علي أنوزلا *
يعيش العالم منذ شهور على إيقاع سباق محموم بين عدة دول، تسارع كل منها لتطوير أول لقاح فعّال مضاد لفيروس كورونا. ومن الطبيعي أن الدولة التي سيعود لها سبق الاكتشاف ستحظى بتقدير عالمي كبير، ناهيك عن الأرباح الكبيرة التي يمكنها أن تجنيها من إنتاج لقاح ينتظره مليارات البشر على وجه الأرض. لذلك عندما أعلن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، أن بلاده أصبحت أول دولة تنتج لقاحا للفيروس الذي ما زال يفتك بحياة ملايين البشر في أكثر من دولة، قابل الغرب باستخفافٍ كبير هذا الاختراع الروسي الذي ما زال محل شك كبير إلى حين أن يثبت فعاليته.
لقد تحوّل الأمر إلى سباقٍ لا يقل ضراوة عن سباق التسلح الذي كان سائدا إبّان فترة الحرب الباردة بين المعسكرين، الشرقي والغربي، وهو ما جعل الرئيس الروسي يطلق على اللقاح الذي اكتشفه علماء بلاده اسم “سبوتنيك 5″، في إحالة مقصودة على اسم “سبوتنيك 1” الذي حمله أول قمر صناعي يرسله الروس إلى الفضاء في خمسينيات القرن الماضي، إبّان فترة السباق الجنوني لغزو الفضاء. وما جعل الغرب يشكّك في فعالية اللقاح الروسي هو السرعة التي أعلن فيها عن اختراعه، بعد أسابيع قليلة من اختباراتٍ سريريةٍ خضع لها للتأكّد من موثوقية أمنه وفعاليته. وهذا المبدأ سيطبق على جميع الاختراعات التي أُعلن أنها دخلت في حلبة هذا السباق الجنوني الذي لم يعد الهدف من ورائه إنتاج الترياق الذي قد يجنّب البشرية خطر فيروسٍ يهدّد حياة ملايين الناس، بقدر ما باتت الغاية من إعلان اختراعه الحصول على الريادة العالمية في مجال العلم والطب، وكثير من الربح المالي المضمون.
وفي الولايات المتحدة الأميركية، الدولة الأكثر تضررًا من كورونا، يتداخل السباق نحو تطوير لقاح ضد هذا الفيروس الفتّاك، مع سباق من نوع آخر نحو كرسي الرئاسة، وهو ما يجعل الرئيس دونالد ترامب يفكر بعقلية الملياردير الطامح إلى إعادة انتخابه بأي ثمن، حتى لو تطلب الأمر شراء لقاحات بمليارات الدولارات، حتى قبل أن تثبت التجارب السريرية والأدلة العلمية مدى فاعليتها وأمانها، فما يهم الرئيس الأميركي الساعي إلى تجديد ولايته تقديم أي اختراع لمنتخبيه قبيل 3 نوفمبر/ تشرين الثاني، موعد الانتخابات الرئاسية، لإقناعهم بإعادة انتخابه رئيسا عليهم.
من الناحية العلمية، يفيد الخبراء بأن اختراع أي لقاح جديد وإخضاعه لتجارب الأمن والفعالية يتطلب على الأقل فترة تراوح ما بين 12 و18 شهرًا، وعدم احترام هذا الإطار الزمني هو ما يبعث الشك والريبة في كل الاختراعات المتسرّعة، بما فيها الروسي، وفي التجارب التي تجريها الصين في أكثر من دولة، وهي تسابق الزمن قبل إعلانها عن اختراعها في هذا المجال.
نحن أمام حرب من نوع جديد تخوضها أكثر من دولة بأسلحة غير متكافئة، أبعادها لم تعد صحية، وإنما ذات أبعاد جيوسياسية، لأن الدولة التي ستكون سبّاقة في إنتاج أول لقاح فعال وآمن ستتحوّل إلى قوة ناعمة مؤثرة. وحسب منظمة الصحة العالمية، هناك اليوم أكثر من 170 مشروعا تجريبيا لإنتاج اللقاح الذي ينتظره العالم بفارغ الصبر. وبدلا من الاحتكام إلى الصرامة العلمية والتجارب السريرية، بات البحث عن الشهرة والربح هو ما يذكي السرعة التي تضبط إيقاعه.
قد يقال إن المنافسة هنا ليست سيئة، بما أن هدفها نبيل، لكن الشهرة والمال عندما يدخلان في أي مجال يفسدانه، وهو ما قد يزيد من إرباك حياة ملايين الناس الذين ينتظرون هذا الإكسير بفارغ الصبر، ويتشبثون بكل ذرة أمل، حتى لو كانت إعلانا كاذبا صادرا عن باحثين عن الشهرة والمال، أو عن سياسيين يبحثون عن السلطة والجاه.
لقد وضع هذا السباق المحموم العالم أمام صراعٍ من نوع آخر ما بين المال والأخلاق، أيهما سينتصر؟ فالسباق لم يعد مع الزمن من أجل إنقاذ حياة ملايين البشر المهدّدة بالموت في كل لحظة، وإنما تحوّل إلى حربٍ قذرة، يتداخل فيها المال والسياسة، ستكون لها تداعيات اقتصادية وجيوستراتيجية، ستكون محددة في رسم معالم العالم الجديد ما بعد أزمة وباء كورونا. وحتى داخل الاتحاد الأوروبي التي أظهر حكمةً أكبر، واحتراما صارما لإجراءات تصنيع اللقاح، بادرت دوله السبع والعشرون إلى إبرام اتفاقياتٍ ضخمة مع شركات أدوية أوروبية تعمل على تطوير اللقاح المضاد للوباء الفتاك، لضمان إمكانية إنقاذ شعوبها أولا!
مرّة أخرى، تتدخل السياسة لتفسد العلم وتشيطنه. وقد آن الأوان، أمام فداحة الخسائر البشرية التي يفتك بها هذا الوباء يوميا، أن يتنحّى السياسيون، والسياسة أيضا، جانبا، والتركيز على العمل العلمي الجاد لصناعة اللقاح الكفيل بحماية حياة البشر، وضمان استمرار بقائهم على هذا الكوكب الذي أفسدته السياسة، وخرّبه بنو البشر.
* كاتب وصحافي مغربي
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.