على وقع مآسينا العربية مجتمعة وخاصة الحرب الإجرامية ضد ثورة شعبنا السوري بكل شرائحه، وعلى وقع جائحة كورونا القاسية، تأتي حوادث فرنسا وبعدها النمسا لتمتحن العلمانية الغربية وديمقراطيتها ولتستبق هذه الحوادث إجراء الانتخابات الأمريكية التي بدأ ظهور دخانها الأبيض منذ أيام، منذرةً بحالة استقطابٍ حادة بالشارع الأمريكي بين كتلة أرادت رئيساً شعبوياً قوياً، يُخفض الضرائب ويطور الاقتصاد ويوفر الخدمات، ويُمارس السياسة مثل أولاد الشوارع وأصحاب السوابق، ولا يتورع حتى عن الاشتباك مع أقرب حلفاءه التاريخيين؛ ليست هذه ظاهرة جديدة، كما تزعم اليوم صحف النخبة الاميركية، الصادرة على شواطئ الساحلين الشرقي والغربي، والأوربي أيضاً؛ لكنهم حشدوا هذه المرة، أقصى طاقتهم، من أجل فرض إرادتهم على النصف الباقي من الناخبين، ومن السكان، لكن خسارتهم هذه الانتخابات بفارق محدود، يبلغ مئات الأصوات في بعض الولايات، لن تكون نهاية المطاف؛ سيخرجون مرة أخرى، بعد أربع سنوات، بأعداد هائلة إلى مراكز الاقتراع، لانتخاب أي مرشح ديماغوجي يشبه ترامب أو يكمل سيرته ويعتمد أسلوبه كما جرى ببعض دول أوربا، وحتى ذلك الحين، لا أحد يعرف كيف ستتصرف تلك الكتلة الأمريكية الخاسرة، وما إذا كان بمقدور المؤسسة الأميركية، وعمليات التصويت التي يخضع لها الأميركيون في كل شأن داخلي، مهما صغر، أن تحتوي ذلك الغضب الذي يعتمل في نفوس 70 مليون ناخب، جراء هزيمة غير ساحقة، وغير مؤثرة في رأب الصدع مع الجناح الاخر من الأميركيين؛ الأرجح، أن بعض الساحات والشوارع ستشهد احتجاجات واعتصامات قد تطول، لكن القانون سيبقى سيد الموقف، والقضاء سيكون الحكم، حتى تُفتح مراكز الاقتراع مجدداً.
أمام هذا الشرخ العميق، لن يكون بمقدور بايدن ولا فريقه الديموقراطي المغامرة في إجراء أي تغيير جذري لا في الداخل ولا في الخارج؛ إنه الخوف من الملايين الـ70 التي صوتت لترامب، بعصبية وإرادة وتصميم مفاجئ فعلاً، صار حقيقة أميركية ثابتة، ودائمة؛ ربما تشهد السنوات الأربع المقبلة، بعض الهدوء على جبهات السياسة الخارجية المشتعلة، لكن الحقائق التي فرضها ترامب ليست قابلة للتعديل بسهولة، وهكذا في باقي الساحات الغربية المتأثرة بارتدادات السياسة الخارجية الأمريكية خصوصاً الغباء الروسي والإيراني وإجرامهما معاً على أرضنا السورية نصرةً لأس الإجرام البعث الأسدي، البعث الذي حول سورية إلى مزرعة، عكس ما أعلن من أهداف، وسلمها قبل 50 سنة كاملة للعميل الأول حافظ أسد بـ «حركته التخريبية»؛ تخريبٌ بكل ما قدمت من عمالةٍ وفساد، تخريبٌ لكل ما كان جيداً في ثنايا الوطن ومواطنيه وترحيلُ خيراته إلى الخارج لصالحِ أسرةٍ خائنة، عميلةٍ وطائفية، لصالحها وحدها ولمُشايعيها القتلة، مكرساً الديكتاتورية النازية المتوحشة.
فمن المفترض في الدولة العلمانية، الديمقراطية بالضرورة، أن تكون الحكومة- من أعلى سلطة سياسية إلى أصغر موظف فيها- على مسافة واحدة من جميع الأديان والملل والطوائف، وبالتالي فإن التعامل مع السكان- كمواطنين متساوين في الحقوق والواجبات- يتطلب عدم النظر إلى ألوانهم وأعراقهم وأديانهم في أية معاملة أو تعامل.
وإذا كان هناك من إشكالية ما لدى أتباع أي دين أو ملة، أو مع المنحدرين من أية جنسية، فإن الأمر يتطلب إحالته إلى المتخصصين لدراسته وإبداء الرأي فيه، درءاً لأية نتائج سلبية أو غير مرغوبٍ بها، إحالته إلى لجنة حكماء، وفرنسا مثلاً لديها مثل هذه اللجنة لإبداء الرأي في مسألة الألبسة أو ما شابهها والتي أثيرت منذ سنوات والتي تدل على دين أو مذهب معين والتي يرتديها طلبة المدارس.
وإن ما حصل في فرنسا في الفترة الأخيرة، هو أن الرئيس قام بعملية تقييم لدين يبلغ عدد أتباعه في فرنسا أكثر من 8 ملايين، وفي أوربا حوالي 20 مليوناً، وفي العالم حوالي 1500 مليون؛ وزعم أن هذا الدين يمر في أزمة، وهذا خطأ كبير وقع به رئيس الدولة وممثلها مع ما تدعيه من عراقة ديمقراطية وإرث حضاري، ولم يستطع الفصل بين شخصه كمواطن وشخصه كممثل للدولة التي يترأسها، إنه سلوك شبيه بسلوك ترامب.
تبعها بعد ذلك الحادثة الوحشية بقتل المعلم الفرنسي، والرسوم المسيئة التي عرضها على طلابه، بعد طلبه من المسلمين مغادرة القاعة حفاظاً على أحاسيسهم؛ حدثت الجريمة المروعة على يد شاب شيشاني ولد وتربى في فرنسا ؟! فما كان من الرئيس إلا أن رفع وتيرة التحدي، وقام بعرض الصور الكاريكاتورية بالحجم الكبير على المباني، وأخذ يحذر من الإرهاب الإسلاموي، معززاً بذلك حالة (الإسلاموفوبيا والعرب فوبيا) والتي شاع الحديث عنها وبشدة بعد هجمات ايلول/سبتمبر، والتي كانت نتيجتها تدمير بلدين إسلاميين أحدهما عربي (العراق وأفغانستان).
إننا- عرباً ومسلمين- نكتوي قبل غيرنا بمصائب وجرائم الجماعات الإسلامية المتطرفة، والتي توالدت من رحم القاعدة في ديار العرب والمسلمين، والتي تدل الكثير من الدراسات، أنها تلقت الدعم من أجهزة المخابرات الغربية لتستمر وتساهم بتغييب شعوبنـا وربط مصائرنا بخُطط الغرب المعادي لتقدم شعوبنا، وهذا بالضبط ما جرى في سورية من تخطيط أمريكي وصهيوني مع أذرع البعث وانقلابييه العديدين، حتى أوصلوا صنيعتهم الأشدُ عمالةً حافظ أسد، ليقوم بانقلابه بمثل هذا اليوم من عام 1970 وينفذ أجنداتهم، كنظامٍ وظيفي لقاء بقاءه وفساده واستبداده متربعاً على أمجاد سورية ومن بعده وريثه القاصر، وفي ذلك ما يضمن للحلف الأمريكي الصهيوني تحييد سورية عن الصراع مع الصهاينة المغتصبين وتقديم سورية أيضاً للمشروع الفارسي المكمل للمشروع الصهيو- أمريكي والتي لم يكن ينقصها سوى المسرحية المسخرة، مؤتمر الخديعة والعار الروسي- الصيني- الإيراني الأسدي المشبوه والمشترك مع فتات من بقايا دول ومجاميع مجهرية، لا هدف لها سوى تنظيم الجوع وطوابيره، وهو ما أسموه كذباً بـ “مؤتمر عودة اللاجئين السوريين”، كما وجاء الدعم للمجاميع الإرهابية الأسدية والإسلامجية أيضاً من الحكومات العربية والإسلامية التابعة لرعاتها من الأجهزة الدولية، والتي تأتمر بأمرهم، والتي عاثت فساداً وقتلاً وتدميراً في بلادنا نحن قبل أن تصل شظاياها إليهم، لتحمل على الدوام الرسائل التي تروج لها أروقة صنع القرار الدولي إياهــا ولتوزيعهــا.
ثم ليتفاجأ الفرنسيون بجريمة ثانية (حادثة نيس ومقتل ثلاثة أبرياء على يد شاب تونسي ضال أو مضلل وصل حديثاً إلى فرنسا)، ولتخرج الشعوب الإسلامية في مظاهرات ضد فرنسا، وتطالب بالمقاطعة الشعبية كرد على ما صرح به وفعله ساسة فرنسا.
هل يمكن نعت ماكرون بأنه مخبول أو معتوه، ليضع بلده بهذه الزاوية الحرجة، ولتكون حركته غير المدروسة واللامبالية، بداية لصراع جديد ذا طبيعة دينية؟!، أم أنه يعمل مع أمثاله من حكام العالم (المتحضر) ويمهد لصعود اليمين المتطرف فيه؟!.
من الملاحظ تاريخياً وعقب كل كارثة ذات طبيعة عالمية كونية، خروج اليمن المتطرف شاهراً سلاحه متوعداً الخصم والمخالف، بحرب لا تبقي ولا تذر؛ فعقّبَ الكارثة الاقتصادية الكونية عام 1928 وصل اليمين الأوربي المتطرف إلى السلطة، وكانت كارثة الحرب العالمية الثانية.
الخوف كل الخوف أن تؤدي هذه التصرفات اللا مسؤولة (أو ربما التي تعمل وفق مخطط مدروس!) المترافقة مع جائحة كورونا، إلى صراعات تكتوي بنيرانها شعوب الأرض جمعاء، هذه الشعوب التي ملت الحروب والصراعات والكوارث، وتحتاج إلى أصوات تستدعي الحكمة والتبشير بمستقبل وسلام يصل بالبشرية إلى حُلمها في الوصول إلى تحقق إنسانيتهــا.
فلم نسمع أصوات حكام الغرب المتحضر فيما يحدث من جرائم منظمة ترعاها حكومات ودول، والتي وصلت إلى مرحلة الإبادة الجماعية للروهينغيا في ميانمار والإيغور في الصين، ولشعوبنا العربية في العراق وفي سوريا واليمن وليبيا والصومال على يد أنظمة صنعوها هم ورعوّها وصمتوا عن جرائمها، واكتفوا بالتنديد والاستنكار، وكتعويض عن جريمة صمتهم استقبلوا بعضاً من أبناء تلك البلاد، بل لتبدو الحالة أشد بؤساً وهي أنهم يشاركون في تغيير ديمغرافي يطال فئة بعينها، ويخدم على المدى البعيد دولتهم المصطنعة والمدللة (إسرائيل) وخطط التطبيع معهـا.
لا ننكر أن البلاد العربية وأغلب البلاد الإسلامية تعيش أزمة داخلية، وصراعات من مختلف الأشكال والأنواع بين مكوناتها (دينية وطائفية وعرقية واثنية إلخ..) مترافقة مع أزمة هوية، تهدد بنسف وجودها ككيانات- تم اصطلاحاً تسميتها دولاً- وهي ما تزال ترزح تحت نير حالة من التخلف والاستبداد، طال أمده واستشرت مصائبه، وهي حالة تشبه حالة أوربا في القرون الوسطى- حين اكتوت بنيران الصراعات الطائفية والدينية- والتي استطاعت تجاوزها، عبر تحولات تاريخية أفضت إلى أوربا العصر الحديث.
وإذا كانت صفحة الدين قد طويت في أوربا والغرب عموماً، ولم تعد تثير الانتقادات والتهكمات ورسوم الكاريكاتير- الساخرة من الأديان والأنبياء- أية ردات فعل، فإن الحالة في العالم الإسلامي، والذي ما تزال صفحة الدين مفتوحة على أوسع مدى فيه، وبالتالي تستوجب من الآخر فهم هذه الحالة، وعدم إثارة الشعوب، ففيها من التحفز للقفز نحو المجهول ما يكفيهــا.
أخيراً؛ تستدعي الحكمة والموقف الحكيم حكماء، وهذا ما تفتقر إليه حكومات العالم، والممسكين بأدوات السلطة كل سلطة (سياسية واقتصادية وعلمية وأدبية ودينية إلخ..).
نختم بمقولة السيد المسيح عليه السلام: المجد لله في الأعـالي، وعلى الأرض السـلام، وفي النـاس المسـرة.
فهـل يكون لهـذه المقولـة من نصيب في التطبيق بهـذا العـالـم الانتهـازي والـداعــر؟!
التعليقات مغلقة.