حاورته: فاليري تريرويلر ٭ وترجمة: سعيد بن الهاني ٭٭
في هذا الحوار الذي أنجزته الصحافية فاليري تريرويلر لصحيفة «باري ماتش» يحلل عالم الاجتماع والفيلسوف الفرنسي إدغار موران نتائج فيروس كورونا المستجد على عالمنا الفكري والثقافي..
■ لقد عشت حياةً ثريةً جدا، هل كنت تفكر يوما ما أن تعيش مثل هذه الحالة؟
□ أبدًا، كانت هناك أوبئة عالمية ولم يكن هناك أي حجر صحي كَوْنِي أبدًا. حدثت انفجارات اجتماعية سببها الأوبئة، ولم يكن هناك أي انقلاب، باعتباري كُنت من أولئك الذين يعتقدون أن السبَاق المجنون، الذي يجرف الإنسانية ستكون نتائجه كارثية، ولكن لم أكن أبدا أتصور أنه سيأتي بهذه الكارثة.
■ كيف تعيش فترة الحجر الصحي؟
□ في سني، أعتبر نفسي محظوظا بأنْ أجِدْ نفسي منعزلا في منزلي بسبب الحجر الصحي، وليس في دار للعجزة. إنني محظوظ كوني في الحجر مع زوجة محبة وحامية. محظوظ بحديقة تسمح لي بالجلوس تحت شجرة مزهرة والاستمتاع بأزهار فصل الربيع. لدينا جيران لطيفون يقترحون علينا القيام بالتسوق لنا. بناتي وأسرتي وأصدقائي القريبون، أو البعيدون حاضرون معي دائما بواسطة الهاتف، الرسائل القصيرة الهاتفية، أو بواسطة شاشة سكايب، لكنني أفكر في كل المآسي التي يثيرها العزْل الصحي، في الاكتظاظ السكاني، في المسَاكن الضيقة، النساء المعنفات، الأطفال الخائفين. إن العزلَ الصحي يُضاعف الاختلافات والنزاعات بين الأزواج، بل يُنْسِفُها، ولكنه في المقابل يدعم تواصلا وفهما جديدين. مع زوجتي (صباح) لدينا الوقت الكافي لتبادل أطراف الحديث. كما أن أيامي في الحجر الصحي ممتلئة بما فيه الكفاية، نشاطاتي تُنْجَز حاليا عبر السكايب، أو البريد الإلكتروني. إن العالم يدخل إلينا عبر الرقمي، ويحثنا باستمرار على مساءلته ومساءلتنا. لدينا زوجتي وأنا طقس يومي، نقوم فيه بتبادل أخبار الشاشة الصغيرة والمذياع والصحافة، ونحاول أن نجعل أخبارنا متقاطعة ومتداخلة عن الوباء بشكل أفضل، تَطَوره، العلاجات، وجهات النظر المختلفة، بل المتعارضة للأطباء والبيولوجيين، فضْلا عن أزمات متسلسلة أحدثها الوباء. من جهة أخرى، إننا نقدر قيمة المزحات المضاعفة، المحاكاة ساخرة، والرسائل التفكهية التي أثارها الحجر الصحي، كأجسام مضادة أو مضادات للاكتئاب. وفي الجملة، إن التواصل بكل أصنافه يمنع الإحساس بالحجر الصحي كسجن.
■ هل تعتقد مثلما اعتقد كامو «وسط الكوارث توجد لدى الناس أشياء تدعو إلى الإعجاب أكثر مما تدعو إلى الاحتقار»؟
□ حتى لو كانت بعض التصرفات البشعة (سرقة الأقنعة، احتيالات على وعود دواء زائفة مثلا) فقد كانت هناك تمظهرات رائعة لتضامن يبدو أنه كان مفقودا، في المقام الأول لمقدمي الرعاية الصحية، وفي أنحاء مختلفة، في المساعدات العفوية للمنعزلين، للأشخاص المسنين، للبؤساء أو بدون مأوى. تثلج الصدر رؤية انخراط عدد من الشباب في الأحياء المهمشة. كانت هناك تمظهرات ليقظة تضامنية جماعية بشكل رمزي في التصفيق عبر الشرفات.
■ عندما سمعت الرئيس يصرح: «نحن في حرب» بماذا أحسست؟
□ شعرت فعلا أنه قد تم اجتياحنا من طرف عدو غير إنساني، فاضطررنا إلى المقاومة، بإيجاز.. إن لكلمة حرب قيمة تحفيز إجراءات الحماية (وتبرير إجراءات السلطة) وليس تعريف الوضعية حقا. هذا يعني أن الأمر مماثل لحرب 1940 كان هناك نقص كبير في الستعداد وهفوات وأخطاء.
■ لم نعدْ قادرين على أن نكرمَ موتانا، ما هي النتائج المترتبة عن ذلك في علاقتنا بالموت؟
□ إن موت إنسان عزيز علينا يفرضُ مصَاحبته إلى حد الدفن، يجب علينا توفير طُقوس وحفلة مأتم جَماعية، وهي تضُم مأدبة جنائزية، إن الناجين في حاجة لتطهير ألمهم في اتحاد ما، فالعلمانيون، وأنا منهم يشعرون مع هذا التخلي عن هذا الاحتفال الديني المواسي، بالحاجة إلى الطقوس التي تحيي بكثافة في أرواحنا الشخص الميت، وتخفف الألم في نوع من القربان المقدس. من جهتي، كنت أتوقع موتي انطلاقا من سن ثمانين سنة. تجاوزت التسعين، وقد اعتدت على الاستمرار في الحياة، لقد فقد الموت لدغته في روحي، رغم أن هذه الأخيرة تعرف أنه قريب. هنا أيضا، وبدون شك لشباب زوجتي أن يكون له أثر العدوى عَلي. زوجتي (صباح) تجذبني نحو الحياة، وليس نحو الموت. التهديدات المميتة أصبحت مضاعفة، تدهور الغِلاف الجوي، تعدد الأسلحة النووية، العودة إلى البربريات، وأخيرا الفيروس المُخَرب، وهو يفرض التخلي نهائيا عن أسطورة الإنسان سيد قدره وقدر الطبيعة. إننا في الوقت نفسه أقوياء جدا ومعتوهون، ننتصر في تقنياتنا، ومشلولون أمام الألم والموت. فالإنسان إذا كان بإمكانه تأجيل موته الطبيعي، عليه أن يواجه دائما الحوادث، البكتيريات والفيروس وهي تعرف كيف تغير نفسها كيْ تتوالد. ما يجب معرفته هو أن كل شيء سيموت، بما فيه شمسنا والعالم، وهو ما يجعل من حياتنا المؤقتة ممتلكاتنا الوحيدة التي يجب علينا أن لا نبددَها.
■ قلت بأن العزل يمكن أن يكون صِحيا ليزيل السموم من نمط حياتنا. ولكن أليس من الممكن أن نستعيد عاداتنا المألوفة بسرعة أكثر مما نعتقد؟
□ بلا شك، لقد تشكل تدريجيا ولكن بشكل بطيء قبل الوباء، نزوع أقلية لمواجهة الإفراط في الاستهلاك، والزمن المقيس، كمحاولة للحياة بشكل جيد، يحثنا الحجر الصحي على أن نعي كُلنا ما كنا نعرفه بشكل غامض.. إن الحب والصداقة، النضج الذاتي في جماعة ما، والتضامن هي القيم الحقيقية. إن إمكانية الاستمتاع بالأعمال الكبرى في وقت الفراغ الخاص بالحجر الصحي قد يساعدنا على البحث الجيد عن شعر للحياة. ماذا بقي أن نقول؟ لا أعرف..
■ هل ستكون مناسبة لتطوير التزام أيكولوجي مستدام وكوني؟ هل تعتقد بولادة عالم وتضامن جديدين؟
□ لقد انطلق التحذير الإيكولوجي الدولي منذ ما يقرب من خمسين عاما بتقرير ميدايز Meadows. ولكن الوعي به بطيء جدا، بل إنه غير كاف كذلك. أعتقد أن عالما جديدا سيكون ممكنا، ولكنه غير مرجح أيضا. إن قوى الإبقاء على الوضع الراهن كبيرة، وفراغ الفكر السياسي ضخم. فكر لا يمكن تجزئته ويختزل كل شيء في الحساب، هو موجود في كل مكان في الطلبيات. إن الفائدة الخارجة عن السيطرة تنسف كل انتظام، فضلا عن أنه يجب أن لا ننسى النزوع التراجعي العالمي في السنين العشر الأخيرة، أزمة الديمقراطيات والديماغوجيات المنتصرة عند الأمم الكبيرة. وتطور الأنساق النيوسلطوية بواجهة ديمقراطية، والأزمة العامة للفكر السياسي. توقعي هو نقطة تحول محتملة ستغير التطور الجاري الآن لكن بإمكاني أن أقول لكم، إن هذا السؤال، هل تعتقدون بولادة (عالم جديد) هو جزء من الأسئلة التي أتحدث بها غالبا مع زوجتي وأصدقائي. لقد حاولت بنفسي استخلاص طريق جديدة في كتابي «المنهج» عام 2012، الذي يبدو لي منهجا مفيدا.
■ هل سنفلت من إغواء كوني وشخصي بالانطواء؟ هل يمكن تصور حل كوني سياسي cosmopolitique؟
□ لقد أحدث الوباء انطواء الدول الوطنية على نفسها. إذا كانت هناك أزمة اقتصادية هائلة بعد الوباء سيزداد هذا النزوع سوءا ويتحول إلى نزعة وطنية تكره الأجانب، بل سيصبح عدوانيا. هل تعرفون مسرحية Uonesco يونسكو «وحيد القرن»، حيث الكائنات الإنسانية تتحول الواحدة تلو الأخرى، إلى حيوان وحيد القرن. فليحاول كل واحد ألا يصبح وحيد القرن، إن الحل الكوْني للكونفدرالية الكونية مرغوب فيه، وتقنيا ممكن، ولكنه حاليا مستحيل. يجب علينا مسبقا تملك وعي قوي جدا بجماعة تهتم بمصير كل البشر.
■ هل يجب علينا أن نفكر من جديد في علاقتنا بالآخر؟
□ إن الصداقات الحقيقية وجدت نفسها قد تقَوت، والأزواج عثروا على ذواتهم، لكن الحجر الصحي كان مرعبا بالنسبة للأزواج النكديين، أو الذين هم في طريق التفكك. يجب أن نفكر أن كل «أنا» في حاجة لـ «أنت» ولـ»نحن».
■ هل يبدو لك أن الثقافة أصبحت متاحة يسهل الوصول إليها بنقل مجاني على الإنترنت للأوبرا، والمتاحف وبعض الكتب؟ أو على العكس هل علينا من الآن فصاعدا الاستغناء عنها؟
□ فعلا، إن نقلا مجانيا على شبكات الإنترنت أوبرا ومتاحف، وبعض الكتب هي مبادرة ذات أهمية كبيرة، جاءت لكي تفتح مسالك الولوج إلى الثقافة، بالنسبة لمن لا يملكون السبيل إلى ذلك. ومن ثم، فقد يثير هذا الفعل ضربات صاعقة جمالية لمن يبحثون عن اكتشاف الأعمال الكبرى. من جهتي، لا يمكنني إلا أن أحث على قراءة المؤلفين الذين أحبهم، وفي المقام الأول دوستويفسكي.
■ هل تعتقد أن تيارات جديدة فكرية وفنية ستتولد من هذه الحقبة؟
□ لا أعرف؛ في جميع الأحوال، وُجِدَ فَن وتفَكه خاص بالحجر الصحي مع ملاحظة تزايد النكات والفيديوهات القصيرة، محاكاة ساخرة تستحق أنْ نحتفظ ببعضها.
■ ما هو أول شيء ستقوم به أو ترغب في رؤيته عند نهاية الحجر الصحي؟
□ إن أقبل الأشخاص ذكورا وإناثا الذين فصلت عنهم/ عنهن.
———————–
٭ نُشر الحوار في مجلة Paris match في 16/04/2020.
٭٭ كاتب ومترجم من المغرب
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.