سمير العيطة *
مسألة عودة اللاجئين السوريين إلى ديارهم قضيّة إشكاليّة شائكة. لا تخفى تحدّياتها المحليّة والدوليّة على الإدارتين الروسيّة والصينيّة. لماذا إذا أصرّ الرئيس الروسي بوتين على عقد مؤتمرٍ يخصّ هذه القضيّة في دمشق؟ وفى هذا الأوان بالذات، مع علمه الأكيد أنّ مشهد المؤتمر سيبدو باهتا، بل مدعاةً للسخرية من قبل الكثيرين.
صحيحٌ أنّ وتيرة الحرب والضحايا قد خفّت كثيرا، إلاّ أنّه لا يُمكن الحديث عن أمان في بلدٍ تشرذم واقعيّا إلى ثلاث مناطق متباعدة ذهنيّا وفى السياسات المهيمنة عليها. هذه المناطق الثلاث تشهد يوميا عمليّات قتل واعتقال، يعود جزءٌ منها إلى الضائقة التي أفلتت عقال السلاح على حساب الاقتصاد وسبل العيش. ويُمكن حتّى التساؤل: لماذا لم يعُد لاجئو ونازحو منطقة الشمال الشرقي إلى ديارهم، وهي الأقلّ ضائقةً معيشيّا و«تتمتع» بالوصاية الأمريكيّة؟ وكذلك هو الأمر بالنسبة لمناطق درع الفرات الواقعة تحت الوصاية التركيّة أو حوران التي أجريَت «المصالحة» فيها؟
الأوضاع المعيشيّة سيّئة للغاية في كلّ سوريا، بكلّ أصقاعها وحتّى سيّئة للغاية مقارنةً مع أسوأ أيّام القتال، نتيجة الأزمة المالية والاقتصاديّة في لبنان.. وبسبب الاضطرابات الاقتصاديّة اليوم في تركيا. أضِف لذلك تداعيات وباء كوفيد 19. وتعيش كلّ أنحاء البلاد أوضاع تضخّم متسارِع hyperinflation لا يكبحه التحوّل للتعامل بالليرة التركية هنا وبالدولار الأمريكي هناك. ولا يلوح أفق تحسُّن الأمور، بل تزايد انتشار الفقر المدقع والعوز.
وربّما تكمُنُ هنا إحدى رسائل بوتين إلى الولايات المتحدة وأوروبا. فكم ستبقى قادرة على تحمّل نفقات مساعدة السوريين وزيادتها، لأولئك المقيمين والنازحين واللاجئين إلى دول الجوار في ظّل أزماتها هي أيضا؟ ومتى ستنتقل من المساعدات الإنسانيّة المعيشية الراهنة إلى مساعدات الاستدامة، أي إعادة بناء البنى التحتيّة والحياة الاقتصاديّة؟ وهل ستتحمّل مسئوليّة كارثة معيشيّة أكبر من تلك التي نشهدها اليوم؟
***
الإجابة على هذه الأسئلة تهمّ لبنان أكثر من غيره، وهذا ما يفسِّر حضوره مؤتمر دمشق. إنّ اللاجئين السوريين يعدّون ثلث سكّانه وتبدو البلاد ذاهبةً إلى تدهورٍ اقتصاديّ أكبر، فكيف يُمكن مساعدة لاجئيه دون مساعدة مواطنيه، والعكس بالعكس. وهذا ما تبرز ملامحه واضحة بعد تعثّر المبادرة الفرنسيّة. ليس فقط أنّ كون لا مستقبل اقتصاديا للبنان دون تعاونٍ مع سوريا، بل إنّ تفجّر الأوضاع الاجتماعيّة والأمنيّة في لبنان قد يؤدّى إلى طرد اللاجئين منه. وهذا تحدٍّ آخر يضعه بوتين عبر المؤتمر على طاولة «الغرب».
الأمر مختلف بالنسبة للأردن الذى شغّل اللاجئين السوريين في الزراعة كي ينافسوا أقرباءهم الباقين في سوريا، وكذلك بالنسبة لمصر التي لم تقبل سوى الميسورين حالاً والذين نشَّطوا اقتصادها. أمّا تركيا فحساباتها مختلفة، وأبعد من قضيّة عودة لاجئين إلى سوريا موحّدة، رغم الأعداد الكبيرة للاجئين لديها. هنا يُمكن التأكيد أنّ بوتين لم يقصُد حقّا اللاجئين إلى أوروبا. إذ إنّ أغلب هؤلاء أصحاب كفاءات يتأقلمون هناك ويعيشون ظروفا لن يشهدوا مثيلها في المشرق. لكنّ إثارة القضيّة في المناخ السياسيّ الأوروبي تشجِّع اليمين المتطرّف وتزيد من صعوبات الحكومات القائمة.
كذلك يعلم بوتين جيّدا أنّ بشار أسد سيستغلّ المؤتمر سياسياً، خاصّة فيما يتعلّق بتسويق إعادة «انتخابه» في الصيف القادم ورفع شرط إعادة اللاجئين عن كاهله، واضعاً اللوم على من لم يحضَر المؤتمر. ويعرِف أيضا أنّ إعادة الانتخاب لا وزن لها في ظلّ ابتعاد ظروف ما يسمّى «الحلّ السياسيّ» مع غياب القوى الفاعلة في الشمال الشرقي عن مفاوضات جنيف التي أُدخِلَت في أساسها في نفقٍ دستوريّ لا نهاية له. كما يعلم أنّ «المعارضة» ستستغلّ الأمر أيضا سياسيّا لتعود إلى الساحة عبر الإعلام أنّ لا عودة للاجئين دون رحيل الأسد رغم أنّها تتفاوض معه في الأستانة كما في جنيف. وكأنّ رحيل الأسد واستلام «المعارضة» السلطة شرطٌ كافٍ لعودة اللاجئين والنازحين، بحجّة أنّ مئات مليارات الدولارات ستتدفّق حينها.
قضيّة عودة اللاجئين قضيّة شائكة أكثر، خاصّة في ظلّ واقع أنّ آخر موجات اللجوء مضى عليها خمس سنوات وأكثر.
***
بالطبع تحتاج هذه العودة قبل كلّ شيء إلى مناخٍ من الأمن وثقة المواطنين. ويرتبط هذان الأمران حُكما بوقف هيمنة السلاح وبعودة مؤسسات دولة إلى فعاليّتها الدستوريّة على المستوى المركزي والمحليّ. إلاّ أنّه يرتبط أيضاً بنبذ التجاذب «الهويّاتي» والفكريّ بين المناطق الثلاث في سوريا، وبإعادة الثقة بين من تَهَجَّر ومن بقي، حيث يحمِّل كلّ طرفٍ الأطراف الأخرى مسؤوليّة مآسي الصراع التي يعيشها الجميع. فما الخطاب الجامع وما صيغة الحكم القادران على رأب الصدع؟
ولا يقلّ عن هذا التحدّي تحدٍّ آخر يُمكن اختصاره بالسؤال التالي: إلى أين سيعودون ولماذا سيعودون؟ كثيرٌ من لاجئي لبنان أتوا من حمص وجوارها. لكنّ وسط حمص ما زال مدمّرا والمدينة انقسمت طائفيّا دون وسط مدينة تجاريّ وثقافيّ يجمعها. وكثيرٌ من أبناء حمص نزحوا إلى أريافها، خاصّة الغربيّة منها، وشيّدوا منازل هناك ونقلوا نشاطاتهم الاقتصاديّة إلى هناك. هم أيضاً لا يرون دافعا حقيقيّا للعودة إلى مدينتهم التي لم تعُد حاضرة جاذبة كما كانت في الماضي. والمقيمون حاليّا في حمص هم في قسمٍ كبيرٍ منهم نازحون ضمن المدينة، بل ويسكنون شققاً تركها أهلها، برضاهم أو عنوةً. وتبرز هنا إشكاليّات الملكيّات العقاريّة وتعويضات الدمار في مدنٍ كان العمران غير المنظّم قد انتشر فيها واسعاً قبل الصراع، وإشكاليّات أكبر حول سبل العمل في بلدٍ تشوّهت آليّاته الاقتصاديّة بشكلٍ كبير مع الصراع. فكيف سيكسب العائدون رزقهم عندما يعودون؟ وهل سيستبدلون سكنهم ومخيّماتهم في لبنان بمخيّمات سوريّة؟!
***
إعادة اللاجئين وإعادة الإعمار وجهان لمشروعٍ أكبر يخوض إعادة النهوض بالبلد اقتصادياً واجتماعياً وكذلك سياسياً. لا يتعلّق فقط بحجم المساعدات المطلوبة له بالأرقام المضخّمة المتداولة، فالأهمّ هو أن يكون هناك بالفعل مشروع جدّى بحدّ ذاته. بالتأكيد لا بدّ من تحقيق شروط تواجد مثل هذا المشروع بوجود سلطة سياسيّة وإدارة قادرة وعادلة وحياديّة يصيغان من خلال حوار مجتمعيّ أسساً توافقيّة على مضمون المشروع. لكنّه مشروع ينطلق أوّلا وأساسا من الواقع المحليّ، وخاصّةً من أكثر الحالات تعقيداً، كما هي حمص. وحين يعود «الحماصنة» إلى حمص يُمكن أن يعود بقيّة السوريين إلى مدنهم وقراهم.
يعرف بوتين هذا كلّه. لكنّه وضع تحدياً يأتي ضمنيّاً من استغراب الساخرين عن سبب عقد المؤتمر رغم كلّ شيء. لعلّ جوهر المسألة موجّه للآخرين من قادة العالم، من «أصدقاء الشعب السوريّ» وغيرهم، وبعد مسافةٍ طويلة موجّه للمعنيّين المباشرين، أي للسوريين، المقيمين والنازحين واللاجئين في المخيّمات. ما سورية التي تريدونها حقّا؟
* رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربية ــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب
المصدر: الشروق
التعليقات مغلقة.