ماجد كيالي *
ياسر عرفات رحل لكن قضيته وقضية فتح وقضية الفلسطينيين بقيت، فأهمية عرفات أنه السيد فلسطين وأهمية فتح أنها أكثر حركة تشبه شعبها وتعبر عنه لهذا منحها الشعب قيادته.
لم يختلف الفلسطينيون على شخص، ولم يتفقوا، بقدر ما حصل ذلك بخصوص ياسر عرفات، أو بحسب لقبه المحبب أبوعمّار، إذ شكل ذلك الشخص ظاهرة محيرة فعلا، فهو الذي كان وراء انطلاقة الكفاح المسلح الفلسطيني، ولكنه كان أيضا وراء البرنامج المرحلي، وفوق هذا وذاك فإن اتفاق أوسلو (1993) ما كان يمكن أن يمر على الفلسطينيين، ولا من أي شخص آخر، لولا أنه تغطى بكوفيته المرقطة، التي ترمز إلى كفاح الفلسطينيين العنيد والطويل.
أيضا، هذا الرجل خرج على النظام الرسمي العربي، وعلى مصادرة ذلك النظام للقرار الفلسطيني، ولكنه هو أيضا تعايش أو انضوى في إطار هذا النظام، في تماثل منظمة التحرير مع ما عرف بالشرعية العربية والدولية، وتكمن مقدرته أو حنكته الفطرية هنا، في قدرته على استثمار تناقضات أو تنافسات النظام العربي، وهي اللعبة التي أجادها أحيانا، وخسرها في أحيان أخرى، ما دفع الشعب الفلسطيني ثمنها غاليا.
الفكرة أن أبوعمّار نتاج الواقع الفلسطيني والعربي والدولي المعقد والصعب، فهو في آن واحد معا رمز الكفاح المسلح الفلسطيني، والقائد العام لقوات الثورة الفلسطينية، وهو أيضا رمز للمفاوضة والتسوية، فهو رئيس المنظمة ورئيس السلطة، لكنه إضافة إلى كل ما تقدم هو الذي انقض على اتفاق أوسلو، في مفاوضات كامب ديفيد 2 (2000) وفي احتضانه لكتائب الأقصى في الانتفاضة الثانية المسلحة (2000 – 2004). الفكرة أن أبوعمّار هو كل ذلك لذا من الضيم محاكمته بطريقة أحادية، يا أبيض يا أسود، فالواقع مركب ومعقد ولا يشتغل على هذا النحو.
رغم كل ذلك بقي ياسر عرفات، الذي لم يأت على ظهر دبابة، بمثابة الزعيم المتوّج من شعبه الموزع على كل بلدان الدنيا تقريبا، ومن دون أن تكون له أي سيادة عليه، ومن دون تقديم أي فرائض متوجبة عليه، سوى رفع راية فلسطين، كأن هذا الشعب الذي خرج من رحم النكبة وجد نفسه مجددا، كطائر الفينيق، بفضل تلك الشعلة التي أوقدها ياسر عرفات في مطلع العام 1965، وهو تاريخ انطلاقة حركة “فتح”، بحيث أضحى تاريخ الفلسطينيين، يؤرخ قبل تلك الانطلاقة وبعدها.
وفي الحقيقة فإن سر ياسر عرفات يكمن في عاديته، في أنه واحد من الفلسطينيين العاديين في جسمه المتواضع، ولحيته الكثة أغلب الأحيان، وملابسه التي تبدو لبست على عجل، وفي حطّته التي تحيل إلى التاريخ، وإلى قبة الصخرة، وفي لهجته الفلسطينية التي تخالطها المصرية. أيضا ففيه كل ما يحب وما لا يحب، في عنفوانه وانكساره، في قوته وضعفه، في نزاهته وتلاعباته، في إحباطاته وتخيلاته.
على ذلك فمن الطبيعي أن يبقى هذا الرجل مثارا للجدل بين الفلسطينيين، معه وضده، رغم أن كثرا ممن هم ضده لا ينكرون له مكانته في الزعامة والقيادة وتلك الرمزية الوطنية الكفاحية التي تجسّدت فيه.
الآن، في الذكرى الـ16 لرحيل ياسر عرفات، هل يمكن تقديم تقييم موضوعي للزعيم الفلسطيني الراحل، الذي قضى شهيدا، دافعا ثمن انطلاقة الكفاح المسلح، وثمن التحول من حركة تحرر وطني إلى سلطة؟
في الإجابة على هذا السؤال المعقّد، أعتقد أن الأمر بالغ الصعوبة، أو أنه من المبكر، إن بحكم استمرار الكيانات التي نهضت في ظل الرجل، أو بحكم أن مسيرته السياسية التي مازالت تطبع مشهد العمل الوطني الفلسطيني بطابعها. مع ذلك يمكن القول إن تلك المسيرة تبيّنت عن إنجازات، كما تبيّنت عن إخفاقات تنبغي رؤيتها كي يمكن التأسيس لتجاوزها.
والسؤال، لمحبي الزعيم الراحل، إذا كان ياسر عرفات لا يتحمل المسؤولية عن تلك الإخفاقات فمن الذي يتحمل إذا؟ في الغضون يفترض ألا ننسى، أيضا، أن ثمة “عرفاتيين” كثرا انقضوا على عرفات، وخاصة على إرثه النضالي، ولم يتمسكوا سوى بإرثه التفاوضي!
في المقابل فإن خصوم عرفات يختصرون الأمر في شخصه، وفي بعد أحادي معين، كأنهم يعتبرون أن مجرد مناهضة التسوية، ومعارضة اتفاق أوسلو تشفع لهم أو أنها تكفي لشهادة نضالية، في حين يحيلنا الواقع إلى حقيقة عجز وإفلاس وأفول مختلف الكيانات الفصائلية، ولاسيما الأكثر تشددا بالتشدق بالحديث عن الكفاح المسلح.
باختصار، رحل عرفات لكن قضيته وقضية فتح وقضية الفلسطينيين بقيت، وأهمية عرفات أنه السيد فلسطين، وأهمية فتح أنها أكثر حركة تشبه شعبها وتعبّر عنه، لهذا منحها شعبها قيادته.
وبخصوص حركة فتح، ففي هذا اليوم الذي يفتقد فيه الفلسطينيون زعيمهم الراحل، يفتقدون تلك الحركة (فتح) التي قادت الكفاح الوطني المعاصر، إذ هي، أيضا، لم تعد ذاتها. مفهوم أنه ليس ثمة ظاهرة تبقى على حالها، فحتى الحركات السياسية تدبّ فيها الشيخوخة، ويأخذ منها التعب، ويعشش في جسمها المرض، لكن الحركات السياسية الحية هي تلك التي تحرص على تجديد شبابها، ومراجعة طريقها وخياراتها السياسية، وتنفض الجمود والتكلس والعفن عن بناها وأجسامها، وهي تلك التي تستطيع أن تنقل الإلهام إلى شعبها، وأن تبقيه في الأمل.
روح “فتح” تلك، روح الشعب الفلسطيني، هي التي ينبغي استعادتها، ما يتطلب مراجعة نقدية مسؤولة، واستعادة فتح لطابعها كحركة تحرّر وطني، وكحركة وطنية تعددية متنوعة، تتأسس على معايير الكفاءة والروح النضالية والتمثيل وفق المعايير الديمقراطية التمثيلية، والانتهاء من الانحصار في خيار سياسي واحد، وتوليد رؤية سياسية تكفل المطابقة بين قضية فلسطين وشعب فلسطين وأرض فلسطين، في مشروع وطني يتأسس على الواقع والمستقبل، وعلى الممكن والمتخيل، وعلى الحقيقة والعدالة.
* كاتب سياسي فلسطيني
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.