حلمي الأسمر*
(1)
لسنواتٍ خلون، كنا نقول إن أمتنا تقف على “مفترق طرق” في أكثر من لحظة تاريخية، وكانت الخيارات أحيانا واضحة، أو قل ليست بالتعقيدات التي نعيشها اليوم. أما الآن فنحن نقف في شبه متاهة، مليئة بالتفصيلات، وفي الوقت الذي تكاد تنعدم فيه الخيارات، أو تلتبس على نحو لم نشهد له مثيلا.
لقد عشتُ نحو خمس حروب، غيرت الكثير في حياتنا. وفي أعقاب كل حرب كان ثمّة معطيات، ولكننا لم نعش مثل هذا التداخل في المسارات. والمفارقة هنا أنه مع تعدّد المسارات، لا يكاد يوجد مسار سالك سوى مسار الانتظار، حتى تأخذ حركة التاريخ تفاعلاتها الذاتية كاملة، و”تركن” عربتنا على الطريق، ولا يدري أحدٌ ما إذا كان مكان “الركنة” آمنا أو على شفا جرفٍ هار، أو ربما تستقر المركبة في قاع واد سحيق.
كانت فلسطين وما يحدث فيها ولم تزل هي باروميتر حالة الأمة. ومنذ ما يزيد على مائة عام، تشهد هذه البقعة تفاعلاتٍ شديدة. وفي الأثناء، قامت دول و”استقلت” شكلا، وخيضت حروبٌ كان أغلبها كحروب الألعاب التي تثير شغف الأجيال الصاعدة، فهي، في الظاهر، حروبٌ وانفجاراتٌ وقنابل وضحايا. أما في الحقيقة فكل ما يجري لم يكن إلا أحداثا افتراضية لا تتجاوز شاشة الحاسوب. اليوم وحتى مع تعدّد المفترقات، بدا أن هناك وضوحا وتمايزا في معسكري الخصوم والإخوة، فقد تساقطت الأقنعة، وخلعت اللغة المنمّقة طهرها الكاذب، وتحوّلت الأغاني من “إلى فلسطين خذوني معكم” إلى “خذني إلى تل أبيب”.
من الصعب على أي محلل أو كاتب أن يعطيك وصفةً جامعةً مانعة لحقيقة ما يجري، (دع عنك ما سيجري لاحقا)، فثمة تفاصيل متداخلة على نحوٍ غير مسبوق. وفي كل مرة، يضع أحدنا أصابعه على “الكيبورد”، لاجتراح رؤيةٍ تحلل وتستشرف، تضيع البوصلة. وربما ينصرف الذهن إلى الكتابة عن أي شيء، إلا ما يروي شغف القارئ الذي ينتظر بلسما شافيا لجسدٍ نخره المرض، وما هو مدرك شيئا من هذا.
(2)
وسط كل هذا الضباب الذي يكاد يلفّ كل شيء، ثمّة حقائق لم تغيرها السنون، ولا الخيانات والتواطؤات ولا التآمرات ليس على فلسطين فقط، بل على كل مقدّرات الأمة ومصائرها. ولعل أهم هذه الحقائق أن شعب فلسطين لم يرفع الراية، ولم يُهزم، ولم يستسلم، بل زادته المحن صلابةً وقوةً في مواجهة آلة احتلالية شديدة التوحش، وخذلان عربي وحتى فلسطيني، وتواطؤ دولي. وظل يجترح، حتى في ظل أصعب الظروف آليات بقائه، وما أشبهه بجعفر بن أبي طالب الذي عرف باسم جعفر الطيار، حيث رُوي أنه في معركة مؤتة قد أخذ اللواء بيمينه فقُطعت، فأخذه بشماله فقُطعت، فاحتضنه بعضديه حتى قُتل، ولكن الشعب الفلسطيني لم يُقتل بعد، ولن يقتل، فلم يزل رافعا راية الرفض والمقاومة، مستلهما مكامن قوة الضعف وأسرارها، وتلك قصة أخرى، تستحق كثيرا من البحث والاستخلاصات.
ثاني هذه الحقائق متعلقة بتلك القوة الكامنة في روح الأمة العربية والإسلامية، واستحالة قتلها، فهي كالجسد المثخن بالجراح اليوم، لكن روحها عامرةٌ بالحيوية، متحفّزة للوثب. وفي كل مرةٍ، تحاول حمل هذا الجسد والنهوض به، يعاجلها أعداء الداخل والخارج على حد سواء بطعنةٍ نجلاء، تُقعده عن الحركة، ولكنه يستعصي على الموت، والاستسلام، فهو اليوم في حالة تململ، ومتى لملم شعثَه لا يستطيع أحد أن يوقفه. ولهذا ولأن أعداءه يدركون ضراوة حركته وخطورتها، يجتهدون في بذل كل جهد مستطاع لإطالة أمد غيبوبته التي ستنتهي لا محالة، ولكنهم يؤخّرونها ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا، فهي قادمة لا محالة، وهم يعرفون هذا، ولذلك هم يسرقون ما يستطيعون من وقتٍ قبل صحوة المارد.
الحقيقة الثالثة التي لا يريد المتخاذلون والمتواطئون أن يروها أن عدوهم الذي يسعون إلى مصالحته و”التطبيع” معه والتوسّل لإرضائه لن يرضى عنهم بالطبع، بل يعيش مفاعيل أزمة داخلية طاحنة، تحرمه لذّة الانتصار، فعلى الرغم من أنه يعيش حالة العلو الكبرى غير المسبوقة في كل تاريخه، إلا أنه يتقلّب على جمر القلق والخوف وانتظار الحرب المقبلة، ويحيي ذكرى مرور عشرين عاما على الانتفاضة الأولى بالولولة، وعد ضحاياها وخسائره، وتفتك به أمراض داخلية تقرّبه إلى ما يشبه الحرب الداخلية الباردة، وهي حالة تحرمه من التمتّع بما أنجزه وما أنجز له. ولهذا هو كما وصف في القرآن الكريم “أحرص الناس على حياة” أي حياة. المهم أنها حياة والسلام، ولو كانت مغمّسة بالخوف والترقب وانتظار الموت، خصوصا وأنه يدرك جيدا أن الأرض التي يعيش عليها اليوم ليست له، ولن تكون، بل هي غير قابلةٍ للقسمة على اثنين، كابن المرأة التي جاءت للنبي سليمان، هي ومن تريد اقتسام الابن معها، فحكم للأم، وباءت المدّعية ببنوة الطفل بالخسران، وهم أكثر الناس معرفة بتفاصيل هذه القصة.
وبعد، لا بعد البعد إلا الانتظار، وقد لا يطول كثيرا، فأشدّ حلكة الليل ما قبل انبلاج الفجر.
* كاتب وصحافي من الأردن
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.