عبدالوهاب بدرخان *
قبل يومين من مؤتمر اللاجئين في دمشق، فرضت واشنطن عقوبات جديدة على كيانات وأفراد في إطار إجراءاتها لقطع التمويل عن نظام بشار الأسد. وكان “التمويل”، تحديداً، هو الهدف من ذلك المؤتمر الذي سعت إليه روسيا، واستغرق النظام وقتاً حتى اقتنع باستضافته. في البداية، خشي الأسد أن تكون موسكو في صدد تنازلٍ ما للدول الغربية لإحراجه والضغط عليه ليتنازل بدوره في شروط الحل السياسي، لذا تلكّأ في التعامل مع الفكرة، الى حدّ أن موسكو درست احتمال نقل المؤتمر الى سوتشي أو نور سلطان (استانا سابقاً). لكن الاتصال الفيديوي بينه وبين الرئيس فلاديمير بوتين طمأنه أولاً الى أن روسيا لا تزال مصممة على رفض “الانتقال السياسي” بدليل تأييدها “انتخابات” 2021 لإبقائه رئيساً، وثانياً الى أن الطرف الذي تريد روسيا إحراجه والضغط عليه هو الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكلّ الدول التي تلتزم ربط عودة اللاجئين وإعادة الإعمار بالحل السياسي.
فجأة صار الأسد يقول إن عودة اللاجئين “أولوية” بالنسبة إليه، هو الذي بدأ منذ تشرين الثاني (نوفمبر) 2016 يعلن “انتصاره”، مؤكّداً أن “المجتمع السوري بات الآن أكثر انسجاماً”، ثم كرّر ذلك مرات عدة، مستنداً الى أنه وحليفيه الروسي والإيراني أجروا أكبر عملية تطهير ديموغرافي، بدءاً بمليون سوري على الأقلّ بين قتيل ومفقود ومعوّق، ثم بنصف الشعب بين مهجّرين في الداخل ولاجئين في الخارج وقد دُمّرت مناطقهم وبيوتهم ونُهبت أملاكهم، بل أُصدرت “فرمانات” زكّاها ما يسمى “مجلس الشعب” لـ”شرعنة” سرقة “أملاك الغائبين” على الطريقة الإسرائيلية.
في الأثناء، كانت الحلقة الضيّقة للنظام قد توصّلت، كالعادة، الى تحليلها “المريح”: هذا المؤتمر يعيد “سوريا – الأسد” الى الخريطة الدولية ولا يكلّفها شيئاً، إنه مجرّد فعالية دعائية، ويكفي حضور روسيا والصين وإيران والبرازيل (وكلّها دول استقبلت صفر لاجئين) لإعطائه طابعاً دولياً مهمّاً. ثم إن “عودة اللاجئين” كذبة لا يصدّقها أحد، لا اللاجئون أنفسهم ولا حتى روسيا التي تعرف جيداً واقع الحال وحجم الأزمة المعيشية في سوريا، فأي لاجئ يعود طوعاً من تركيا أو الأردن أو حتى من لبنان (حيث يتلقّى مساعدة في حاجاته كافةً) فقط لأنه موعود بـ”رعاية الأسد” ومدعو الى الاصطفاف في طوابير المقيمين الساعين بمشقّة الى الخبز والدواء والوقود… ومع افتراض أن “دولة ممانعة”، لبنان مثلاً، يمكن أن ترغم لاجئين على المغادرة فإن هؤلاء سيفقدون المساعدة بمجرد حذفهم من لوائح الأمم المتحدة، إلا إذا وافقت الدول المانحة على تمويل عودتهم ومعيشتهم داخل سوريا. وهذا نقاش طويل وعقيم خاضه الروس والنظام مع تلك الدول حول ظروف العودة وشروطها، وبالأخص في شأن التمويل أو حتى المساعدات العينية التي اعتاد النظام على التحكّم الفئوي بتوزيعها أو مصادرتها لإعادة بيعها.
يصعب إحصاء الكمّ الهائل من الأكاذيب التي نطق بها الأسد وممثلا روسيا وإيران في افتتاح المؤتمر. فمن يسمعهم يلهجون بالاعتبارات “الإنسانية” سيظن أن الدول المضيفة للاجئين هي التي طردتهم من حمص وحماة وحلب والغوطة وغيرها. فعلى سبيل المثال، تبرّأ رئيس النظام من أي مسؤولية عن مشكلة اللاجئين ليلقيها على الولايات المتحدة وعقوباتها، على تركيا وتدخلاتها، وعلى الإرهاب الذي صنعته القوى الغربية وترعاه، كما تردّد رواية النظام وإيران.
وفي الكلمة التي ألقيت بالنيابة عنه، يتّهم سيرغي لافروف الدول المضيفة بـ”تسييس” قضية اللاجئين، بل يحمّلها “مسؤولية” معاناة ملايين السوريين الذين “أجبروا” على مغادرة وطنهم، متجاهلاً أن روسيا ساهمت في إجبارهم، لكنه يريد اليوم إعادتهم “من خلال الاحترام لسيادة سوريا ووحدة أراضيها”، ما يمكن أن يُترجم بإعادتهم خاضعين لنظام الأسد. أما ممثل إيران علي أصغر خاجي فبدا كأنه مندوب السويد، وتضمّنت كلمته تقريعاً للمجتمع الدولي ولـ”بعض الدول التي تعرقل عودة اللاجئين لأسباب سياسية”، باعتبار أن إيران اقتلعتهم من مواطنهم لأسباب “إنسانية”.
هذا الكمّ من النفاق كان يغطّي حقيقة واحدة جليّة: النظام السوري مفلس ويواجه حالياً خطر الانهيار بسبب الأزمة الاقتصادية وانهيار العملة، وبالتالي فلا مصلحة له ولحلفائه في عودة اللاجئين ويستخدمونها ورقة مساومة في مواجهة استحقاقات الحل السياسي… لكن هاشتاغ “العودة_تبدأ_برحيل_الأسد” حمل الردّ الواضح عليهم.
لم يخلُ من طرافة سوداء اقتراح إيران، بحالها المالية الراهنة، إنشاء “صندوق لإعادة إعمار سوريا”، لكنه شكّل صدىً لما تفكر فيه روسيا. إذ تقول مصادر إن موسكو تريد الالتفاف على الشروط الأميركية والأوروبية بطرح إنشاء صندوقين دوليين: واحد لعودة اللاجئين، وآخر لإعادة الإعمار. الأول يخصص لتقديم مغريات للعودة، منها مثلاً أن تبني شركات روسية صغيرة مساكن جاهزة لاستقبال لاجئين دُمّرت بيوتهم ويقيمون حالياً في مخيمات في دول الجوار. والثاني تودع فيه الأموال لتكون جاهزة لإعادة الإعمار مع قرب نضوج الحل السياسي. لكن ثمة مجهولَين: كيف يموّل الصندوقان في ظل العقوبات والضغوط الأميركية، وعن أي حلّ سياسي تتحدّث موسكو ما دامت متمسّكة بالأسد؟
تواصل روسيا الإيحاء بأن الأزمة السورية انتهت ويُفترض الآن معالجة ذيولها، لكنها في الواقع تعاني مشكلتين: الأولى إفلاس “دولة النظام” ومخاطر انهيارها المحتمل، وعدم جدوى الاستثمارات التي حصلت عليها في سوريا. أي أنها تبحث، من جهة، عن أموال لإنعاش النظام، وهذا ما يفسّر اهتمامها بعودة اللاجئين، ومن، جهة ثانية، عن أموال لإعادة الإعمار لتكون تمويلاً غير مباشر لاحتلالها لسوريا، إذ اعتقدت دائماً أن المجتمع الدولي يدين لها بـ”إنقاذه” من الإرهاب ووقف موجات اللجوء. لذلك ترى مراجع دبلوماسية أن موسكو أصرّت على عقد مؤتمر دمشق لتتمكن من المحاججة لاحقاً بأن عدم دعم الدول الغربية لعودة اللاجئين لا يمكن أن يُقابل بدعم روسي لإطلاق المعتقلين من سجون الأسد، وعدم دعمها لإعادة الإعمار لا يمكن أن يُقابل يدعم روسي للجنة الدستورية إذا كان هدفها “الانتقال السياسي”، أي رحيل الأسد.
بمعزل عن القوى الغربية، هناك واقع لم تستطع روسيا معالجته. ألم يقل بوتين للأسد إن عودة أي سوري مرهونة بالخطوات التي “تتخذونها أنتم والقيادة السورية لتنظيم الحياة السلمية”؟ لا بدّ من أن الرئيس الروسي يعرف أن تجربة “مناطق المصالحات” التي رعتها قاعدة حميميم فشلت، ودرعا أبرز مثال يمكن أن يتكرر ما دامت العقلية الأسدية هي الحاكمة. أما “العراقيل” الغربية فقد فنّدها وزير خارجية الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل بـ”العقبات والتهديدات” التي تمنع العودة الطوعية للاجئين، ومنها “التجنيد الإجباري والاعتقال العشوائي والاختفاء القسري والتعذيب والعنف الجسدي والجنسي والتمييز للحصول على مسكن وأرض وملكية ورداءة أو غياب الخدمات الأساسية”… هذه كلّها عراقيل أسدية وليست أميركية أو أوروبية.
* كاتب صحفي ومحلل سياسي لبناني
المصدر: النهار العربي
التعليقات مغلقة.