سلام الكواكبي *
أودع نائبان فرنسيان من حزب “الجمهوريون” اليميني “المعتدل”، جوليان أوبير، وداميان آباد، رسالة رسمية لدى رئيس مجلس النواب، ريشار فيران، مطالبين بتشكيل مجموعة عمل ضمن البرلمان، تسمّى تقنياً “مهمة إخبار”، يكون نشاطها مرتبطا بالتعرّف على الانحرافات الفكرية والعقائدية في الأوساط الجامعية في فرنسا. وقد حدّد النائبان، أحدهما رئيس المجموعة البرلمانية للحزب، ما يهدفان إليه في نقطتين أساسيتين: ظاهرة “الإلغاء الثقافي”، و”الإسلامية اليسارية”.
تنصّ ظاهرة “الإلغاء السياسي”، التي اعتبرتها الرسالة مستوردة من الولايات المتحدة الأميركية، على منع التعبير في المجال العام عن فئةٍ معينةٍ من المفكّرين لاعتباراتٍ واجتهاداتٍ عدة، مشيرين إلى أنه قد تم في السنوات الأخيرة منع بعض أصحاب الرأي والأكاديميين من إلقاء محاضرات في معاهد العلوم السياسية أو بعض الجامعات تحت تأثير ضغوط من جماعات طلابية أو مدنية. وبهذا النص المُبهم، يحاول النائبان الإشارة، من دون الإفصاح، إلى ما حصل في بعض المنتديات الجامعية التي ساهمت احتجاجات الطلبة أو الأساتذة فيها على منع أو إلغاء مشاركات كتّاب ممن تتميز كتاباتهم بالرهاب من الإسلام أو التطرّف اليميني الفاضح. وبالفعل، ومن دون أي قرار رسمي مكتوب، آثرت بعض الإدارات الجامعية، الاعتذار عن عدم إمكانية تنظيم محاضرات لبعض رموز هذا التوجه، بحجة عدم القدرة على تأمين المكان والحذر المفهوم من ردود فعل ناجمة عن احتجاجات طلابية.
وبالعودة إلى بيان وقّعه مثقفون يساريون في الصيف الماضي، يبدو أن هذا المفهوم المستورد من أميركا كان مستعملاً منهم تحديدا لأول مرة في الخطاب العام فرنسياً، للإشارة إلى التحطيم المعنوي الذي يتعرّض له بعض أصحاب الفكر اليساري. واعتبر البيان أن بعض اليساريين في الحقل المعرفي، ممن يواجهون الخط العام المعتمد، بطريقة جريئة ومن دون مواربة، يتم عقابهم ومحاربتهم وإقصاؤهم عن منابر الحوار، حيث يمكن أن يتم أحياناً تحميلهم وزر مواقف زملاء لهم يحملون الفكر نفسه، ولكن سبق لهم أن اتخذوا مواقف متطرّفة. وأسهل هذه المواقف التي يمكن استغلالها لمحاربتهم مساندة الشعب الفلسطيني، مسلوب الأرض والحقوق، فيتم حينذاك اتهامهم بمعاداة السامية والحكم على إنتاجهم الفكري بشكل مبرَم وقطعي.
إذا، يبدو أن اليمين الفرنسي “المعتدل” يلجأ إلى استعارة مفهومٍ استخدمه يساريون في الإشارة إلى “الإلغاء الثقافي” والإقصاء الفكري، ليقوم بتعميم الحالة لتغطّي ما حصل، ونادراً جداً، مع بعض متطرّفيه. ومن شبه المؤكّد أن من كتب بيان الصيف الماضي من اليساريين لم يظن وهلةً أن كلامه سيصبّ في فائدة يمينٍ معتدل رسمياً، يميل أكثر فأكثر إلى التطرّف أو إلى إغراء أصوات اليمين المتطرّف الفرنسي، للخروج من مستنقع فشله السياسي. وتعزيزاً لموقفهما، يؤكد النائبان على ضرورة أن تُفسح الصروح الأكاديمية المجال لكل التوجهات الفكرية، وأن تتم مناقشة الفكر المختلف بانفتاح وبرؤية إيجابية. كلام حقٍّ يجب السعي إلى البحث عن بطلانه في الرسالة نفسها التي ستحمل تناقضاً صارخاً مع ما أشار إليه النائبان من أهمية حرية التعبير.
يتطرّق النائبان، في القسم الثاني من الرسالة/ الإحاطة، إلى ما يسمّونه تفشّي “الإسلامية اليسارية” في الأوساط الأكاديمية، معزّزين ملاحظتهم هذه بتصريح وزير التربية الفرنسي لإحدى الإذاعات، عن خطورة هذا التوجه الفكري لدى بعض الأكاديميين، ومعتبراً أنه يعطي تفسيرات للظاهرة الإرهابية، تكاد تقترب من إيجاد التبريرات لها. كما أعاد الوزير إدانة هذه الظاهرة من خلال حديثه أمام النواب، مشيراً إلى “وجود تياراتٍ إسلاميةٍ يساريةٍ قوية للغاية في حقل التعليم العالي، وترتكب أعمالا ومواقف ذات أثر سيئ في العقول”. والوزير كما النائبان يستهدفون، بكلامهم هذا، القسم الأكبر من الجسم الأكاديمي الفرنسي العامل بحثاً أو تدريساً في العلوم الإنسانية، فالأكاديميون الفرنسيون عموماً، عدا ثلّةٍ مستقطبةٍ وظيفياً أو أيديولوجياً، يحاولون بجدّية عالية، فهم الظواهر المتشابكة في المجتمع، والتي تدفع بعض الشباب للوقوع في فخ الإرهاب. ومن خلال منهجيتهم العلمية، يسترجعون العوامل المركّبة التي ساهمت وتساهم في سلوك الأفراد والجماعات. وهم بذلك لا يسعون البتة إلى إيجاد مبرّرات للإرهاب، وإنما يحاولون، بعلمية وموضوعية، تحليل الظواهر واستعراض العوامل واستنتاج الفرضيات التي يمكن أن تساعد في الفهم، كما في العمل على تعديل السياسات العامة، بما يفيد المجتمع الفرنسي بمكوّناته المتنوعة.
لوهلة، يخال للمتابع بأن هناك تناقضا صارخا في رسالة/ إحاطة واحدة، فالنائبان يطلبان من رئيس المجلس تشكيل مجموعة عمل، يمكن القول صراحةً إنها “لجنة تحقيق” لمعرفة مدى تغلغل ما يسمونها الإسلامية اليسارية في الوسط الأكاديمي، وتأثيره على الطلاب وعلى الإنتاج العلمي. وفي المقابل، هما يندّدان بظاهرة “الإلغاء الثقافي” التي يقع ضحيتها أحياناً مقرّبون من أيديولوجيتهم. وفي الواقع، طرحهما متجانس مع ذاتٍ سياسيةٍ تهيمن، يوماً بعد يوم، تسوّق حرية تعبير تحصرها بما ترى هي أحقيته، وتُحاكم حرية من يختلف معها في توجهاتها وتحليلاتها. أما الإشارات المتكرّرة، والتي تُزين مثل هذا الطرح، لدور فرنسا الريادي في حماية الحق في التعبير، ونشرها قيم حقوق الإنسان، فصار من الممكن البدء بالقلق الجدّي على مصداقيته ومآلاته.
* كاتب وباحث أكاديمي سوري
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.