حمزة المصطفى *
صدر، أخيراً، عن دار الفارابي في بيروت (يناير/ كانون الثاني 2016) كتاب ألفه الصحافي والإعلامي في قناة الميادين، سامي كليب، حمل عنوان “الأسد بين الرحيل والتدمير الممنهج: الحرب السورية بالوثائق السرية”. لم يفاجئنا صاحب الكاتب بمضمونه، حيث سعى، بطريقة تركيبية توليفية، لبعض الوثائق والشهادات إلى إثبات ما دأب، في السنوات الخمس الماضية، على إثباته. لا توجد ثورة في سورية. إنها مؤامرة دولية تضطلع فيها أميركا وإسرائيل بدور المخطط، ويسند تنفيذها إلى كل من؛ تركيا، والسعوديّة، وقطر. ولولا تمعّن صاحب الكتاب برهة في المواقف الأميركية والإسرائيليّة، خصوصاً مع الإعراب عنها صراحة في السنة الأخيرة لربما أعاد النظر في فرضيته ونتائجه، فهو لا يرى الشعب السوري ولا قضاياه العادلة. ومثل كثيرين ممن ارتكبوا جريمة الوقوف مع النظام، وتبرير جرائمه، يحاول أن يفرض على الشعب السوري نفسه أن مؤامرةً تتم لإطاحة النظام منذ فشل لقاء بشار الأسد -كولن باول في مايو/ أيار 2003.
باحثون هواة:
لا يهدف هذا المقال إلى تقديم مراجعة نقديّة للكتاب، وربما قد لا نحتاج إذا كانت ما سمّاها الكاتب “الوثائق السريّة” قد أقحمت في متن النص، كما أقحمت السردية التراجيدية التي كتبها المعارض السابق، والرئيس المشترك لمجلس “سوريا الديمقراطي”، هيثم مناع، فاستحضار مثل هذه الشهادات، من دون التأكد من صحتها، يوضح عدم تمرس الكاتب على عملية النقد الداخلي والخارجي للشهادات، والتي تعد ألف باء التأريخ والتوثيق. وكنت سأوفر على القارئ عناء متابعة هذه المراجعة، لولا أن الكاتب استند بكثافة على مصادر من إصدارات المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي يشرّفني أن أعمل فيه، ما يؤكد على المصداقية الأكاديمية التي يتمتع بها المركز، حتى عند مؤيدي النظام الاستبدادي المتوحش في سورية، حتى في قضايا تاريخ سورية الحديث والمعاصر.
وكان أجدى بسامي كليب، غداة استحضاره اقتباساً من كتاب “سوريّة: درب الآلام نحو الحريّة” عن قضية أطفال درعا، ليستغل نقد الكتاب عدم دقة الشائعات التي أثيرت حولها، مع تأكيد الكتاب أن أولئك الأطفال تعرّضوا للتعذيب، أن يتدرب هو نفسه على نقد الشهادات، وهو نقد يمارسه مؤلف الكتاب عزمي بشارة بدقة أكاديمية وموضوعية عرف بها، بدل محاولة توظيف موضوعية الآخرين الأكاديمية في دحض ما اعترف به رئيس النظام الذي يدافع عنه كليب. فهو يستخدم، مثلاً، شهادة هيثم مناع، المعروف عنه “انتهازيته وعدم مصداقيته، وكذبه في حالات عديدة”. يستشهد كليب بقول مناع في الصفحة 278-279 وفق الآتي: “في أول اجتماع لنا في قطر في شهر تموز/ يوليو 2011 مع عزمي بشارة، حيث كنت أنا ونبراس الفاضل وفايز سارة ورجاء الناصر وعارف دليلة وأحمد رمضان وعبد الباسط سيدا وغيرنا. أخذني عزمي إلى غرفةٍ مجاورةٍ، وقال لي أنت تفشل هذا اللقاء أو تنجحه. وكان كما الكثيرين يعرف موقفي من مسألة الإخوان أو رفضي لأسلمة أو تسليح أو تدويل الثورة. تم في الاجتماع اقتراح دعوة قيادات إخوانية. وحين طرح اسم ملهم الدروبي، سارعت إلى المعارضة، وقلت أنا لا أجتمع مع شخص التقى، منذ أقل من أسبوع، برنار هنري ليفي (وهو مفكر فرنسي يهودي مقرب من إسرائيل ودعم الانتفاضات في ليبيا وتونس وسورية وغيرها)، ولا أريد أن أحرق نفسي، قال د. برهان غليون، أنا ليس عندي مانع من لقائه، قلت له اجتمع أنت مع من تريد وغادرت قطر”.
حقيقة الأمر، لا يحتاج دحض هذه الرواية جهداً كبيراً. ولكن، قبل ذلك، لا بد من التأكيد على نقطة رئيسيّة، مؤداها أن إبراز مغالطات الشهادة وعيوبها ليس غايته الدفاع عن عزمي بشارة، مع أن الدفاع عنه واجب أخلاقيّ في مثل هذا الموقف، بل لاطلاع من يهمه الأمر على بعض التفاصيل التي قد تساعده على فهم واقع المعارضة السورية، وانتهازيّة بعض شخوصها، ونزوعهم إلى الظهور السياسي بأي ثمن. وما يؤهلني لسرد الرواية الدقيقة وظيفتي باحثاً مساعداً في المركز العربيّ للأبحاث، نسق أعمال الندوة الأكاديميّة التي عقدها المركز في فندق شيراتون الدوحة، أواخر شهر تموز/ يوليو 2011 بعنوان: سورية بين خيارات ومصالح القوى السياسية والاجتماعية واحتمالات التغيير. وما يزال تقريرها منشوراً في الموقع الإلكتروني للمركز العربي على الشبكة العنكبوتيّة. أضف إلى ذلك، مساهمتي بصفتي الشخصية في اللقاء التشاوري الذي جمع شخصيات أكاديمية وسياسيّة سوريّة، وعقد في فندق الريتز كارلتون في الدوحة 5-8 أيلول/ سبتمبر 2011 بمساعدة من المركز العربي، بعد تلقيه طلبات من شخصيات سوريّة عدة، لعقد مثل هذه اللقاءات.
شهادة عرجاء:
بدايةً، يخلط هيثم مناع، في روايته ما بين الندوة الأكاديمية واللقاء التشاوري، فبخلاف ما يتطرق إليه أعلاه، لم يكن أحمد رمضان، وفايز سارة، ونبراس الفاضل، وملهم الدوربي، ورجاء الناصر، وعبد الباسط سيدا من المشاركين في ندوة شهر تموز/ يوليو 2011، بل ركزت الندوة على الأكاديميين والمثقفين السوريين في الداخل والخارج، ووجهت لهم دعوات رسمية برقم مرجعي، وختم المركز. وقد شملت قائمة المدعوين الأسماء التاليّة؛ طيب تيزيني، آزاد أحمد علي، برهان غليون، عارف دليلة، هيثم مناع، بطرس حلاق، سمير العيطة، محمد مخلوف، عماد الدين الرشيد، حسين العودات، فداء مجذوب، سلام الكواكبي. وبناء عليه، لم يدع أي شخص من الإخوان المسلمين، كما لم يدع أي شخص بصفته التنظيمية أو الحزبية، بل بصفته العلميّة أو حضوره الثقافي.
وعلى نقيض ما ذكر، لم تتطرّق الندوة، من قريب أو بعيد، إلى ما يجب على المعارضة فعله في مواجهة النظام، فهذه ليست مهمتنا، وركّزت المداخلات على تطورات الأزمة السورية من منظور أكاديمي، أغرق في التحليل السوسيو -اقتصادي، ولا يحتاج المرء للتأكد من صحة ما أقول سوى مشاهدة الجلسات التي بثت على “الجزيرة مباشر”، وجرى تحميلها كاملة على موقع المركز العربي. وبناء عليه، يستطيع الكاتب، أو أي مهتم العودة إليها، واقتباس ما يريد. لذلك، يُستغرب من شخصٍ أن يدلي بروايةٍ من دون أن يحدد بشكل دقيق تاريخها، ومكان حدوثها، بل يطلقها جزافاً، فقط لغايات ومناكفات شخصيّة لا تمت للحقيقة بصلة. لقد أوضحنا جيدا لجميع المشاركين في الندوة أنها ليست مؤتمراً للمعارضة، وليست مناسبةً لإطلاق بيانات أو نداءات. فأخلاقيات البحث في مراكز الأبحاث الرصينة لا تجيز المخاطرة بحياة الأشخاص، أو حريتهم، فكيف نخاطر بأكاديميين قدموا من سورية، ولبوا الدعوة على هذا الأساس.
وبينما أكتب هذه الكلمات، وأنبش في مخرجات الندوة، تذكّرت طرفةً محزنة، حصلت معي في أثناء فترة التحضيرات، كنت قد دونتها، كما هي عادتي في مسائل تهمني على المستوى الوطني. قبل انعقاد الندوة بأيام، هاتفني أحد المدعوين في فرنسا، وأبلغني اعتذاره وأربعة آخرين من رفاقه عن الحضور، وكان من بين هؤلاء هيثم مناع. اتصلت بالأخير مستفسراً عن هذا الاعتذار الجماعي، ومن دون سابق إنذار، فنفى مناع علمه بالأمر، قبل أن يخبرني أنهم ناقشوا فكرة الاعتذار، إذا ما كان هدف الندوة إبراز برهان غليون في المشهد السياسيّ السوري. أجبت مناع ضاحكًا بأنه لا يمكن لأي جهة أن تبرز شخصاً لا يقبله الشعب، وهذا ليس من أولوياتنا وهمومنا. ألغى مناع ورفاقه اعتذارهم، وطرحوا أفكارهم في الندوة بأريحية وحرية كاملة. لكن عقدة غليون ظلت حاضرة في أذهانهم، طوال جلسات الندوة، وعكست في بعض جوانبها افتراق النخب عن هموم المواطن المكلوم، وانشغالها بمناكفاتها التي لما تنته بعد.
في نهايّة الندوة، قدم حازم نهار اقتراحاً على المركز أن يساعد في عقد اجتماع يجمع شخصيات من المعارضة السوريّة لمناقشة همومها، ومحاولة الخروج بأفكار وتفاهماتٍ، من شأنها أن تساعد في تحقيق التغيير الديمقراطي الذي ينادي به المحتجون في الداخل. وعلى هذا الأساس، انعقد اللقاء التشاوري الذي حضره مناع حتى آخره، وكان ذلك أوسع اجتماع للمعارضة السورية لفترة طويلة آتية. ولكن، تبينت فيه بذور أمراض المعارضة السياسية السورية، الناجمة في معظمها عن إفساد عقود الاستبداد، ثقافتها السياسية. وبدا واضحاً أن مناع، وبخلاف بقية أعضاء هيئة التنسيق، حضر الاجتماع لهدفين واضحين: الأول إفشال التشاور، وقد صرح بذلك بشكل صريح. والثاني معارضة كل ما يفعله برهان غليون، لأنه كان مقتنعاً بأن هيئة التنسيق نفسها تفضله عليه.
لقاء الدوحة التشاوري:
لم يكن هدف لقاء الدوحة بدايةً جمع أطياف المعارضة، والعمل على توحيدها، بل توفير منصة، لشخصيات من المعارضة السورية، لتناقش قضاياها، ولم تتدخل أي دولة في هذه الدعوة، فعقد اللقاء بدعوةٍ من مركز أبحاث جعل هذا ممكناً. ولم يتدخل المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في إعداد قائمة المدعوين، وتكفل بذلك حازم نهار، صاحب الاقتراح، بالتشاور مع شخصيات سورية أخرى. وكانت فكرة المنظمين، حينها، أن يُدعى المشاركون بصفتهم الشخصية، لا الحزبية، على أن تشمل القائمة أطيافاً وتيارات مختلفة؛ داخلا وخارجا، إسلاميين وعلمانيين، اشتراكيين وليبراليين، معارضة تقليدية وشباب الثورة. تكفلت بإرسال الدعوات والتواصل مع المشاركين، وساهم المركز في تسهيل إجراءات الدخول والتأشيرات والحجوزات.
ضمت قائمة المدعوين أكثر من 20 شخصية من الداخل والخارج، أبرزهم، برهان غليون، فايز سارة، عبد المجيد منجونة، رجاء الناصر، أحمد رمضان، عبيدة نحاس، عبد الباسط سيدا، وائل ميرزا، حازم نهار، عماد الدين الرشيد، هيثم مناع، سيمر نشار، منذر حلوم، ضياء دغمش، مروة الغميان، وناجي طيارة، ومعاذ السباعي.. وآخرون. وجهني الدكتور عزمي بشارة، لحظة وصولهم، بالسهر على راحتهم، ونبه علي عدم التدخل في النقاشات، إذ لا هدف لنا كمركز إلا توفير أرضية مناسبة، لكي تتعرّف النخب السورية على بعضها، وتكسر حاجز غياب الثقة بعد عقود الاستبداد والشتات. وبناءً عليه، لم يشارك أحد من المركز في الجلسات بداية، على الرغم من إلحاح النشطاء على حضور بشارة لإغناء النقاش، وهو ما حصل في بعض الجلسات لاحقًا. لا ريب في أن معرفه ما يجري في الجلسات لم يكن صعباً بالنسبة لي، من خلال الأحاديث الجانبية مع المدعوين، وكان ذلك، برأيي، نقطة سلبيّة رافقت المعارضة في جميع اجتماعاتها، إذ يستطيع المرء أن يعرف ما يدور في جلساتها من دون أن يحضرها. والمفارقة، أني كنت أحرص على الموجودين على عدم التشويش على الحوار الجاري، وطلبت منهم، أكثر من مرة، عدم تداول ما يجري في وسائل التواصل الاجتماعي، لا لشيء، ولكن لدرء انحراف النقاش إلى مكان آخر.
ائتلاف مصغر:
في أثناء الجلستين، الأولى والثانية، طالبت بعض شخصيات المعارضة السورية بالانتقال من الجانب النظري إلى الجانب العملي، أي استغلال الحوار القائم للخروج برؤية موحدة حول ما يجب على المعارضة فعله. كانت هذه مبادرتهم بضغط من الشباب، ولم تكن مبادرة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. وقد ركز الناشطون الحاضرون من الشباب على هذه النقطة، من أجل دفع المعارضة إلى التوحد في إطار تنظيمي، بهدف تلبية مطالب المحتجين الذين رفعوا شعاراتٍ تطالب المعارضة بالتوحد، وتقديم بديل عن النظام، من شأنه أن يسرع في تحقيق أهداف الثورة. وعلى الفور، شكلت لجنة شارك فيها ممثلون عن جميع الأطراف السياسية (هيئة التنسيق، التيار الإسلامي المستقل، مجموعة العمل الوطني، إعلان دمشق، الناشطون) لصياغة بيان توافقي بين جميع الأطراف، واستمرت المناقشات حول البيان زهاء يومين. أذكر حينها أن بعض الحاضرين تساءل عن إمكانية تمديد اللقاء مدة أطول، حتى يتسنى للمشاركين استغلال الفرصة والوصول إلى توافق شامل على مختلف النقاط الإشكاليّة، فكان ردي أن الجهة المنظمة لن تمانع في تهيئة أي ظروف لإنجاح هذا اللقاء. وبعد نقاشات مطولة، توصل المشاركون إلى توافق على رؤية عامة، ترجمت في بيانٍ دعا إلى إسقاط النظام برموزه كافة، ورفض الحوار معه، والانحياز الكامل للثورة، وتشكيل ائتلاف وطني مصغر ومفتوح لجميع القوى السياسية المعارضة، وقيام هذا الائتلاف السياسي الأكبر في تاريخ سورية بالتحضير لعقد مؤتمر وطني، تدعى إليه الشخصيات المستقلة والنشطاء وشباب الثورة وممثلون عن المؤتمرات التي عقدت والمبادرات التي أعلنت، للوصول إلى تشكيل مجلس وطني. لكن مجموعة العمل الوطني التي تشكلت في إسطنبول (عبد الباسط سيدا، عبيدة النحاس، أحمد رمضان، عماد الدين الرشيد) عادت ورفضت الانضمام للائتلاف، بعد التوافق على أفكاره السياسية، لأن هذه المجموعة أوضحت رغبتها بمجلس وطني لا ائتلاف سياسي، على الرغم من أن الكلام الأخير لعدد من مجموعة إسطنبول كان الموافقة على الانضمام للائتلاف، شريطة نسبة محددة من المقاعد في قيادته. وبرزت هنا مشكلة المحاصصة التي لازمت المعارضة السورية في حراكها خلال الثورة. كما برز في الاجتماع عدم توافق بين هذه المجموعة ومجموعة هيئة التنسيق الوطنية، بخصوص النبرة السياسية، وإصرار الهيئة على أن تكون القيادة للداخل.
كان هيثم مناع راغباً في إفشال أي توافق، وقد صرح بذلك فعلاً، ولم يخف اعتراضه على كلمة “إسقاط النظام”، معتبراً أن النظام لا يمكن أن يسقط ويجب ألا يسقط، وكان ذلك طرحاً غريباً لا يمكن فهمه، إلا إذا استحضرنا الأصوات المتعالية داخل مؤيدي النظام، والمطالبة بإدماج مناع في الحكومة ومنحه منصب وزير أو رئيس وزراء. وبرأيي، بقيت عقدة المنصب حاضرة في شخصية مناع، طوال سنوات الثورة، ومن أجلها كان مستعداً للتضحية بكل شيء، بغض النظر عن الثورة وتضحيات الشعب السوري، في سبيل الوصول إلى المنصب المتخيل.
أذكر في إحدى الجلسات الجانبية مع مناع أنه بدأ حديثه بغزل غريب في الجيش السوريّ، وتهجم على لافتات المحتجين التي تنتقده، واعتبرها لافتات مأجورة ثمنها 100 دولار، وهذه هي رواية النظام وبشار الأسد. الأكثر غرابة قول مناع إنه كان على هؤلاء، وبدلا من السخافات التي رفعوها أن يحتفلوا بعيد الجيش (1 أغسطس/ آب)، فأجبته؛ كيف تطلب من المحتجين الاحتفال بيوم الجيش، وقد اقتحم هذا الجيش الأخير، في هذا اليوم نفسه، حماه ودير الزور، ووأد المظاهرات العظيمة، وهو يقتل الناس يوميّاً. هو من دفع الناس إلى كرهه، لأنه أصبح جيش نظامٍ، لا جيش دولة وشعب. فأجاب مناع؛ يجب أن نفكر بعقلانيةٍ، لا بغوغائية المحتجين. وهذه الكلمة عدت وسمعتها من قيادات أخرى في هيئة التنسيق، ولم أكن قادراً على تفسيرها، إلا في اتجاهين، أولهما؛ استعلاء هؤلاء على المحتجين، واعتبارهم رعاعاً بحاجة إلى توجيه دائم. وثانيهما؛ رغبتهم في عدم إغضاب النظام، والتطلع لأي حل معه، بغض النظر عن طبيعة هذا الحل. وأجزم لو أن النظام قبل بهؤلاء لقبلوا به من وقتها. كانت نبرة أعضاء هيئة التنسيق مختلفة عن نبرته، ولم يشبها الحقد الشخصي الذي ميّز مداخلاته، ولا سيما حقده الشخصي غير المفهوم ضد برهان غليون، إلى درجة أننا تصوّرنا أن هذا ما يحركه في الاجتماع.
دعوة الإخوان المسلمين:
أيّاً يكن، نجح المشاركون، وعلى الرغم من الاستعراض والمناكفات المنّاعية في التوافق على بيان عام، يتبنى شعارات الثورة وأهدافها بإسقاط النظام وإقامة الدولة الديمقراطيّة على أساس المواطنة الجامعة، وبقي النقاش دائراً حول الإطار التنظيمي، لوضع البيان موضع التنفيذ. لذلك، كان لا بد من توسيع المشاركة، لتشمل قوى سياسية لم تكن حاضرة. وعلى هذا الأساس، دعي “الإخوان المسلمون”، والذين لبوا سريعا الدعوة، وأرسلوا وفداً من ثلاثة أشخاص، برئاسة فاروق طيفور، إلى جانب منير الغضبان وملهم الدروبي. لم يشارك “الإخوان” في جميع النقاشات، اطلعوا سريعا على البيان ودرسوه في وقتها، واستمعوا لشرح من برهان غليون عن الائتلاف، وأبدوا استعدادهم للتوقيع على البيان، من دون إدخال أية تعديلات. ووافقوا أيضا على الدخول في الائتلاف، في حال اتخذت القوى الأخرى موقفاً نهائيّاً بالمشاركة فيه. وبناء عليه، حصل، ولأول مرة في تاريخ سورية، توافق أوليّ بين الكتل التالية؛ هيئة التنسيق، الإخوان المسلمين، المستقلين، نشطاء، وإعلان دمشق، ومجموعة العمل الوطني. لكن أعضاء مجموعة العمل الوطني انسحبوا مجدداً، وغادر بعضهم الفندق، من دون إبلاغ المنظمين. التقيت مصادفة بالدكتور عماد الدين الرشيد، وكان يهم بالخروج من الفندق. سألته عن تحفظاته على التوقيع وإضاعة الفرصة على توافق شامل للمعارضة لأول مرة، خصوصاً وأن القوى الأخرى، بما فيها جماعة الإخوان المسلمين، أعلنت موافقتها. أجابني رشيد بالتالي: أخي حمزة، جهودكم تشكر، ومبادرتكم مقدرة. لكن، يجب أن نكون واقعيين. البيان في واد والثورة والتفاعلات الدولية في واد آخر. طلبت منه إيضاحاً أكثر، فتابع كلامه بالآتي: طرحنا فكرة تشكيل مجلس وطني، وهي فكرة ملحة، فالنظام قد يسقط في أي وقت، ولا بد من سد الفراغ في الحكم، كما جرى في ليبيا. أجبته: في ليبيا، حصل تدخل عسكريّ أسقط النظام، وهذا قد لا يحدث في سورية، وقد يطول انتصار الثورة، ولا بد من إقناع العالم بأن هناك بديلاً عن النظام، من خلال تشكيل واجهة سياسية، تعبر عن مبادئ الثورة وأهدافها. قال لي؛ التدخل العسكري قادم لا محالة، ومن المرجح أن يكون أواخر عام 2011، ويجب أن نكون جاهزين.
طرح الرشيد نقطة أخرى، وتتعلق بالمبادرة العربيّة الأولى. لا أعرف لماذا اتهمنا الرشيد بأننا نسعى إلى إبراز هيئة التنسيق، وجعلها الممثل للوحيد للثورة. هذا اتهام غريب، كتب عنه كثيرًا من دون وجه حق، وقد اتهمتنا شخصيات في هيئة التنسيق بإبراز الطرف المقابل. وهناك من خرجوا على الإعلام، بعد اللقاء التشاوري، وقالوا كلاما أقل ما يقال عنه إنه كذب بواح، لا يتسق مع رجالٍ، يفترض أن يكونوا مسؤولين أمام التاريخ، وقد كشفت دلائل عدة عدم مصداقيتهم. كان من المفترض أن يتشكل ائتلاف يضم 15 شخصًا؛ 9 في الداخل، 6 في الخارج، وأن يكون برهان غليون منسقاً في الخارج، على أن يتولى وفد الداخل تعيين من يناسبه، وكان الأغلب شخصية من هيئة التنسيق. وبحسب الاتفاق، كان يجب أن يعلن البيان من دمشق أولاً، ثم في إسطنبول، والدوحة، وعواصم أخرى.
التنصل من الاتفاق:
على الرغم من توقيع القوى السابقة على بيان الدوحة، إلا أن البيان لم يوضع موضع التنفيذ من هذه القوى، وبمبرّرات عدة. فمثلا، رحبت هيئة التنسيق الوطنية بالائتلاف الجديد. لكنها فعلت ذلك بدلاً من إعلان موافقتها على البيان داخل سورية (بحسب الاتفاق في الدوحة)، فجاء بيان الترحيب وكأنها لم تكن مشاركة في الاتفاق. اتصلت برجاء الناصر للاستفسار عن تلكؤ هيئة التنسيق في إقرار البيان وإعلانه من دمشق، فطلب مني التريث يوماً، حتى يتسنى لهم إقراره في اجتماع الهيئة العام. وأكد لي موافقتهم والتزامهم بما جرى التوصل إليه في الدوحة، وكذلك كان كلام ممثل إعلان دمشق، سمير النشار. عاودت الاتصال في اليوم الثاني مع رجاء ناصر، فأخبرني أنهم يريدون إضافة اللاءات الثلاث (لا للعنف، لا للطائفية، لا للتدخل العسكري الخارجي)، وإضافة بند يشير إلى الأكراد في سورية وحقوقهم في تقرير المصير. أخبرت ناصر أن هذا مخالف لما جرى الاتفاق عليه مع القوى الأخرى. وقلت له؛ سنكون بحاجة إلى عقد اجتماع ثان لمناقشة هذه النقاط، والبيان الذي سوف يصدر عام، ويمكن أن تناقشوا بعده كل الأمور التفصيلية. كما أن إضافة هذه اللاءات تعني ضمنياً اتهام الثورة بها، وهذا غير صحيح. أضف إلى ذلك، أن القول بتقرير الأكراد مصيرهم قد يؤدي إلى سيناريوهات تقسيمية، ولا يمكن لأحد أن يقرر عن الشعب السوري وحدة دولته وشعبه. كان اشتراط هيئة التنسيق إضافة هذا البند نتيجة ضغوط من حزب الاتحاد الديمقراطي، ثم تبين لنا أن شروط الهيئة تعكس رغبتها في التنصل من الاتفاق، خصوصاً أنها كانت تحضّر لعقد مؤتمرها الأول في 15 سبتمبر/ أيلول 2011. وفي اعتقادنا أن قيادة هيئة التنسيق رفضت المصادقة على بيانٍ يتضمن صراحة “إسقاط النظام بكامل رموزه ومرتكزاته، ورفض أي حوار معه”. ولما تعثر صدور البيان عن هيئة التنسيق في دمشق، تراجع الإخوان المسلمون الذي رهنوا الموافقة عليه بمصادقة هيئة التنسيق عليه.
ساهمت العوامل السابقة، إضافة إلى عقلية المحاصصة، في عدم وضع بيان الدوحة موضع التنفيذ، لكنه كان خطوة مهمةً تمهّد الطريق للإعلان عن المجلس الوطنيّ السوري، بتاريخ 2 أكتوبر/ تشرين الأول 2011. إذ تضمن البيان التأسيسي للمجلس الوطني القضايا والمطالب نفسها التي تضمنها بيان الدوحة. وكانت القوى الموقعة على بيان المجلس الوطني هي نفسها التي وقعت على بيان الدوحة، باستثناء هيئة التنسيق الوطنيّة التي لم تنضم إلى المجلس الوطني. وبذلك، يكون لقاء الدوحة اللقاء الأوسع من ناحية التمثيل خلال الثورة، وفرصة ثمينة أهدرتها النخب السورية.
أخيراً، كل ما جرى في اللقاء التشاوري كان سوريّاً بحتاً لم يتدخل أحد فيه، ولم يعرض على أحد أي حوافز أو اعتراف دولي، كما يكذب مناع في شهادته مع سامي كليب (ص 279) عندما يقول: “إن عزمي بشارة كان يقول إنه بمجرد اتفاقكم على تشكيل لجنة مشتركة من المعارضة ستجدون الكثير من الدول بانتظاركم والأبواب مفتوحة. وسنضع بتصرفكم الطائرات والتسهيلات جميعاً”. إنها رواية مناعية أشبه بأفلام الخيال العلمي، لا يمكن أن يصدقها إلا القائمون على برنامج لعبة الأمم، لأنهم اخترعوا روايات كثيرة مشابهة بتوجيه إعلامي مباشر من المستشارة الإعلامية في رئاسة الجمهورية، لونا الشبل.
* اتب وباحث سوري
المصدر: العربي الجديد
التعليقات مغلقة.