رامي أبو شهاب *
■ ينطوي كتاب «فلسفة التنوير» للباحث والأكاديمي الألماني إرنست كاسيرر، على قيمة علمية وحضارية شديدة الأهمية، ولعل هذا الحكم يكاد ينسحب على الكثير من الكتب التي تترجم إلى اللغة العربية، غير أن كتاب فلسفة التنوير بدا مميزاً بترجمته التي وضعها إبراهيم أبو هشهش أستاذ الأدب في جامعة بير زيت، حيث بدت على قدر كبير من الإتقان، وهنا لا أعني القدرة على الوفاء بمتطلبات الصيغة النصية لترجمة الأفكار الكامنة في النص الألماني وحسب، إنما أعني القدرة على تمكين الإضافة النوعية لفعل تلقي القارئ العربي لهذا الكتاب باللغة العربية، التي جاءت على قدر كبير من الوضوح والجلاء، فمن النادر جداً أن نواجه كتاباً مترجماً إلى العربية بدون أن نعاني من الغموض والتعقيد، نظرا لافتقار المُترجِم للمهارات التي تمكنه من ممارسة فعل الترجمة الذي يتطلب معرفة معمقة باللغة المترجم منها، بالتوازي مع قدرة على توفير البديل اللغوي القادر على تمثّل المقاصد والدلالات، كما السّياقات بصورة واضحة، متجاوزاً التعقيد الناتج عن محاولة استجلاب المعنى، والفضاء الثقافي للنص.
يُشار إلى أن الكتاب صدر عن المركز العربي للأبحاث والدراسات، وقد حاز مؤخرا على جائزة حمد بن خليفة للترجمة عن الألمانية في الدوحة 2018. لقد استطاع إبراهيم أبو هشهش في ترجمته أن يضيف إلى الثقافة العربية كتاباً مركزياً، لاسيما من حيث رفد الفعل الثقافي المُتعثر عربياً، فثمة من يرى أن تحقيق النهضة، وما يتبعها من تنوير لم يتمكنا من الاكتمال عربياً، وبوجه خاص على صعيد الممارسة، بل على العكس من ذلك، فثمة نكوص حضاري لافت، وهذا ما يجعل من كافة أدبيات النهضة والتنوير ذات قيمة مضاعفة، كونها تسهم في تقديم تصورات لهذا النهج عبر توصيف الاختلالات الحضارية، وهذا ما يمكن أن نتلمسه بوضوح في هذا الكتاب الذي يسعى إلى توفير رؤية جدلية، لاسيما من وجهة نظر فلسفية، بالتجاور مع نزعة تميل إلى اكتناه تأريخ أفكار التنوير، ضمن منهجية واضحة تقوم على التحليل المعمّق.
ينطلق الكتاب من فكرة قوامها أن التنوير ليس خطاباً معرفياً أو تراكميا وحسب، إنما هو فعل من أفعال التطور الحتمي لأي نموذج معرفي يخضع لفلسفة تحمل بين طياتها في بعض الأحيان شيئاً من القطيعة مع الحصيلة المعرفية السابقة، أو في بعض الأحيان التي تنشأ معها، إذ يجب أن تضيف إليها، كما تعتمد عليها، وتؤسس لها، ولكن ضمن مستويات مختلفة، وهذا ما يمكن أن نلمحه في محاولة كاسيرر، الذي يختبر مفهوم التنوير في سياق بعض الإضافات التي جاءت من لدن علماء وفلاسفة، بغية وضع تصور لتاريخ الأفكار وفلسفة التنوير، التي انطلقت مع القرن الثامن عشر.
ينهض الكتاب على جهد علمي واضح، حيث عُني الباحث الألماني بمحاولة البحث في مفاصل فعل التنوير، في العديد من الحقول التي تتصل بالمعرفة والطبيعة، وعلم النفس والدين والقانون، والدولة والمجتمع، وعلم الجمال والأدب، متوقفاً عند المفاصل الدقيقة لفعل التنوير في مواجهة الاستيهامات والأفكار التي شاعت في القرون السابقة، ولا سيما في عصر النهضة، وما قبله، بالتوازي مع صيغ التعديل التي اقترحها علماء القرن الثامن عشر، بغية التخفف من طرائق التفكير التقليدية، أو المحدودة الأفق في ما يتعلق بالأفكار، وتصور العالم أو الكون.
يمكن تحديد بعض الملامح العامة للجهد الذي قام به الباحث الألماني، من خلال ملاحظة توسله للمنظور الذي يرى من خلاله التنوير، فعلى الرغم من الانتقادات التي وجهت للتنوير من لدن العديد من المفكرين المعاصرين، ولاسيما ماكس هوركهايمر وتيودور أدورنو في كتابهما «جدل التنوير» 1944، غير أن كاسيرر بدا لنا معنيّاً في المقام الأول بوضع خطاطة معرفية، أو خريطة لتكون الأفكار، وتحولها من حيث الجدلية التي حكمت هذه العملية، وبوجه خاص مغادرة بعض الممارسات المعرفية التقليدية، بالتوازي مع تبني ممارسات منهجية أو معرفية جديدة بالكلية. ففي القرون الأولى للنهضة، تم إذكاء النزعة التي تنهج نحو مركزية العقل تأثراً بمكتسبات عصر النهضة، غير أن هذا شهد فعل تغير في آلية البحث، من حيث تخليها عن بعض المواضعات السابقة القائمة على الاستنتاج والاستنباط، نحو المزيد من التحليل العقلي الذي شكل إضافة نوعية في مجال الأفكار، وهنا يعمد الباحث إلى الانطلاق من الظواهر لا من القيم الاصطلاحية المنجزة، مع مجاوزة الفعل الوصفي إلى المزيد من المناهج المتداخلة القائمة على التحليل والتركيب، وهنا لا بد من التنبه إلى مقولة مهمة وردت في متن الكتاب، وشكلت – من وجهة نظري- رسالة شديدة الأهمية للأمم التي لم تتمكن إلى الآن من تحقيق فعل التنوير أو اكتماله، وتتمثل بأن العقل ليس جملة معارف إنما هو طاقة، في حين اتخذت علوم الرياضيات قيمة مضاعفة نظراً لحيويتها، وأهميتها القائمة على توليد الطاقة المعرفية. وهذا أسهم في تمكين فعل الظاهرة على حساب المبادئ الجامدة، أو التي بدت لنا غير قادرة على أحداث تحول حقيقي في التطور الذي بدا حتمياً.
يناقش الكتاب جملة من الأفكار في سبيل حل التنازع الأكبر الذي يتمثل بالصراع بين الإيمان والعلم، نتيجة الماضي الذي ألقى ظلاله على التوجس من هيمنة التفسيرات الغيبية، والاحتكار المعرفي الذي مارسته الكنيسة في أوروبا لقرون خلت، غير أن فعل التنوير بدا في بعض نزعاته ساعياً إلى إحداث القطيعة، غير أن ثمة العديد من رواد التنوير الذين سعوا إلى الإبقاء على الروح الدينية، أو محاولة الموافقة بينها، وبين النزعات العلمية، أو التي تلك التي تدعو إلى القطيعة النهائية، وهنا نستعين بتلك المحاولات التي سعت إلى تقليل الأثر، أو التفسير الفوقي للنص الديني، كما دشنها سبينوزا الذي شكلت أعماله وبخاصة «رسالة في اللاهوت والسياسة» إحدى مقدمات خض أركان التعامل مع القيم النصية اللاهوتية، وهنا لا بد أن نستعيد مسوغات تأليف هذا الكتاب، وهي تتمثل بالنقاش الذي نشأ بين كاسيرر وهايدغر حول مهمة الفلسفة، ونعني السؤال الجوهري حول وظيفة الفلسفة… فهل هي معنيّة بتحرير الإنسان من مخاوفه الوجودية؟ أم بنقل هذه المخاوف إليه على نحو راديكالي كما جاء في الكتاب؟
إجابة عن السؤال السابق يرى كاسيرر أن مهمة الفلسفة أن تحرر الإنسان – على الرغم من الإقرار بصعوبة ذلك – غير أن ثمة قيمة أكثر تأثيراً، وهي ما نراه يستعاد في الكتاب – غير مرة- بوصفه حالة من حالات التنوير، أو يمكن القول بأنه إحدى السّمات التي نتجت بفعل التنوير، ومن خلاله، ويعني بها كاسيرر قيمة (التأمل) حيث ينبغي لنا التخلص من الخوف، عبر إدراك ما نواجهه في ظل المتعاليات التي يمكن أن تحدّ من قدرات الإنسان. وهذا ربما ما نفتقده في الممارسة التي دأب العقل العربي على انتهاجها لعقود، فهو بدا مشدوداً إلى مجال من الرفض للتأمل، خوفاَ من خرق بعض المتعاليات، حيث لم يمكّن إلى الآن من التوفيق بين الموروث، بما في ذلك الخطابات الدينية والممارسات العقلية التي يمكن أن تنتج طاقة تقود إلى التطور، والازدهار، أو إلى الحرية بمعناها الفلسفي العميق، وهنا يهدف كاسيرر إلى التأكيد على دور كانط بوصفه فيلسوف التنوير الذي كان مؤمناً بأن العقل ليس مستودعاً للمعارف، إذ كان يصرّ على ما أسلفنا الحديث عنه، من حيث التأكيد على الطاقة العقلية أو القوة التي لا يمكن أن ندرك تأثيرها إلا عند ممارستها.
من أبرز الأفكار التي يأتي عليها كاسيرر التأكيد على قيمة الإدراك في أفق القرن الثامن عشر، ونعني تجاوز الموروث الكلاسيكي القائم على أن رؤية العالم أو الكون على شكل ثابت ينبغي إخضاعه، بينما هو متسع، ولا نهائي، وهكذا بتنا أكثر قرباً من تحقيق القفزة الكبرى، أو الانتقال من فلسفة النهضة الطبيعية إلى العلم الطبيعي الرياضي.
ينبغي لنا أن نذكر أن من أبرز القضايا التي يقدمها الكتاب طرحه لتوجهات خاصة بالمعرفة وارتباطها بالطبيعة، ولكن الأهم أن الأسئلة المعرفية الخاصة بالطبيعة لا يمكن طرحها بدون أن نذهب إلى تأمل الفعل المعرفي عينه، وهذا ما يمكن أن نحيله بشكل أساسي إلى كانط مرة أخرى، ولعل هذا الإدراك للفعل التأملي للمعرفة، ومحاولة اكتناه تكوينها وآلية عملها، قد أسهم في تمكين المنظور المعرفي القادر على تأمل ذاته بشكل مستمر.
وفي محور آخر يعالج كاسيرر الدين، وبخاصة الآراء التي تبلورت من أجل مواجهة التصور الديني المهيمن، ولا سيما من لدن فولتير، وغيره. لقد عرض فولتير جملة من الانتقادات الواسعة الطيف للقوى التي تحول دون إطلاق طاقات العقل، غير أن كاسيرر يرى أن جهود بعض الفلاسفة والعلماء لم تكن موجهة ضد الدين حقيقة، إنما للسلطة التي تمثلها الكنيسة، ولعل هذا يعدّ من أبرز الأفكار التي يمكن أن تحدث تحولاً في تمكين الفعل التنويري إذا ما تم إدراك التمييز بين الدين والسلطات التي تحاول أن تفسره، أو أن تقوم بتمثيله. فهذه السلطات تحتكر النشاط الذهني الفاعل، وتوجهه حسب مصالحها الخاصة، وهذا ما ينسحب على التنوير العربي الذي واجه الكثير من العوائق نتيجة هذا التصور للدين، بالتوازي مع الإرث الاستعماري، وفساد النخب الوطنية الناشئة بعد الاستقلال.
في محاور أخيرة يكمل الكتاب اكتناه التنوير، وأثره من حيث التحولات التي أحدثها على القانون، والدولة والمجتمع، وعلم الجمال، وفيه يرى أن التنوير ليس عملية هدم للموروث، إنما هو فعل إعادة إعمار، وهذا ما يجعل من المفهوم أكثر وضوحاً في مواجهة التصورات التي تنادي بالبتر مع المنجزات القديمة، ولا سيما مع إطلاق ديكارت لطاقة العقل وتحريره، ومن ذلك العودة إلى مفهوم (الحق) انطلاقاً من التصورات القديمة لأفلاطون، ومناقشتها لثنائية الحق والسلطة. وفي محور آخر نقرأ تداخلاً يتعلق بالتنوير والنقد، وذلك التقارب بين الفلسفة والنقد في العصور الحديثة، وهذا ما ينقلنا إلى مفهوم الفن، وعلم الجمال، وما يمكن أن يحدثه إدماج العقل في الممارسة المعرفية من أجل تحقيق تمثلات جديدة لهذه المباحث؛ أي أن نقترب بها من المبدأ المنهجي المتخفف من العشوائية في الحكم بالإعجاب أو الرفض للعمل الفني، بعبارة أخرى أن نؤسس منظومة ثابتة من الاحتكام المعرفي القائم على العقل، بالتوازي مع التخلص من المقاربة المنهجية القديمة القائمة على الاستنباط، في ما يتعلق بعلم الجمال، مع التشديد على الانطلاق من الظواهر لا من مبادئ متعالية منجزة، كما الاستئناس بعلم النفس، ولنكن موجزين يمكن القول السعي للبحث عن نماذج عقلية واضحة، كما تجلت على يد الفيلسوف الألماني باومغارتن الذي يعدّ مؤسس علم الجمال المنهجي الذي تميز بنزعته التحليلية العميقة القائمة على العقل أو المنطق.
وختاماً لا يمكن أن ننكر بأي صورة من الصور أهمية هذا الكتاب، بما حمله متنه من أدبيات التنوير التي جاءت في ترجمة شديدة النضج، والتميز على مستوى التركيب والدلالة والصيغ.
٭ كاتب أردني فلسطيني
المصدر: القدس العربي
التعليقات مغلقة.