الدكتور جمال الأتاسي
بعد الاضرابات العمالية التي وقعت في عدد من بلاد إسبانيا عام 1951، حكمت المحاكم الخاصة التي تشكلت بأمر الدكتاتور فرانكو في مدينتي إشبيلية وبرشلونة، على أحد عشر عاملاً من السجناء بالموت رمياً بالرصاص بتهمة التخريب والتآمر على النظام. أما العامل الثاني عشر فقد استحق عقوبة الموت أيضاً بنظر أولئك الحاكمين بأمر الدكتاتور. ولكنه فتى في السادسة عشرة من عمره، وحتى قوانين إسبانيا لا تسمح بأن يقتل رسمياً من لم يبلغ سن الرشاد. فأعيد الغلام إلى سجنه ليتم الثامنة عشرة وعندئذ يستطيعون إعدامه ضمن الشروط والقوانين المرعية.
وقد لبث فتانا في سجنه يحصي أيامه وينتظر نهايته المحتومة ورصاص جند الطاغية. كل شيء في حياة هذا الثوري الصغير قد تحدد وتعين من قبل، وكل شيء مرسوم اليوم ومقدَّر، حتى النور والهواء والغذاء كلها تأتيه في مواقيتها وبمقدار.. ظروف كثيرة أحاطت بالسجين وبقي لكل هذه الظروف أن تتبدل لتبدل ما يعانيه الفتى.
ولكن، وكما أبقى له السجان كوة يتطلع منها إلى السماء قد بقي في نفسه أيضاً فسحة من الأمل والرجاء، هو كل ما بقي له من رابطة بإخوانه كانوا يشاركونه نضاله ويشاركونه الجهد والعناء، وبكل أبناء شعبه الذين يعيشون خارجاً في ذلك السجن الكبير.
الحرية كلمة صغيرة، الأمل كبير تلقنه السجين وهو طالب صغير وهتف به في المظاهرة، وقرأه في المنشورات السرية التي شارك بتوزيعها. وبهذا الأمل وقف شامخ الرأس في وجه حكامه.
بقي له رابطة التضامن الإنساني، رابطته بكل أبناء الجهد والعناء من شعب بلاده. فالمظلومون هناك وفي كل مكان كثرة كبيرة، ولكنها كثرة لم تدرك بعد مدى قوتها ولم توحد إرادتها ونضالها.
ظل الفتى في زنزانته، يقبض نفسه اليأس حيناً ويطل عليه أمله حيناً. لم يكن أمله بعفو الطاغية وحلم الحكام ولا بموت الدكتاتور وصعود غيره. انه لا يحلم بانتخاب رئيس كبير أو مجلس خطير لتنفتح من بعد ذلك للبعض أبواب السجون ويخفف عبء بعض الأحكام عن غيرهم، لقد علمته الحياة وقسوتها أن يكون واقعياً فهو لا يحلم بزواج ملك أو أمير يحل عطفه على الرعية فيطلق السجناء الجائعين.. قد نسي الغلام من زمان طويل حكايات الطفولة السعيدة، هذه الحكايات خلقت لأبناء الطبقات المترفة ممن تستمر طفولتهم طويلاً ولا يبلغون سن الرشاد.. أما فتانا فقد ودع باكراً طفولته بل لم تكن له طفولة، وبدأ حياة الجهد والكفاح لكسب عيشه. لقد أفاق على الحياة حتى كأنه رجل، انه راشد ومسؤول فلم يرجئ القضاة إصدار حكمهم؟
هذه قصة فتانا، العامل الثائر الإنسان، ليس له من أمل في شيء أو أحد ممن ذكرنا لا في شخص ولا في حكم ولا في عدالة الآخرين.. أمل بكل أبناء شعبه، أمله بكل الكادحين والمظلومين، أمله بوعيهم وتضامنهم وبالثورة على الطاغية والإطاحة بكل حكم الظلم والطغيان.
واقعنا الاجتماعي:
لا ندري ماذا حل بذلك الفتى وأمثاله ما زالوا كثرة هناك ينتظرون.
ذلك سجين تحيط به ظروف سجنه التي تحدد وجوده وحياته، وقصته تحكي حكاية الظلم في كل زمان ومكان ولكنه مظلوم في بلاده ولا يحرره ويحرر كل المظلومين هناك، إلا تبديل ظروف أمتهم وتحرير شعب بلادهم.
وفي بلادنا العربية ملايين من المواطنين، من العمال والفلاحين والمظلومين والمستثمرين، تقيدهم أيضاً وتستبد بمصائرهم مجموعة من الظروف الاجتماعية السيئة، ظروف التأخر والإقطاع والاستثمار والتجزئة والاستعمار والرجعية فهم أيضاً سجناء هذه الظروف التي تتحكم بمصيرهم وتقيد حياتهم وتحجز إمكانياتهم وتحط من قيمتهم الإنسانية.
ملايين من الفقراء والكادحين تستبد بهم ظروف نشأتهم فتحمل لهم ميراث الجهل والشقاء، وقلة قليلة بالنسبة إليهم أولئك الذين خصهم المجتمع بامتيازاته وبكل ميراثه من الرفاه والثروة والنفوذ.
ولكن ما الذي أدخل هذا التفاضل والتمايز الاجتماعي هل هو النشاط الإنساني والكفاءات، أم الخلق والذكاء.. أم ان التفاضل جاء وراثة كسواد الشعر وزرقة العيون؟
كل الناس يولدون لهذا العالم عارين إلا من لون جلودهم يأتون العالم وكلهم إمكانيات متطلعة مفتوحة على المستقبل ولكن مجتمعنا الرجعي لم يأت ليربي إمكانيات كل الناس وليتيح لهم فرصاً متكافئة في النشأة والتربية والتعليم وتوزيع العمل.. بل جاء ليخلق منه منذ النشأة الأولى التمايز والتفريق فكسا ذلك الوليد من حلله وأبقى الآخر في أطماره وأورث كل إنسان ظروفاً مادية واجتماعية خاصة تعين إلى حد كبير وجهة هذا الإنسان ومصيره.
فهل يستطيع ابن الفلاح إلا أن يكون فلاحاً أو أجيراً كادحاً، وابن العامل الفقير الذي يجهد يومه وكل همه تحصيل القوت، هل يستطيع إلا أن يكون فقيراً عاملاً؟
هناك بعض حالات استثنائية، لابن فلاح أو لابن عامل أسعفته الظروف، فأوصله جهده لشيء من تغيير شروط حياته أو تبديل وضعه الاجتماعي وحتى للإثراء والرفاه ولكنها تظل حالات استثنائية تناقض الوضع العام ولا تعبر عنه.
إن لذكاء الإنسان وجهده، الأثر الكبير في رسم خطوط حياته وفي توجيهه لكسب الرزق واختيار العمل ولكن مجتمعنا قد سد أكثر السبل في وجه ذكاء وإمكانيات الطبقات الفقيرة، فحرم الكثرة الكبيرة من أبناء الشعب حتى حرية التصرف بأنفسهم وبمصائرهم كما حرم الأمة من كثير من إمكانيات أبنائها التي تظل مكبوتة مجهولة.
عبودية الأرض والآلة:
ينشط ابن الشعب ويجهد ويعاني، ولكن للآخرين الأرض والمال. والمال يأتي بالمال ولو لم يكلف صاحبه نفسه إلا عناء عدّه. والأرض لمالكها وجل خيراتها له وليس للعامل فيها إلا الجزء اليسير من مواردها.
والفلاح العامل في الأرض ليس يملك شيئاً من هذه الأرض ومن حرية التصرف بخيراتها، تستعبده تلك الأرض فهو ملحق بها بل وآلة من الآلات التي تجعل الأرض خصبة ومنتجة للآخرين.
والعامل في المصنع عبد للآلة، ملحق بها، فهي ملك غيره ممن يستثمرونه مع الآلة. وهذا العامل أو ذاك الفلاح قد أضاع حريته وأضاع الكثير من إنسانيته، منذ أصبح شيئاً ملحقاً بالإنتاج. فللمالك من ماله وأرضه قوة لا يعدلها جهد الكادحين.
والمجتمع الرجعي تحصن بكل وسائل التضليل والخرافة؛ لينسى المظلومون نشأتهم الأولى (نشأة الحرية والإمكانيات المطلقة)، ولينسيهم روابطهم الإنسانية وكرامتهم وليوهم الفقير المستذل، بأن فقره ((مقسوم له)) كما أن الوجاهة والثروة ((مقسومة لغيره)). ولكن من الذي أوجد هذه القسمة؟
إنها لم تهبط من السماء، فالإنسان وحده هو الذي يظلم الإنسان ويستعبده ويحجز حريته.
إن الوضع الاجتماعي في بلادنا والحكم والسياسة وحتى التعليم والتوجيه كل ذلك يقوم على هذا النوع من التقسيم ومن التوزيع السيء الظالم الموجه لمصلحة فئة من المستثمرين وطبقة من أصحاب السيادة والسيطرة الاجتماعية. هو نظام رجعي كامل تستفيد من رجعيته وجموده أقلية من أصحاب الامتيازات الاجتماعات هي التي تحكم وتشرع وتسن القوانين لصالحها ولضمان استمرار نفوذها وسلطانها.
الاشتراكية تحرير للإنسان:
سنوات وسنوات مرت على هذا النظام كادت تنسي الإنسان المظلوم أسباب ظلمه وتأخره، حتى جعله يتصور بأن ليس بمقدوره أن يكون إلا ما هو عليه، وليرى الفوارق الطبقية والتمايز المادي والاجتماعي شيئاً طبيعياً في حياة الإنسان على هذه الأرض الجامدة، وان لا عدالة إلا في السماء.
ولكن نوراً من الوعي الإنسان يأتي اليوم ليفتح عينيه على حقيقة الصراع الاجتماعي، وتطوراً في فهمه للظروف الإنسانية وللتضامن الإنساني يفتح أمامه سبلاً للتمرد والعمل والنضال. انه ضعيف مقهور ولكن بإمكانه أن يصبح قوياً قادراً بضم جهود كل الضعفاء والمظلومين.
هذا هو الوجه الأول للاشتراكية إنها قضية قبل أن تكون فلسفة ونظرية، لم يبتكرها أحد ولم يخلقها عبقري، إنها من جهد الإنسان وعنائه ومن وعيه لظروفه الإنسانية وللاضطراب الاجتماعي وسوء التوزيع الاقتصادي وكل ما يحصره ويقيده ويتسبب بشقائه واضطهاده. هي مطلب في التحرر، تحرر الفلاح من عبودية الأرض والعامل من عبودية الآلة وتحرير كل مستعبد من قيود الظلم والخرافة والاستثمار.
فأول ما تعنيه الاشتراكية تحرير الإنسان، تحريره من الظروف الخارجية (عبودية الاقتصاد)، التي تقيده، وتحريره من العجز والاستسلام والكسل ومن كل أوهامه الداخلية، فهي تحرير كلي للإنسان الكلي.
النظام القائم غير إنساني، مادي يقوم على المصالح الخاصة وعلى الجشع والاستثمار، ويجب أن يهدم ويزول ليقوم مقامه نظام اشتراكي في تنظيم وتوزيع العمل والإنتاج وفي تنظيم المبادلة والاستهلاك. من كلٍ حسب طاقته وما هو أهل له، ولكل حسب كفاءته ونشاطه، ليقيم العدالة ليس فقط بين موارد الناس وفي توزيع الأعمال بل وفي حياة الإنسان وفي نفسه وأخلاقه، ينظم السلطة في المجتمع سياسياً وصناعياً وتربوياً حتى لا تنشأ أية عبودية جديدة أو تقييد في أي مجال.
الوجه النضالي للاشتراكية:
لا نريد هنا بحث نظرتنا الاشتراكية بل عرض وجهها البسيط المباشر، وهو الوجه الشعبي للاشتراكية وتعبيرها الأول وضمانتها الأساسية.. وهو وجهها النضالي: استنادها إلى القاعدة الشعبية وإلى نضال أبناء الطبقات الشعبية وتضامنهم لتكون دائماً تعبيراً عن مطاليبهم، فهي مستمدة من حاجات الشعب ويدعمها نضاله ووعيه.
وإن دور النظرية والفكرة في هذه المرحلة الأولى من الوعي الاشتراكي، هو إيقاظ هذا النضال وتقويته وإذكاؤه. وإذا كانت الاشتراكية تعني الوحدة والحرية وتضامن أبناء المجتمع وتعاونهم فهي لن تصل إلى غايتها إلا إذا بدأت من الانقسام والتفرق والتعارض بين أبناء المجتمع وطبقاته.
انقسام بين الظالمين والمظلومين، بين منقذين من إقطاعيين ومستثمرين ومتعلقين بالنظام الرجعي القائم، وبين أبناء الشعب من فلاحين وعمال ومثقفين ربطوا مصيرهم بمصير الشعب، انقسام له ثقله وكثافته المادية والطبقية، كما له حدوده الأخلاقية والفكرية، فهو انقسام بين عقليتين ونفسيتين، عقلية ونفسية مغلقة مرتبطتين بالنظام الرجعي القائم وعقلية انقلابية ونفسية منطلقة، كل أهدافها هي الثورة على هذا النظام وتغييره.
وإذا لم يكن كل مناضل فقيراً وكادحاً، فليس كل المظلومين يناضلون ضد الظلم أو يدركون أسباب ظلمهم وطريق تحررهم، وان مهمتنا أن نوقظ وعي الشعب على حقيقة هذا الانقسام وعلى تكوين هذا الخط الفاصل العميق بين الطبقة المتنفذة المسيطرة وبين الطبقات الشعبية العاملة.
ولكن الطبقة المسيطرة لم تعدم بعد كل وسائلها لمقاومة هذا التكتل الشعبي الواعي ضدها. فهي تحاول كبت هذا الانقسام وتغطيته بدعوات مصطنعة للوحدة والتضامن تحت شعار وحدة الأمة والكيان القومي. فالفئات المتنفذة لم تعد تجرؤ اليوم على التمادي في التضليل إلى حد اعتبار النظام القائم، نظاماً طبيعياً وسليماً، وكثيراً ما تدّعي ان مهمتها هي تبديله وتحقيق نوع من العدل، ولكن خداعها وتضليلها ينصرف اليوم إلى إلهاء الجمهور بحلول مصطنعة ووعود كاذبة، كلها تسير تحت شعار وحدة الصف القومي ووحدة كل الأمة أمام ما يتهددها من مخاطر.
الأمة تمثلها طبقاتها الشعبية:
إن أصحاب الامتيازات الاجتماعية من الأغنياء والمالكين والإقطاعيين والتنفيذيين من وجوه الأسر والعشائر كل هؤلاء قلة في أمتنا بعيدون عن روحها ووحدتها وتطورها، ولكنهم أعطوا أنفسهم حق تمثيلها فانحدرت الأمة وتجزأت وضلت وأحاق بها التأخر والاستعمار.
هذا صحيح ولكن الأمة بمجموع جهد أبنائها وبأعلى ما يصل إليه إنتاجهم وأخلاقهم وعبقريتهم. وقوميتنا العربية لتصبح قومية مفتوحة القلب لكل أبنائها لا بد أن تكون الجو الاجتماعي الذي يتمتع فيه كل إنسان بحريته وكرامته والذي يفسح له كل المجالات لتفتح إمكانيته وعبقريته ليعطي كل ما عنده وأغلى ما عنده.
وأصحاب الامتيازات أرادوا تحريف هذه الحقيقة القومية، فأضاعوها في فيض من العاطفة والعصبية والرجعية، قيدتها وسجنتها، وشتتوها قطعاً وأشلاء وحولوها إلى علاقات تجارية وأرباح استثمارية، فارتبطت مصالحهم بمصالح الآخرين الغرباء أكثر من ارتباطها بمصالح أبناء شعبهم.
لم يكن لابن الشعب يوماً رابط بأجنبي، والاستعمار لم يحمل له إلا الاذلال فوق الاذلال والشقاء فوق الشقاء. ولكن أولئك الذين أضاع التهالك على المادة والربح كل شعور إنساني وقومي سليم عندهم، وجدوا روابط وثيقة من المصالح تربطهم بالأجنبي وشركاته وحتى بجيوش الاحتلال كما وجدوا في حكم الرجعية والتجزئة موئلاً لهذه المصالح، ففقدوا هم أيضاً إنسانيتهم وأصبحوا عبيداً للمادة والربح والرفاه.
وإذا كانت هذه الخطوط العريضة التي يمكن أن نجد في غضونها الكثير من الاستثناءات والحالات الخاصة، هي التي ترسم صورة مجتمعنا الرجعي المتخلف الذي يسوده حكم مختلط من الاقطاعية والرأسمالية والعشائرية والرجعية فإن الخروج منه إلى المجتمع القومي الحر العادل، لا يتم عن طريق عفوي أو بالتطور الطبيعي وبتقدم العلوم والتعليم. الخروج منه لا لا يتم بمجرد أن نجمع على أنه سيء وغير عادل ولا بأن نتخيل الحلول وصور المجتمع الإنساني العادل فنضعها في حلول ونظريات. فأمام تكتل أصحاب المصالح وتكالبهم وتسخيرهم سلطة الدولة والنظام لحمايتهم وحماية مصالحهم، لا بد أن تتكتل جماهير الشعب، من الكادحين والمظلومين من العمال والفلاحين ومن كل الواعين المناضلين الذين لا يرتضون الحياة في مجمع ظالم متخلف، لا بد أن تتكتل هذه الكثرة الكبيرة من أبناء شعبنا، فلا سبيل لتبديل هذا المجتمع إلا بالنضال والانقلاب.
* نشرت في جريدة البعث الاسبوعية العدد 10 الجمعة 22/6/1956
التعليقات مغلقة.