علي محمد فخرو *
أكثر ما يقلق في هذه اللحظة هو أن ينجح أعداء الخارج وانتهازيو وجهلة الداخل في الاستفادة من تطورات وتعقيدات الأوضاع العربية الحالية المؤلمة، وتطوراتها المتلاحقة نحو التمزق، والخروج على الثوابت القومية، لدفع الناس للدخول في خلافات ومشاحنات ومماحكات، انتصارا لهذا الموقف أو ذاك، أو رفضا لهذا القرار أو ذاك.
ولا يستطيع الإنسان أن يفهم كيف يسمح الناس في بلاد العرب لأنفسهم أن يساقوا كالنعاج في خلافات عبثية في ما بينهم، عند اتخاذ هذا المسؤول العربي، أو ذاك قرارا خلافيا يمس قضايا وطنية أو قومية كبرى، من دون أن يطرحوا على أنفسهم هذا السؤال المحوري: هل استشارهم أحد قبل اتخاذ القرارات، سواء كانوا أفرادا أم شعبا أم مؤسسات مجتمع مدني، أم أنهم اعتبروا رعايا عليهم القبول السلبي، لما يقرره ولي الأمر؟ فإذا كان وجودهم السياسي والدستوري والقانوني والتشريعي في بلاد العرب، قد قلص إلى حدود التهميش والإقصاء، فهل أن صراعاتهم العبثية مع هذا الفرد، أو تلك الجبهة، التي تخالفهم الرأي سيأخذها المتربعون على عرش القرار بعين الاعتبار، ويجرون مراجعة للقرارات التي أخذت؟
دعنا نكون صادقين مع النفس، مهما يكون ذلك مؤلما ومذلا، ونسأل: هل كان للشعوب العربية ومؤسسات المجتمعات العربية، أي قول سواء بالقبول أو الرفض لكل القرارات الكبرى المفصلية، وعلى رأسها قرار الدخول في مهزلة أوسلو الشهيرة، التي اتخذتها سائر أنظمة السلطة في كل الأقطار العربية، منذ الاستقلال وإلى يومنا هذا؟ وهل أن مواقف الحكومات، التي لها تبعات والتزامات، في مؤسسات من مثل الجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، أو مجالس التعاون المناطقية، أو هيئة الأمم، قد نوقشت مع مؤسسات المجتمع المدني المعنية بتبعات تلك المواقف؟
إذن لنوقف مهرجانات الهرج والمرج، التي نقرأها أو نسمعها أو نشاهدها، بالنسبة للقضايا القومية الكبرى على الأخص، إذ تجري في ما بين أناس لا حول لهم ولا طوّل. ولنوقف على الأخص الاستعمال الانتهازي للدين، سواء من خلال ليّ أقوال النبي (صلى الله عليه وسلم) وإلباس مواقفه الدينية والدنيوية مقاصد لم تكن فيها، أو من خلال تفسيرات وقراءات كاذبة وبليدة للقرآن الكريم، من أجل دعم مواقفهم السياسية البائسة. كما لنتعفف عن اتهام الآخرين بالخيانة، أو عدم الولاء والاحترام، إذا ما اختلفوا مع متخذي القرارات واعتبروها خاطئة. ففي السياسة لا يوجد قرار مقدس، ولا يوجد تصريح فوق النقد، والفرق شاسع بين احترام المسؤول وتقديره، والاتفاق معه حول هذه السياسة أو تلك.
لنأخذ مثالا لشرح ما نقصد، وهو موضوع الساعة، في هذه اللحظة، ونعني به الصراع العربي الصهيوني الوجودي، الذي ران على الحياة العربية، عبر الوطن العربي كله، طيلة العقود السبعة الماضية. ولنركز على مناقشة لب الموضوع، وليس حواشيه، أو الأقنعة التي يختفي وراءها، وذلك بالشكل العقلاني الواقعي التالي:
لو أن أيادي كل من في العالم صافحت يد سارق بحرارة ومودة، فهل هذا يجعل منه إنسانا شريفا وغير سارق؟ وإذن فإن السارق الصهيوني الذي سرق الأرض العربية الفلسطينية من أهلها، وأخرجهم منها إلى المنافي ومعسكرات الملاجئ البائسة، ولا يزال يمعن في سرقة المزيد، لن تزول عنه صفة السارق حتى لو سامحه كل الكون، وذلك إلى حين إرجاع الأرض التي سرقها إلى أهلها وعودة أهلها إليها. ولو أن كل أيادي من في هذا العالم امتدت إلى مجرم قتل الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، فهل ستستطيع تلك الأيادي غسل وتطهير يده الملوثة بدماء ضحاياه التي تقطر من بين أصابعه؟ إذن فقادة الكيان الصهيوني الذين اتخذوا قرارات القتل المافياوي، والولوغ في دماء أطفال وشيوخ ونساء وشباب فلسطين الأبرياء، سيظلون قتلة مجرمين حتى لو جالسهم وابتسم في وجوههم سكان العالم كله، وهنأهم الرئيس الأمريكي بحرارة الدجل النرجسية الصهيونية الأمريكية الشهيرة.
ولو أن أيادي العالم كله حيّت الذين يهدمون بيوت العائلات الفلسطينية أمام بكاء أطفالها الهلعين ولطم رؤوس نسائها المفجوعات، وصافحت يد من يقتلعون أشجار الزيتون، التي زرعها آباء وأجداد أجداد الفلسطينيين، وصافحت يد الذين وضعوا الألوف من أبناء فلسطين المناضلين في السجون، بمحاكمات صورية، وصافحت يد من يحاصر شعب غزة ويجوّع أطفالها، ويمنع الكهرباء عن مستشفياتها، ويدك بيوتها ومؤسساتها المتواضعة، بجحيم آلته العسكرية.. لو تمت تلك المصافحات فهل يغير ذلك، أو يخفف الطبيعة الاستعمارية الاستئصالية الاستيطانية للكيان الصهيوني في فلسطين المحتلة؟
لب الموضوع هو هذه التفاصيل الإجرامية، وذلك التاريخ البائس للمسيرة الصهيونية في فلسطين وسائر أرض العرب المحتلة أو المخترقة. أما الأحاديث المتداولة حول أهمية السلام بين البشر، وتعايش الديانات وحسن النوايا بين الشعوب وتلاقح الثقافات، وهي أقوال لا يرفضها عاقل، فإنها جميعها تدور حول أطراف الموضوع المركزي. وهي لن ترفع ذرة ظلم عن كاهل الشعب الفلسطيني الشقيق، إلا بعد مواجهة لب الموضوع، الذي ذكرنا بعضا من تفاصيله. عند ذاك سيكون هناك مكان لكل تلك الشعارات الجميلة، وستكون جزءا من الحل الحقيقي. ولا يوجد إلا حل عادل إنساني واحد: دولة فلسطينية ديمقراطية واحدة، يتعايش فيها بسلام حقيقي غير مزيف وديمقراطية ومساواة، العرب المسلمون والمسيحيون واليهود.
هذا الحل الصعب، ولكن العادل الدائم، سيحتاج إلى انعطافات جديدة كبرى وتضيحات نضالية مستمرة في ساحتين: تنظيم وتثوير وصمود الشعب العربي الفلسطيني، بالتوازي مع انخراط صلب على جميع المستويات، وبأشكال نضالية كثيرة، مادية ومعنوية، من قبل قوى ومؤسسات وجماهير المجتمعات العربية المدنية.
ما يجب أن لا يموت فينا هو، إرادة الضمائر الحية والمشاعر الإنسانية الأخلاقية، والالتزام القومي العروبي، والتلاحم التحريري الثوري الجماهيري. عند ذاك ستكون مواجهة لب الموضوع مواجهة عملية ممكنة، ومن ثم السلام العادل الإنساني الذي لا يرفضه أحد، وسيرحب به الشعب الفلسطيني والعربي بأجمعه.
* كاتب بحريني
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.