محمود الوهب *
لفهم طبيعة ما سمي “مؤتمر عودة اللاجئين السوريين” الذي دعت إليه روسيا، قافزة فوق دماء السوريين وجراحهم، يجب التذكير ببدايات التدخّل السياسي الروسي في الشأن السوري، لتأكيد فكرة أن من هدَّم لا يعمر، فمنذ بداية الاحتجاجات السورية وجدتها روسيا مناسبة لتمكين وجودها الذي أخذ يتراجع بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. صحيح أن بعض قادتها دعا بشار الأسد، في البداية، إلى القيام بإصلاح ما يمكن إصلاحه، لكنها أفهمته أنها لن تتخلى عنه، مهما حصل. وعلى ذلك، باركت خطواته حين أخذ بالحل الأمني، وراح جيشه “الباسل” يحصد المتظاهرين العزَّل منذ الأسابيع الأولى للاحتجاجات السورية، (مجزرة الساعة في حمص في 17 إبريل/ نيسان 2011) أي قبل أن يكون في سورية أي معارض مسلح، وبعد أن فشل الشبّيحة في قمع المظاهرات بالعصي والأدوات الحادة. وحين استفحلت جرائم النظام واستنكرها العالم، استخدمت روسيا حق النقض (الفيتو) الأول في الرابع من أكتوبر/ تشرين الثاني عام 2011 ضد مشروع قرار لمجلس الأمن يدين النظام السوري لما يرتكبه من جرائم تنافي حقوق الإنسان والشرائع الدولية كافة، وتتجاوز مواد الدستور السوري نفسه. واستمر الروس، بعدئذٍ، في مواجهة الشعب السوري، والعالم أجمع سياسياً، إلى أن فشل النظام، وشارف على السقوط. بدأت، عندئذ، حملاتها العسكرية في 30 سبتمبر/ أيلول عام 2015، فكانت الإرهاب بعينه، إذ انهالت بأسلحتها الحديثة تجرِّبُها بأجساد الأطفال والنساء، تقذف بها الأحياء المدنية المزدحمة بالناس، ولم توفر الأسواق العامة، ولا المدارس أو المستوصفات، مرتكبة مجازر راح ضحيتها آلاف المدنيين وملايين المهجّرين، فضلاً عن سياسة النفاق التي مارستها، فيما بعد، باسم المصالحات الوطنية، فغدرت بالوطن والمواطنين، مخرجة إياهم من ديارهم، ثم أخذت باغتيال كثيرين منهم.
وإذا كانت روسيا لم تقبض ما تستحقه من نفقات الحرب التي تقدر ما بين خمسة وسبعة مليارات دولار، وحولتها إلى ديون طويلة الأجل، أو اختارت بديلاً عنها اتفاقياتٍ مميزة تضمن مصالحها، وتؤمن وجودها الطويل في المنطقة. وما تلك الاتفاقيات إلا عقود عسكرية واستثمارات اقتصادية في مجالات الطاقة والصناعة تفوق ما أنفقته بكثير. ولكن تلك العقود لن تعطي النتائج المرجوّة منها، وإن ثبتت جدواها الاقتصادية، ما لم يتحقق الأمن الدائم، والاستقرار الاقتصادي والسياسي والعسكري في سورية. ومن هنا لهفتها على عقد المؤتمر الذي سمّي مؤتمر عودة اللاجئين وهو هزيل، إذ لا أرضية لتنفيذ رغبات الروس وهو فاشل، لأن مسألة اللاجئين ليست غايته أو مبتغاه، بل غايته تعويم النظام لبقائه، والاستمرار في ابتزازه. فمن دعا إليه ومن استضافه ومن حضره، بعضهم مسؤولون في الأساس عن تدمير سورية، وعن قتل السوريين وتهجيرهم، سواء على نحو مباشر أم غير ذلك.
المشكلة السورية دولية بكل تعقيداتها، وقد قال العالم كلمته من خلال القرار 2254 الصادر عن مجلس الأمن في 18 ديسمبر/ كانون الأول 2015. وقد نصّ، فيما نصّ عليه، على الإفراج عن المعتقلين والكشف عن المغيبين والمفقودين وعودة اللاجئين، وقبل هذا وذاك، إيجاد هيئة حكم انتقالية تمثل السوريين كافة (داخلاً وخارجاً، نظاماً ومعارضة). ولكن النظام والروس عرقلوا أعماله. ومن هنا، فإن الاتحاد الأوروبي رفض حضور المؤتمر في دمشق، مبيناً الأسباب، وجوهرها عدم توفر الأرضية المناسبة.
النظام اليوم في حالة مزرية، ولم يعد في وسعه البقاء أمام وضع اقتصادي متهالك، بسبب الحرب إياها والعقوبات الدولية وقانون قيصر واستمرار النهب والفساد والمليارات المودعة في الإمارات والدول الأوروبية، وخصوصا أموال الأسرة الحاكمة وحاشيتها، لا في البنوك اللبنانية، كما برّر بشار الأسد. ومن هنا، تحاول روسيا إنقاذه بحلول قاصرة لا تلبي مطالب السوريين، وتطمح إلى البدء بإعادة الإعمار منفردة، ولكنها غير قادرة على المساهمة فيه، فكل ما فعلته في المؤتمر أن تعهدت بدفع مليار دولار، بينما تقدَّر تكلفة إعادة الإعمار بأربعمئة مليار دولار.
وإذا كان ذلك رأي الروس وإمكاناتهم، فإن بشار الأسد قد بيَّن رأيه بالمهجّرين، إذ قال في افتتاح المؤتمر: “إذا كانت قضية اللاجئين بالنسبة للعالم هي قضية إنسانية، فبالنسبة لنا إضافة لكونها إنسانية، فهي قضية وطنية”، متناسياً أحاديثه السابقة التي اتهمت المهجَّرين بالخيانة والإرهاب، وامتدح التجانس الذي حصل بعد أن بلغ عددهم ما بين سبعة إلى ثمانية ملايين مواطن سوري من المدن والأديان والقوميات والطوائف كلها دونما استثناء. وقال أيضاً إن “موضوع اللاجئين في سورية هو قضية مفتعلة”، لكنَّ الوقائع والأمكنة والأرقام والمؤتمر الذي عقده “الأشقاء الروس” كل ذلك يؤكد حقيقة اللاجئين. أما قوله إن “تاريخ سورية يخلو من أي حالة لجوء جماعية” فهذا صحيح، ولكنه قد حصل في عهده “الميمون”.
والسؤال البديهي: ما الذي سيشجع اللاجئين على العودة؟ وجود الماء والكهرباء ووقود التدفئة، أم التزاحم حدَّ الاقتتال من أجل ربطة خبز، أم إن رخص الأسعار وتوفر الدواء كفيلان بذلك؟ وكل ما ذكر في كفّة وغياب الأمن ووجود المليشيات وتعدد جرائمها من قتل وسرقة وسطو وترويج مخدّرات وتعاطيها في كفّة أخرى. ولنفترض أنَّ شروط الحياة هذه قد توفرت، فهل هذا ما اختلف حوله السوريون؟ لا يكمن عمق مشكلة السوريين في تلك الضرورات، على أهميتها، ولكن في ما طالب به المحتجون عام 2011، ولخّصوه بكلمتي الحرية والكرامة، وترجمتهما أن السوريين يتطلعون إلى دولة مدنية وديمقراطية، تنظمها قوانين تحقق لهم المواطنة الكاملة. دولة لا تمييز فيها ولا ظلم، بل مساواة مواطنية تامة، فالرئيس موظف لا مالك مزرعة أو إقطاعية. والوعي الجديد، وخصوصاً لدى جيل الشباب منهم، جعلهم ينظرون إلى أفراد قيادة الدولة على أنهم موظفون يخدمون الشعب برواتب محدّدة، ويقيَّمهم الشعب وفق أعمالهم، والرئيس واحد منهم، فإما أن يكون ناجحاً فيستمر مدة محدّدة وفق ما يقرّره دستور بلاده. ومعظم دساتير العالم اليوم تحدّد فترة الرئاسة بأربع سنوات، ولا تزيد عن خمس، ولفترتين فقط في حال نجاحــه في الفترة الثـانية، أما ســوى ذلك فيغــادر من حيث أتى، ويبقـى مواطنــاً يتشرّف بوطنه.
* كاتب وصحفي وقاص سوري
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.