تضمنت روايات شهيرة مثل رواية زوربا التي ترجمها في شبابه، ومشاريع فكرية كبيرة مثل سلسلة كتب العالم النفسي الشهير فرويد. وهو صاحب كم كبير من المؤلفات الرائعة في النقد الأدبي مثل الله في روايات نجيب محفوظ، وفي النقد الفكري مثل المرض بالغرب أو كتابه الأخير المعجزة أم سبات العقل في الإسلام. وفي كل هذه الأعمال حافظ على معاييره العالية في التأليف وعلى طريقته العميقة دائمًا والخلاقة. وهو أيضًا صاحب واحد من أكبر المشاريع الفكرية العربية من خلال مجموعة كتبه نقد نقد العقل العربي التي بدأها قبل 25 عامًا أبحر فيها بالتراثات الفكرية العربية والأوربية واليونانية وغيرها وذهب فيها إلى أعماق الأعماق. ولكن ليس فقط هذا ما يميز هذا الحفيد العملاق والمخلص لمفكري عصري النهضة العربية، بل هو أحد أكبر المفكرين العرب المخلصين والمتمسكين بقوة مشروع النهضة والتنوير في الوقت الذي ساوم وتخلى عنه الكثيرون من أجل المال أو الخوف أو المصالح أو الشهرة والنجومية. لقد قام هذا المفكر والإنسان الكبير بتخفيض سقف حياته والانعزال والعيش بطريقة متواضعة من أجل أن يقول بصدق وإخلاص وبدون تمويه ما يراه صحيحًا من أجل الصعود الحضاري العربي والإسلامي.
في المصعد الهابط من شقته بعد أن أجرينا الحوار، قال لي: “هل تعرف شيئًا. أنا معزول ولا أرى أحدًا ولا أعرف ماهي الردود على ما أكتبه”. بدا لي هذا الحديث غريبًا أن يصدر من رجل إذا كان مقدرًا للمجتمعات العربية أن تنهض وتستنير فلا بد أن تمر من خلال رؤية مستنيرة وعميقة وثورية هو أكثر من يساهم الآن بنشرها والدفاع عنها وخسارة الكثير من أجلها. ممدوح المهيني
*** *** ***
ممدوح المهيني: ذكرت في كتابك المرض الغرب أن حرب 67 كان لها مفعول الرضة على خطاب المثقفين العرب مما دفعهم للارتداد إلى أحضان التراث على عكس الصدمة «النابليونية» الإيجابية التي ساهمت في تحريك آليات عصر النهضة. السؤال: هل الحرب على العراق والأحداث الكبيرة التي تلتها لها مفعول الرضة أم الصدمة؟!
جورج طرابيشي: من الصعب الإجابة على هذا السؤال الآن، لأنني حينما كتبت كتاب المرض بالغرب كان قد مضى وقت على هزيمة الـ 67. أما العراق فإنه يعيش اليوم وضعًا مختلفًا ويحتاج لمتابعة دقيقة حتى يتم تشخيصه بطريقة محددة. ولكني أعتقد أن هناك رضة وصدمة في وقت واحد بشكل يمكن أن نعتبره حالة ازدواجية أحد أسبابها يكمن في ازدواجية المجتمع العراقي نفسه الذي يقوم على مجتمعين، مجتمع سني ومجتمع شيعي. هذا الانقسام يجعلنا نعجز عن تحديد ما حدث. هل سيكون صدمة فاعلة باتجاه نهضة فاعلة أم سيكون رضة فاعلة تجاه النكسة والرجوع إلى الوراء. ومع الأسف حتى الآن وحسب تقديري الشخصي معظم الرد أتى طائشًا على الصعيد العراقي، وكذلك على الصعيد العربي. وعلى هذا الصعيد وقع إشكال وهو أن الغزو الأمريكي الذي أطاح بصدام حسين الذي يعد أعنف دكتاتوريي النظام العربي، ولم يكن الوحيد إنما هو الأعنف، جعل منه شهيدًا وأتاح الفرصة من جديد للترحم عليه. وهذا مظهر من مظاهر “رضة” فاعلة تجاه الرجوع بالمشاعر الغريزية الأولى إلى الوراء أكثر من أن يكون عامل نهضة. وأنا أقصد بالترحم على صدام هو أن هناك العديد من العراقيين أصبحوا يترحمون عليه وعلى عهده باعتبارهم – على الأقل – كانوا يعيشون بأمان، وبالتالي أدت “أبلسته” من منظور طائفي وتمجيده كذلك من منظور طائفي. من خلال هذه الزاوية نحن هنا أيضا أمام “رضة” وليست “صدمة”.
م. م.: كنت من المعارضين للحرب الأمريكية على العراق منذ البداية؟!
ج. ط.: نعم كنت معارضًا من منطلق شخصي لهذا الغزو، حيث كنت أقع في صِدام مع كثير من المثقفين العرب المقيمين في أوروبا وأمريكا ممن توقعوا أن العراق سيكون يابان العرب إلا أنني رفضت هذا الموقف. وقلت لن يكون العراق هو يابان العرب، وأكدت أن الأمريكان سيكشفون الغطاء عن المرجل ولا أدري متى سيتفجر هذا المرجل. وبالفعل تفجَّر عن هذا النزاع الطائفي الذي أعتقد أنه سيقود العراق إلى كارثة، لذلك لن أراهن على الطابع النهضوي لم يحدث في العراق. أي لن أراهن على أنها ستكون صدمة نابليونية بل ربما ستكون رضة على الطريقة الحزيرانية يشترك فيها عاملان. أولاً: إن الغزو جاء خارجيًا. ثانيًا: الانفجار الطائفي الذي حدث بالداخل.
م. م.: يبدو أنك متشائم من الوضع العراقي؟!
ج. ط.: نعم أنا متشائم، وانعكاساته العربية هي قيد إعادة النظر. وأنا هنا لا أتكلم عن الجمهور لأنني ليس لي معرفة بهم وإنما أتكلم عن الشريحة المثقفة عربيًا التي أرى أنها منقسمة على نفسها وضائعة ولا تدري ما هي معايير التقييم لما يحدث في العراق، علمًا بأنني فوجئت أن كثيرًا من ردود فعل المثقفين العرب المحسوبين على الماركسية الديمقراطية وعلى العلمانية تحولت إلى ردود فعلهم ردود طائفية، سنَّة وشيعة، وبكل صراحة هذا أكثر ما آلمني.
م. م.: الأجيال العربية الجديدة لا زالت تعاني مما أسميته بعقدة “الجرح النرجسي” من الغرب الذي أصاب الأجيال القديمة ما جعلها تنكفئ على ذاتها وتمتنع عن الانخراط في الحداثة. لماذا يحدث ذلك للأجيال الجديدة بالرغم من أنها لم تتعرض لهزائم مذلة كما حدث في حرب 67؟!
ج. ط.: في اعتقادي يعود إلى عدة أسباب من أهمها فشل التجارب التنموية والتحديث لدى العالم العربي. خذ على ذلك مثالاً: اليابان والصين.. هل اليابان والصين دينيًا وثقافيًا ولغويًا وإثنيًا أقرب إلى الغرب منا؟! لا نحن أقرب بكثير إلى الرومان واليونان وذهبنا إلى اسبانيا ووصلنا إلى مقدونيا، وذهبت تركيا حتى وصلت إلى حدود النمسا. إذن نحن والغرب على صلة مباشرة فلماذا ينجح الآن الصينيون، والكوريون، مثلما نجح من قبل اليابانيون في التغلب على هذه العقدة؟! وفي اعتقادي أنهم واجهوا نفس المشكلات، وطرحت لديهم نفس الأسئلة، ولكن ما حدث في اليابان، وما يحدث اليوم في جنوب شرق آسيا وفي الصين، هو أنهم قرروا أن ردهم على الغرب لا يكون إلا بقدر ما يتقربون إليه وأن يسبقوه في مجاله وفي ميدانه. أما بالنسبة للعرب فإن الأيديولوجية التي انتصرت لدينا بعد سقوط محاولات التنمية وتجارب التحديث كشفت عن أنظمة دكتاتورية والتراجع المجتمعي وتراجع الاقتصاد ومستويات التعليم. كنا في شبابنا نقول إننا نريد أن نحارب الغرب عن طريق التغربن، وهذا ما يفعله الصينيون وفعله اليابانيون، والآن للأسف نحارب الغرب ونريد أن نفعل عكس كل ما فعله الغرب. هناك لدينا من رفض نظرية “كوبرنيكوس” وكذلك من رفض نظرية دوران الشمس وغيرها باسم رؤية معينة وفهم معين للنصوص القرآنية. وهنا تحضرني فكرة بسيطة جدًا وهي أن الشعب المتقدم يفهم دينه بشكل متقدم والشعب المتعقلن يفهم دينه بشكل متعقلن. كان الدين يتحدث بلغة الناس كما هو عليه الناس وليس مهمته سن القوانين العلمية. لهذا فإن ما وقع في الساحة العربية يُعد شيئًا مؤسفًا. حيث نجد أن نظرية الإعجاز في القرآن قامت في الإسلام على أساس أن الإعجاز القرآني هو بيان، والآن بعد أن لم يعد للبيان ذلك الأهمية التي كانت في العصور السابقة يوم أن كانت الأمم منقسمة على أساس لغاتها، والآن مع الدور الهائل للعلم ظهرت نظرية جديدة حيث نسوا نظرية الإعجاز البياني للقرآن ويحاولون أن يثبتوا الإعجاز العلمي للقرآن. من هنا أعتقد أن الجرح النرجسي مازال عضالاً وكل محاولة لقراءة لا عقلانية وغير معقلنة للنص الديني تعمق هذا الجرح النرجسي. وأعتقد كذلك أن من عوامل هذا الجرح أننا ما زلنا نتصور أننا في مركز العالم. نقول: “العرب والغرب” وكأن الفرق بيننا والغرب هو النقطة الصغيرة التي فوق الغين. والذي أريد تأكيده أننا والغرب لسنا على طرفي نقيض، بل نحن جزء صغير من العالم، وإن مجموع الشعب العربي – إذا جاز لنا أن نقول بهذه العبارة لأن هناك أقطارًا عربية ترفض أن تعتبر نفسها عربية أصلاً!! – أن مجموع الشعب العربي لا يشكلون سوى خُمس سكان الصين، ومع ذلك لا ترى الصينيين يقولون الصين والغرب!
إن تصويرنا نحن العرب بأننا في مركز الكون وأننا في عداء مع الغرب الذي يحتل النصف الآخر من الكون هي رؤية هذائية للعالم. نحن لسنا في نصف العالم، وفي كتابي المرض الغرب وجدت نصوصًا لمثقفين عرب يتحسرون على أن الغرب لا ينظر إلينا على أننا عدو لهم يستحق الوزن لأننا لو حضرنا كأعداء فهذا يعني أننا موجودون. العقدة النرجسية الموجودة لدى العرب يمكن أن نرجعها إلى تجربتهم التاريخية حينما خرجوا وغزوا العالم وفتحوا نصف العالم المتحضر مع أنهم لم يصلوا إلى الصين أو اليابان أو أقصى الغرب، ولكن بشكل عام أخذوا معظم العالم المتحضر آنذاك على امتداد شرق الحوض المتوسط وصولاً إلى اسبانيا وإلى ما بعد اسبانيا. هذه التجربة التاريخية الكبيرة بالفعل ما زالت فاعلة فينا ومازال يترنح فينا ذلك الوهم أننا في العالم وفي نقطة المركز من العالم. وكل تصور أننا في نقطة المركز من العالم هو تصور هذائي لأن الكرة الأرضية ليس لها مركز لأنها دائرة!! حتى الغرب لم يعد مركزًا فكيف نريد لأنفسنا أن نكون في نقطة المركز مع هذا الغرب، لأن الغرب لم يعد هو المركز ولم يعد هو الغرب مع الامتدادات الصينية واليابانية، والامتداد الأمريكي الذي نتعامى وننسى أنه انفصل عن الغرب وأقام غربًا جديدًا ومركزًا جديدًا، وحلم المركزية حلم طفولي في رأيي الشخصي ومثل هذا الفكر يولد نرجسيات منغلقة عن الذات ومريضة تقوم على كراهية الآخر بقدر ما نتصوره منافسًا لنا في المركزية. علمًا أن الواقع المادي الحقيقي للعرب مترد جدًا، والدول العربية من أكثر الدول تخلفًا في العالم، بل هناك بعض الدول الإفريقية أكثر تقدمًا من الدول العربية.. للأسف هذا هو الواقع العربي الجارح للنفس والمولد للعصاب، وأعتقد أننا نحن المثقفين العرب نؤوي بين ظهرانينا عددًا غير قليل من العصابيين والذهانيين.
م. م.: من الواضح أن رؤيتك سلبية ومتشائمة لدور المثقفين العرب؟!
ج. ط.: بكل بساطة نحن في حالة ضياع لأن “الأنتلجنسيا” العربية المفروض أن يكون النبراس أو الفانوس الهادي هي في ضياع بشكل عام، ولن أقول عنها إنها انتهازية لكنها إغراءات لأنظمة وإغراءات الدولارات، وإغراءات مجتمعية، بمعنى أنهم يريدون الحصول على مكتسبات ويريدون أن يكسبوا الجماهير، وليست من مهمة “الانتلجنسيا” أن تكسب الجماهير. عندما تريد أن تخاطب الملايين من خلال التلفزيون باعتبارك مثقفًا تضطر إلى أن تساوم ليس فقط أن تقول ما تريد باللغة السهلة بل لا تستطيع أن تقول كل أفكارك وتكون حريصًا ألا تجرح شعور المشاهدين الذين هم بالملايين. في هذه الحالة تساوم على موقفك وتحاول أن تهذبه وتشذبه بما لا يزعج السامعين والمشاهدين، وأعتقد أن هذا دور خطير جدًا مع الأسف تلعبه أجهزة الإعلام اليوم خاصة القنوات التلفزيونية في تنزيل المثقف من مستوى الضابط ركن الذي يجب أن يكون إلى مستوى عريف. من هنا وبكل صدق نلاحظ المستوى المنخفض لمداخلات المثقفين في الأجهزة الإعلامية، ليس لأنهم في حد ذاتهم دون المستوى وإنما هم مضطرون على أن يلعبوا هذا الدور في أجهزة الإعلام لمخاطبة الجمهور الواسع. أي صار المثقف يصور نفسه كأنه حزب سياسي، إذ كان هذا الأسلوب هو أسلوب الأحزاب يوم أن كانت هناك أحزاب في العالم العربي، فقد كان الحزب ينقل الأفكار من مستوى القيادة من فوق إلى المستوى الجماهيري يعممها ويبسطها ويشذبها. بمعنى أوضح نجد أن المثقف أصبح هو الحزب ومطالب ما كان يطالب به الحزب، فهذا ليس في الأصل دور المثقف وإنما هو دور ضابط الصف الذي يشق الطريق، ثم هناك من يعبد الطريق ثم هناك كذلك من يسلك الطريق والمسافة طويلة!
لذا أسمح لي أن أقولها صادقًا “الانتلجنسيا” العربية بمعظمها تقوم بدور تعظيم النفس وتصور نفسها أنها تستطيع من خلال أجهزة القنوات التلفزيونية أن تغير واقع الدول والمجتمعات العربية. من هنا ظهرت الشعبوية لدى الكثير من المثقفين العرب مهما كانت اتجاهاتهم قوميين كانوا أم ماركسيين أم شيوعيين سابقين أم ديمقراطيين علمانيين يستخدمون من خلال هذه الأجهزة لغة متعرجة لا يستطيعون التعبير عن أفكارهم إلى النهاية. يترددون في صدم الجمهور العربي، لأن الصدْم والصِدام آلية هي نهضوية. فإذا لم نُصدم فلم ننهض، وإذا لم يصدمنا هذا الواقع فلم ننهض، مع الأسف معظم المثقفين العرب اليوم يتحاشون الصدام والمصادمة لأنه صور لهم كأنهم هم نجوم جديدة التي يمكن أن تحل محل الأحزاب التي فقدت قيمتها وبالفعل الأحزاب فقدت مصداقيتها وفقدت خطوتها وصار هناك طلب على المثقفين من قبل القنوات، وعندما يزيد الطلب يقل مستوى العرض.
م. م.: كل هذه القنوات الفضائية ووسائل التقنية الحديثة التي تتدفق يوميًا ألا ترى أنها يمكن أن تلعب دورًا مهمًا في سبيل نشر التنوير؟
ج. ط.: سأذكر لك قصة حدثت لي عندما كنت في مؤتمر في القاهرة وهو يعتبر آخر مؤتمر قررت أن أحضره حيث أصبحت أقاطع جميع المؤتمرات، والقصة هي أن الراحل الصديق العزيز هشام شرابي وقف على المنبر وقال: “ابشروا يا عرب فإننا لم نعد أسرى لأنظمة دكتاتورية عربية فقد صارت هناك قنوات في كل مكان، وتوصل أصواتنا إلى كل مكان.. فلم تعد الدكتاتوريات العربية قادرة على حبس حرياتنا”. ففي رأيي هذا الكلام ممتاز لأن التكنولوجيا التلفزيونية اقتصرت المسافات وفتح الأبواب على مصراعيها.. لكنني فوجئت عندما قال: “انظروا إلى قناة الجزيرة كيف استطاعت أن تفتح مجالاً للنقاش وللآراء لتتصارع”، وأنا رغم صداقتي للمرحوم هشام فقد استفزني هذا الكلام! وطلبت التعقيب على حديثه وقلت إن ما ذكره هشام هو نموذج للديمقراطية المزيفة التي نعيشها اليوم لأن قناة الجزيرة بالرغم من أنها قناة تعددية في السياسة لا مانع لديها أن يشتم الشيوعي القومي والقومي يشتم الليبرالي والعلماني يشتم غيره، وتفتح صراعات تصل إلى حد المهاترة بين التيارات السياسية إلا أنها لن تكوِّن تعددية ثقافية، ولكن ما تمرره على الجميع هو الواحدية الدينية، وخاصة برنامج “الشريعة والحياة”، وهو ليس فقط صوت ديني واحد بل هو صوت ديني ومن أكثر الأصوات تخلفًا، وهذه القناة ليس لديها مانع أن تمرر كل هذه التعدديات السياسية حتى تمرر هذه الواحدية الدينية، وعندما تراهم في الاتجاه المعاكس وهم يتسابون ويتشاتمون بهذا الشكل التلفزيوني السمج عندها تسقط قيمة “الانتلجنسيا” العربية في نظر الجماهير. عندما تراهم “يتخانقون” على هذا النحو وتعلو صراخاتهم بدون شك الكل يعلق ويتساءل: أهذه هي الثقافة؟! وللأسف هذه ليست من قبيل الصدفة، وأعتقد أن الهدف البعيد من هذا كله هو إعادة تقليد الصوت الديني الواحد وإبرازه حيث لا تظهر وحدة الرأي إلا من خلال هذه البرامج الدينية، وبالمقابل تشويه دور المثقفين لأنهم هم الفانوس على الأقل. ولكن هذا الفانوس ضائع وتائه، والمؤسف أن هذا الفانوس هو الذي يعتم على نفسه بنفسه لذلك أنا جدًا متشائم. سأستخدم هذه العبارة التي لن أتردد في إطلاقها والتي تبدو كبيرة وهو أن هناك شريحة واسعة من “الانتلجنسيا” العربية تخون رسالتها التي تكمن في معرفة الواقع ونقد الواقع، ولم يحدث قط أن تأدلجت “الانتلجنسيا” العربية كما تتأدلج اليوم، وهي في الوقت الذي تقول فيه إن الأيديولوجية قد ماتت.
م. م.: ألهذا نراك أكثر المدافعين عن عصر النهضة العربية الذي انتهى في منتصف القرن العشرين؟ يبدو أنك آخر الأحفاد لتلك المرحلة التاريخية الهامة بعد أن تناساها الكثير من المثقفين.
ج. ط.: ليس فقط أنهم تناسوا عصر النهضة وإنما قاموا بتأثيمها وتجريمها والطعن في نواياها ومقاصدها، وإعادة ربطها بالاستعمار وبمخططات سرية وبمؤامرة أبدية وأزلية على الأمة وعلى الإسلام.. الخ. إن تجريم وتأثيم عصر النهضة هو جزء على ما أعتقد من هذه الرضة الأصولية التي تجتاح العالمين العربي والإسلامي. أما فيما يتعلق بأنني آخر الأحفاد فإنني أتمنى أن أكون بالفعل أحد أحفادها وأتمنى أن يأتي من بعدي أحفاد وأحفاد.
م. م.: في الجزء الأول من كتابك هرطقات تطرقت إلى قضية الديمقراطية في العالم العربي وأشرت أنه لا يمكن أن يكون هناك ديمقراطية حقيقية بدون وجود طبقة برجوازية تحملها وتحميها.
ج. ط.: أعتقد أن الأفكار لا بد لها من حامل اجتماعي.. وبالنسبة لي أرى أن أوروبا الغربية بشكل عام كانت البرجوازية فيها تلعب مثل هذا الدور حتى في العصر الذهبي في اليونان والعصر الذهبي الإسلامي في القرن الثاني والثالث الهجري حينما كانت الحضارة العربية والإسلامية في أوجها، كان هناك حامل اجتماعي محدد لهذه الحضارة! متى سقطت الحضارة العربية الإسلامية؟ لما غلبت العامة على الخاصة وانتهى دورهم، وأصبح العامة يحكم الشارع في بغداد لعقود متوالية وتراجع بالتالي دور الشعراء والمطربين والفلاسفة وعلماء الكلام والتصوف. العلاقة بين النخبة والمجتمع هي علاقة جدلية ولا أقر فكرة إلغاء المجتمع وإنما أؤكد على أهمية تطوير وتنمية المجتمع وتغذيته، وهنا يأتي دور النخبة الذي من مهمته هو تغذية هذا المجتمع لكي تتولد منه نخب أكبر وأكبر مع الزمن والتطور والتقدم، أما النخبوية فيعني عزل النخبة عن المجتمع وأنا أعتقد عكس ذلك وهو الدور المجتمعي للنخبة وهذا الدور دور متوسط ليس دورًا مباشرًا. وبما أننا نعيش في عصر أجهزة الإعلام فقد كان من المفروض أن تلعب هذه الأجهزة الإعلامية دور الوسيط بين النخبة والمجتمع، ولكن مع الأسف في الواقع العربي نجد أجهزة الإعلام لا تلعب هذا الدور.
م. م.: تفضل أن تطلق على نفسك لقب “نهضوي جديد” أكثر من “الليبرالي”. لماذا؟!
ج. ط.: أنا لست ضد الليبرالية ولكنها كلمة ملتبسة ومحملة بحمولات هجائية وتعني الآن بالاقتصاد غلبة السوق على أي منطق آخر. طبعًا أنا لست ضد منطق السوق ولكن هذا معناها المختزل. أنا شخصيًا أعتقد أن تلبيس “الليبرالية” هي نوع من التحديد. يعني يطلق لفظ الليبراليون العرب على المثقفين العرب من قبيل “التحقير” والفصل عن المجتمع. لذلك أفضل رد الاعتبار لكلمة “نهضوي”.
م. م.: ولكنك دافعت وتمسكت بكونك “علماني” مع أن هذه الكلمة تعرضت لتشوية أكثر من “الليبرالي”؟
ج. ط.: الحقيقة العلمانية بحد ذاتها ليست غريبة وقع على الأذن غرابة الليبرالية. يعني حتى الديمقراطية هضمت لم يعد يذكر أحد أصلها الأجنبي. في حين أن “الليبرالية” كلمة عصية على الدخول إلى الجمهور العادي. وبمجرد ما نستعملها تتضح حمولتها الهجائية. “العلمانية” سفهت. ولكن حمولتها اللغوية لم تشوه. بالعكس هناك من فسرها بأنها “العلمانية” – بكسر العين – أي من العلم والحقيقة هي من “العالم” أي الدنيا. وطبعًا هي كلمة موجودة في التراث العربي والإسلامي منذ القرن الـ 14 الهجري.
أما تشويه كلمة العلمانية فعملية مقصودة لأنه لم يعد يسب الشيوعي لأنه شيوعي بسبب انتهاء الشيوعية، ولم يعد يشتم الماركسي لأن الماركسية سقطت كأيديولوجيا، وكل المسبات التي كانت توجه في الماضي إلى الماركسية والشيوعية الآن استبدلت بكلمة “علمانية” و”العلمانيون”. علمًا بأن نسبة “العلمانية” في “الانتلجنسيا” العربية نسبة ضئيلة جدًا. وأحيانًا يعدون على رؤوس الأصابع كما يقال. كلمة “الليبرالية” تشعر وكأنك مسقط بالمظلة على العالم العربي من العالم الغربي. وكأنك لست من هذا المجتمع.
مما ساعد على «تأثيم» كلمة العلمانية بعد سقوط المعسكر الشيوعي هو أن الكثير من المثقفين العرب ممن ينتمون للتيارات القومية والماركسية أيضًا بدافع من هذه النزعة الشعبوية قاموا بالتبرؤ من العلمانية لأنهم يشعرون أنهم إذا قالوا نحن “علمانيون” انفصلوا عن المجتمع وهم لا يريدون هذا الانفصال مع إن الانفصال النسبي للمثقف عن المجتمع ضروري. إذا لم تنفصل عن المجتمع لا تستطيع أن تتصل به. انفصالك عنه أساسي لتعاود الدخول عليه من موقع الدعوة إلى التطوير، وليس إلى التثبيت والتسكين. الكثير من المثقفين العرب يتحاشون هذه الكلمة لأنها تشعرهم بأنهم غير مفهومين من المجتمع. وأن مجتمعنا ديني بطبعه وبالتالي لا يستطيع تقبل “العلمانية”. هناك تأتيم لها من الطرفين. من خصومه ومن أصدقائها أو ممن كان يمكن أن يكونوا أصدقاء لها.
م. م.: لماذا تقاطع المؤتمرات الثقافية العربية؟!
ج. ط.: شعرت أنها تمثيلية. هناك نوعان من المؤتمرات، أما تلك التي تنظم في مصر أو تلك التي في دول الخليج. في مصر تنظم هذه المؤتمرات حتى تمثل واجهة براقة لمصر كأنها ما زالت تلعب الذي كانت تلعبه في السابق. ولكنها كلها كلام في كلام لا يقدم ولا يؤخر. نفس القاعة والحضور ولا جديد أما في الخليج فهي قضية ربحية، حيث يذهب المثقفون العرب ويعودون وجيوبهم مليئة. لا أثر لهذه المؤتمرات على الصعيد المجتمعي الحقيقي. تدور في باحات فنادق الدرجة الأولى الخمسة نجوم ومعزولة عن الجمهور الحقيقي. وكثيرًا ما تتحول إلى مصادمات بين المثقفين للبحث عن النجومية.
م. م.: أنت أيضًا غائب عن مهرجان أصيلة الثقافي في المغرب؟!
ج. ط.: ذهبت إلى أصيلة مرة واحدة ولم أعد أدعى للمغرب منذ “خناقتي” – يقولها ضاحكًا – مع الجابري. يبدو أنه استخدم نفوذه هناك. حضرت مرة إلى تونس ولكن خرجت بذات الانطباع. دائرة مغلقة من المثقفين المعزولين. أنا أيضًا لا أستطيع أذهب إذا لم يكن لدي ما أقوله وأقوم بالتحضير له. في أحد المؤتمرات كنت كتبت بحثًا من أربعين صفحة ولكنهم قالوا لي لديك عشر دقائق فقط!
م. م.: ترجمت أكثر من 225 كتابًا ولديك مشروع فكري كبير جدًا، ومؤلفات عديدة. كيف استطعت أن تقوم بكل هذا العمل الضخم وحيدًا؟!
ج. ط.: استقلت من التدريس والصحافة. قررت أن أعيش من الترجمة. أتذكر أني ترجمت رواية المثقفون لسيمون دوفوار من ألف صفحة وتقاضيت عليها 2000 ليرة لبنانية. طبعًا كانت قيمة الليرة آنذاك غير قيمتها الآن. يعني حوالي 800 أو 900 دولار. آنذاك عندما كنت في سورية يمكنني العيش بـ 100 دولار في الشهر. لذا قررت أن أعيش عن طريق الترجمة مهما كان الدخل. تركت كل الوظائف وتفرغت للترجمة. بالطبع ليس كل ما ترجمته جيدًا. أيضًا في الترجمة تمرست وتدربت والآن لو أمكنني أن أعيد النظر في عدد من ترجماتي سأرحب بذلك. واشترطت على أي دار نشر إذا أرادت أن تعيد طبع ترجماتي أن تعيد لي الكتاب فقط لأعيد النظر فيه ولا أريد أن أتقاضى منها أي ثمن. أنا متفرغ إذن ومنذ قدمت إلى فرنسا من 25 سنة تقريبًا إلى اليوم لم أرتبط بأي عمل. أعيش بالحد الأدنى من الدخل وليس لدي مصروف كبير حتى لا أضطر أن اشتغل خارج عملي. كان لدي مقال كل يوم أحد في جريدة الحياة ولكني أوقفته بعد ذلك لأني لم استطع. عندما شعرت بأني قادر على العيش بدون مدخول “الحياة” من عائدات كتبي قررت أن أتوقف. أنا أعيش بشكل متواضع وبيتي متواضع. خفضت سقف حياتي حتى أتفرغ للكتابة والترجمة، وكان ذلك على حساب عائلتي. بناتي الثلاث عملن منذ الصغر. غير ذلك أنا لا أسافر من أجل حضور على التلفزيونات أو المشاركة في المؤتمرات والندوات. هناك مثقفون لا يمضي شهر حتى يقوموا بعمل ندوة أو ندوتين. وهذا ضياع هائل للوقت.
م. م.: هل لديك ترتيب معين للوقت. هل مثلاً تصحو الصباح مبكرًا وتبدأ العمل؟!
ج. ط.: لا لا ليس كذلك.. أنا فقط انغمس في القراءة. خمس ساعات تقريبًا في اليوم. وأنا لا أقرأ الآن إلا في التراث. حتى الروايات التي أعشقها لم يعد لدي وقت لها. أقرأ التراث وكلما قرأت ازددت غرقًا فيه. واكتشف فيه ينابيع قابلة للاستغلال. ولكن تريد من أن يشتغل عليها.
م. م.: هل يمكن أن تطلعنا على ملامح الجزء القادم من مشروعك نقد نقد العقل العربي؟!
ج. ط.: أنا الآن أريد أنهي هذا المشروع الذي بدأت فيه قبل 25 سنة. أنجز الآن الجزء الخامس والأخير وأحرص على أن يكون الأخير مهما كان حجمه والحقيقة سيكون بحجم كبير جدًا. الآن أنا أكتب الفصل الأخير من هذا الكتاب وهو فصل صعب. أتمنى خلال العام القادم أن أنجز الكتاب وسيكون عنوانه استفزازيًا واشكاليًا بعض الشيء وهو “الانقلاب السني. من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث”. وهذه أول مرة أعلن عنه، وطبعًا عندما أقول السني هاهنا لا أقصد انقلاب السنة ضد الشيعة، ولكن تقديم السنة على القرآن. وأن هذا ما حدث في التاريخ الإسلامي. التحول من القرآن إلى الحديث. وبالنسبة لي الثورة في الإسلام لا بد أن تكون ثورة لاهوتية. وبالتالي العودة بالعكس من الحديث إلى القرآن. بانتظار ما أسمَيته ظهور لوثر مسلم ومن ثم فولتير.
* إعلامي وكاتب سياسي سعودي
المصدر: جريدة الرياض
التعليقات مغلقة.