مجدي رياض
ثالثاً: القسم النظري؛ آراء وقضايا
(3) الناصرية والإسلام والعلمانية والأصولية والنهضة
[إن هذا المشروع القومي الناصري هو خطوة هامة من الناحية الموضوعية نحو أسلمة الحياة والنهضة في عالم الإسلام ومن هنا جاءت مواجهة الغرب لهذا المشروع على نفس المستوى الذي واجه به المشاريع النهضوية التي سبقته على درب النهضة والتحرر والإحياء]
د . محمد عمارة
- كما ترى في كتاباتك وآرائك تتقدم الثورة كحل لأزمة الديمقراطية وأزمة المعارضة وأزمة التفتت القومي، وهي ترتكز على النقد الجدلي… والصراع بين التقليد والتجديد… الإتباع والإبداع. من جهتنا.. نرى أن هذه الثورة الثقافية بحاجة إلى منظور حضاري شامل تمتد جذوره في تربة الواقع المنطلقة منه، ومن ثم تحتاج إلى جهد نقدي عميق للتراث وللأطروحات التجديدية المطروحة باسم العصر، والهدف من ذلك هو الوصول إلى الجدلية الصحيحة والأصيلة، ومن هنا فإن انتماءنا للحضارة العربية الإسلامية كأصل وجذر يحتم علينا ألا تنطلق من أي أرضية أخرى..
السؤال الأول في هذا الإطار حول اطروحات الاتحاد الاشتراكي والتي اتهمها البعض بأنها ذات منحي ماركسي، نحن لا نرى ذلك ولكننا نجد الكثير من العبارات تؤكد على الإسلام والمسألة الدينية على أساس أنها مسألة إيمانية أخلاقية لا مجتمعية سياسية، بينما الإسلام بصفة خاصة دين ودولة ويدخل في صميم البناء الاجتماعي والسياسي، فما هو رأيكم في هذا الأمر؟.
□ الحقيقة أن الواقع الخاص منذ السبعينيات وظهور حركات التكفير باسم الدين ودور الأنظمة في تغذية هذه الاتجاهات واستغلالها ضد القوى الديمقراطية والتقدمية، ثم انقلابها عليها والدخول معها في صراع أقرب ما يكون للصراع الطائفي، هذا الواقع حجب رؤيتنا وجعلنا أكثر حساسية في اختيار المصطلح أو التعبير السياسي لمنطلقاتنا.
على صعيد آخر فإن كثيراً من القوى التقدمية والسياسية كانت مشكلتها تتمثل في عدم إعطاء مسألة الأديان دورها الحقيقي سواء الفعلي في حياة شعبها أو بناء أخلاقية شعبها وثقافته.
ولم تعط لهذه المسألة مكانها في فكرها وتعاملها مع واقع حياة جماهير شعبها ومشاعره، ولم تستكشف بوجه خاص دور الدين الإسلامي في توجيه ثقافة أمتنا وحياتها، فتعاملت مع هذه المسألة بشكل سطحي أو بأشكال ديماغوجية مغرضة أو مخادعة أو هي ألقت بها جانباً وتركتها لقوى التخلف والرجعية واعتبرتها تركيباً فوقياً من تركيبات مرحلة فات أوانها وانتهت، وهكذا تركتها ولم تمسك بها لتبقي رصيداً للعصبيات، فتحرص التعصب وتقدس السلفي ونفجر البدائي في صيغ لا عقلانية.
الإسلام أعطى منحى لحضارة أمتنا وثقافتها وتاريخها، وقد جاء كدين للبشر جميعاً وكفلسفة عامة في الحياة ونظرة كونية، وتحت راية الإسلام نهض العرب وأقاموا حضارة كبرى وأقاموا إمبراطورية واسعة…. الخ…
ولقد استطاع عبد الناصر أن يجمع بين الثقافة الديمقراطية التقدمية والثقافة الدينية للشعب وخاصة الإسلام، ولم يستخدم الدين- كعهد الأنظمة- كدعاية ديماغوجية مصلحية، بل تعامل معه كأساس ثقافي وكحافز للتغيير والثورة ضد الظلم والاستغلال والاستبداد والتجزئة…. الخ.
- ولكنكم ترون أن إحدى حسنات عبد الناصر الإبداعية في الأخذ من إيجابيات التيارات الإيديولوجية الوطنية هو أخذه بالضرورة التاريخية لبناء وحدة الأمة من التيار القومي، ثم أنه أخذ بهذا ضمن مفهوم علماني لبناء الدولة العصرية.
- بعبارة أخرى: كيف يتسق هذا مع ما تطرحونه الآن؟ وهل كان عبد الناصر بالفعل علمانياً؟.
□ حينما نقول أن عبد الناصر علماني يثير استغراب الكثيرين خاصة وأنه معروف كرجل مسلم متمسك بالخُلق والمبادئ الإسلامية بل وثقافته الإسلامية جزء رئيسي في مشروعه وتطبيقاته..
حقيقة الأمر أنه كان علمانياً بالمفهوم الصحيح لكلمة العلمانية، فنحن لا نقصد بكلمة العلمانية تلك الأطروحات الأخرى التي تطرح خاصة الأطروحة الشيوعية حينما تقوم الدولة باسم العلمانية أي اللا دينية- الإلحاد- بينما هي في ذات الوقت نفسه خلقت ديناً جديداً فأصبحت هي ديناً وكنيسة بصيغ ونظم ومقولات وطقوس جديدة للسيطرة..
إننا نقصد بكلمة العلمانية: الدولة الديمقراطية، دولة كل المواطنين ولكل الأمة على اختلاف تياراتها الإيديولوجية ومذاهبها ومعتقداتها الدينية، أي القبول والتأكيد على حقيقة التعداد في الأديان والتيارات والأفكار ووجود صراعات وتفاعلات شتى والاعتراف بأنه لا يوجد من يملك الحقيقة المطلقة في إدارة وتطوير المجتمع- الأمة- والدولة.
عبد الناصر حينما أخذ صيغة ومفهوم الدولة العصرية، الدولة الوطنية لكل المواطنين.. أخذ مفهوم المواطنة- في العلمانية- وقدمه على مفهوم المذهبة، أي ليس بالاعتماد على الانتماء للمذهب أو المعتقد كرابطة تربط بين الناس وبعضها وفي الوقت نفسه ليس نقياً لوجود هذه المعتقدات أو محاولة لمقاومتها أو نقد مشروعيتها، فالدولة العلمانية هي دولة كل المواطنين.. ونفى المذهبة.. حتى في العمل السياسي ممنوع المعتقد الشمولي وفرض الحقيقة المطلقة لفئة أو حزب.. بل لا بد من الديمقراطية في العمل السياسي أيضاً..
- مرة أخرى: كان عبد الناصر ابناً باراً لتراث هذه الأمة، والإسلام دين ودولة.. بها الشورى والمساواة والمواطنة.. الخ، فلماذا نستعير كلمة العلمانية؟.
□ صحيح أن الإسلام دين ودولة.. ونحن لا نأخذ به كما قلت في سؤال سابق كمفهوم أخلاقي وإنساني، بل كمنظور عام يدخل في تنظيم العلاقات والروابط الاجتماعية، لكن الإسلام في صياغته للإدارة السياسية والقيادة السياسية دين علماني بالمفهوم السياسي الذي نطرحه، فالدولة لا تخضع إلا لمبادئ الشورى وما تلتقي عليه الجماعة ومصالح البشر ((أنتم أعلم بأمور دنياكم)) وكانت هناك عملية اجتهاد وتجديد دائم وتفتح ومرونة في فهم وصياغة العلاقات البشرية والتشريع وبصفة خاصة في المنظور السني، ذلك لأن الأحكام تتبدل بتبدل الزمان، وما رأيناه من تسلط ومذهبة وخلق طبقة من رجال الدين كان جزءاً من الانحدار والتخلف.. وجزءاً من عملية الاستبداد وبصفة خاصة في العصر المملوكي والعثماني.
من هنا… كانت تجربة عبد الناصر مميزة في استيعاب هذا السياق التاريخي وفي فهم المتغيرات وفي الارتباط بالثوابت، وكان الشعب والمجتمع المسلم يجد في حكم عبد الناصر تطبيقاً إسلامياً دون أن يعلن عبد الناصر بشكل دعائي إنه يحكم بالإسلام ودولته دولة مسلمة..
- حتى تقترب المفاهيم.. ونقف على أرضية مشتركة من التحليل، هل يمكن إصرارك على العلمانية في رفضك لسيطرة رجال الدين؟!
□ نعم.. لأنه لا يوجد وكيل عن الله سبحانه وتعالى، والحاكم بشر يمكن أن يخطئ ويمكن أن يصيب، يمكن أن يستبد بالحكم ولا يمكن تغييره طالما يدعي انه يتحدث باسم الله- أي بكلام الله المنزه عن الهوى والخطأ- هذا التداخل مرفوض دينياً ومرفوض سياسياً.
- إذن فأنت مع دولة إسلامية لكنك لست مع حكومة دينية- أي يسيطر عليها رجال الدين-؟.
□نعم… للدولة الإسلامية.. لا لدولة دينية مذهبية، فالخمينية لا… هناك الإمام المعصوم ويتكلم باسم الله، وحتى الإخوان المسلمين يرفضون الديمقراطية… وينصبون من أنفسهم حكماً على إيمان البشر والقوى والجماعات، ومن ثم لا يستطيع أحد أن ينقدهم إذا ما استولوا على الحكم، ذلك لأنهم ينسبون أفكارهم… كلامهم… مواقفهم إلى الإسلام، ويأخذون الحق في إدانة من يعارضهم دون أن يعطوا هذا الحق للمعارض.
- تقصد سلاح التفكير أم سلاح التحريم؟.
□ بالطبع سلاح التفكير الذي أرهب الناس، وأوضاع جوهر وعظمة وتفتح الإسلام كعلاقات ونظم ورؤية للتغير.
- لنرتب أفكارنا: لقد اتفقنا على أن الإسلام مع الشورى والمساواة وأنه ضد وجود طبقة رجال الدين- على عكس الكنيسة الغربية- وأن العلمانية في الشيوعية تعني الإلحاد- وكذلك هي في الليبرالية- وأننا لا نقصد بالعلمانية سوى الديمقراطية… وأن عبد الناصر كان يأخذ بالإسلام كإيمان أخلاقي وكمنظور حضاري.. الخ..
إذن لماذا نستعير لفظ العلمانية من بيئته الأوربية كحل لإشكالية سيطرة الكنيسة، وما يتبع هذا من بلبلة في بيئتنا العربية، ألا يوجد مصطلح آخر يعبر عن مقصدنا.. ما نرفضه وما نريده دون الوقوع في هذا الالتباس؟.
□ نعم.. قمنا بتغيير المصطلح.. أصبحنا نقول بديلاً عنه تعبير ((عدم المذهبة)) فلقد وجدنا في كتاباتنا السابقة أن كلمة العلمانية تثير الكثير من الالتباسات، البعض يراها أنها اللادينية- الالحاد- والبعض كان يجدها كلمة مستوردة تعبر عن مشكلة الغرب في الصراع مع سلطة الكنيسة في القرون الماضية، وكانت القواعد تطالبنا دائماً بتقديم تعليل وتفسير عن الكلمة، فتوصلنا إلى ضرورة البحث عن كلمة بديلة تؤكد على إصرارنا وفهمنا للمسألة الديمقراطية والدولة الديمقراطية العصرية، ورفضنا في الوقت ذاته لصعود التيارات الطائفية والفئوية والانعزالية.. الخ..
أو تلك الأنظمة التي تريد أن تمذهب الدولة وتفرض طائفة معينة أو اتجاهاً معيناً لمصلحة قوى محددة وذلك عن طريق الاستبداد والسيطرة والتعصب.
بصفة عامة نحن في حزبنا وفي حركتنا الناصرية لم نستعمل كلمة العلمانية بشكل كبير إلا في السبعينيات في ظل ظروف خاصة معروفة، ولكننا في السنوات الأخيرة وبعد ردود الفعل الداخلية وبعد هبوط حدة الإرهاب الفكري لم نعد نستعملها ولا توجد في برنامجنا أو أدبياتنا المختلفة.
- ننتقل إلى الأجواء التي فرضت هذا الجدل منذ انكسار الموجة القومية وبروز التيار الأصولي فالجماعات الأصولية اتسعت وفرضت نفسها على الساحة السياسية العربية منذ السبعينيات، وهناك أيضاً ظاهرة التمسك بالدين والعودة للإسلام في الأوساط الشعبية، ما تفسيركم لهاتين الظاهرتين؟
□ أولاً لا بد أن نميز بين المعارضة الشعبية والجماعية والعفوية التي تتمسك بعاداتها وأخلاقياتها وثقافتها الدينية، وبين الحركات السياسية الفئوية المعارضة التي تتسلح بإيديولوجيات دينية وتحرك- كالنظم الفئوية- حوافز الانقسام الطائفي في المجتمع وتجنح الى الوسائل الإرهابية في ممارسة نشاطها..
إن هذه الحركات السياسية تعبر عن نزوع للاستيلاء على السلطة ومذهبة الدولة والمجتمع بصورة قصرية، فهي لا قومية ولا ديمقراطية وهي في نهجها الإيديولوجي تقفز ممن هو دون الأمة- الطائفة- إلى ما هو أوسع من الأمة- شمولية أممية- ويذلك تتجاوز البناء الوطني والديمقراطي للأمة وتتطلع إلى دولة سلطوية بلا أمة، كما أن نهجها ذاته يشد بها إلى التبعية وإلى ولاءات غير وطنية ويجعل منها رصيداً لحركة الردة والثورة المضادة.
أما مظاهر الرجوع إلى الدين في شعائره وتعبيراته الثقافية المختلفة التي يمارسها الشعب في حياته اليومية، والتي انتقلت عبر سنوات من مجتمع القرية والحي إلى المدينة والجامعات والمعاهد وشملت الأزياء والعادات والسلوك اليومي، فإنها نمط عفوي في التعبير عن ثورة الشعب الثقافية ضد الهيمنة الشمولية التي تحاول فرضها نظم الاستبداد الفئوي وضد الإذابة وتضييع الهوية.
فالمجتمع الشعبي في مواجهة الفساد وقيم الترف والأنانية والجري وراء المال وسيطرة المجتمع الاستهلاكي بقيمه وفرديته، وما يرافقه من سوء إدارة وتلويث للبيئة وتشويه للحياة ومن فحش وتبذل واستخفاف بقيم الشرف والأمانة والصدق، وفي مواجهة الغزو الثقافي المنظم باسم الحداثة والتكنولوجيا وما هو إلا زيف وتغريب، وفي مواجهة كل هذا قام المجتمع الشعبي بثورته السلبية والعفوية التي يعلن فيها رفضه للانصياع لهذا كله ولتلك السيطرة الاستبدادية، فعاد إلى تلك القيم والتقاليد التي صنعت ترابطه ووحدته في الماضي والتي أثبتت جدواها عبر مراحل مختلفة من تاريخه.
إن هذه الثورة إذا لم تكن تعرف بوعيها الجماعي ماذا تريد فإنها تعرف ماذا ترفض، وهذا ما جعلنا نسميها بالثورة الثقافية السلبية للشعب، فهي برجوعه للدين وللتدين وتشددها في ممارسة شعائرها بل والتمسك بشكليات في الزي والحجاب الشرعي والجلباب وما تحيط به من أجواء لأعيادها ومناسباتها الدينية، نقول أنها بكل هذا تؤكد على رفضها ومعارضتها لما هو قائم وتحصنها ضده وضد ما يفرضه عليها من نمط استعماري داخلي وخارجي.
ولكن هناك من يرى- في القوى القومية أو الديمقراطية- أن هذه العودة للدين تحمل في طياتها الكثير من المظاهر التعصبية والأفكار الأسطورية والنزعات الاتكالية، ومن ثم فهي ليست ثورة ثقافية بل ارتدادية ويجب التصدي لها؟.
□ إن المعارضة الشعبية التي نطلق عليها الثورة الثقافية السلبية لا بد وأن يشوبها العديد من الشوائب- كالتعصب والتفكير الغيبي الأسطوري- خاصة في الأوساط المتخلفة، ولكننا ينبغي أن نتنبه للدور الذي تلعبه النظم الاستبدادية في التحريض والتضليل من أجل الإبقاء على هذه الشوائب من خلال القهر والتفتيت الاجتماعي والتي تدفع بالمجتمع الشعبي إلى الوراء وتحرك فيه العقليات البدائية والغيبية، كما أنها عن طريق تعطيل أجواء الحرية الفكرية والسياسية التي تنير العقول تساعد أيضاً على بقاء هذه الشوائب، هذا بالإضافة إلى دور رجال الدين الرسميين ومظاهر الاحتفالات الدينية الرسمية والدعائية ودور الإعلام … الخ…
إن هذه الشوائب في المعارضة الشعبية هي معوق لا شك فيه من معوقات التجديد، فهي تعيق عمليات الإصلاح والتجديد والانفتاح على روح العصر، وتساعد على نمو أنماط من الارهاب الفكري، ولكن كل هذا لا يجعلنا نقف عند المظهر الخارجي بل لا بد من النفاذ وراء الظاهرة وأشكالها.. إلى روح الرفض.. وجوهر الثورة الثقافية ومعرفة الواقع المحيط بها والمؤثر فيها، ثم علينا التصدي لا للمعارضة الشعبية- الثورة الثقافية السلبية- بل للشوائب التي تعلق بها، وذلك عن طريق تعميم القيم الديمقراطية والتمسك بما تحمله الثقافة الدينية ذاتها من الحض على التسامح والتآخي والتراحم الوطني والإنساني، وتحكيم العقل في أمور دنيانا ومستجدات عصرنا ومجتمعاتنا..
إن عودة المجتمع الشعبي للتدين يجب أن نفهم حقيقتها ونتعاون معها، أي نفهم شعبنا ونعرف كيف نتدخل معه من هذه المعارضة السلبية إلى دور ثوري جديد، ويكفي أن نذكر هنا التجربة الوطنية لشعبنا العربي في الجزائر، فاعتصام الشعب بثقافته الدينية كانت عدته خلال الفترة الطويلة للاستعمار الفرنسي الاستيطاني، والثورة التي قادتها في البداية طلائعه المثقفة الدينية كانت المدخل لثورة الجزائر التحريرية الكبرى.
- وهناك أيضاً من برى خطورة هذا الانسياق وراء عواطف ورغبات الجماهير لأنها تمثل تملقاً للشعب، وفي الوقت ذاته فإن هذا التوجه يشير إلى شبهة الرجعية وينزع صفة التقدمية عن القوى التي تأخذ بهذا المنحى وألا تجدون أن هذا الفهم وقف وراء الغياب الملحوظ للقوى القومية والتقدمية عن تطوير الثقافة الدينية وعن الالتحام بالجماهير في آن واحد؟
□ نعم.. فهذه القوى الوطنية والتقدمية تظل في تهميش نفسها أكثر وتعزل نفسها عن أوساط شعبية وجماهيرية واسعة تشكل الأساس لكل تنظيم والينبوع لكل ثورة، ذلك حينما لا تجد سبيلاً للتأليف بين فكرها الديمقراطي والقومي وفكرها الاشتراكي وبين ثقافة الشعب الدينية، وما تحمله هذه الثقافة من قيم أخلاقية وإنسانية وعندما لا تجد نقاط الالتقاء والتكامل بين معارضتها الديمقراطية والمعارضة الشعبية العفوية.
إن الهجرة إلى الجماهير- جماهير شعبنا- كحل لمأزق هذه القوى في عدم التأثير وفي الانزواء يجب ألا تقف أمامها أية عوائق، والادعاء بفقدان التقدم والتقدمية ادعاء مغالط فلا تقدم إلا بتقدم جموع الشعب وتقدم الوعي الجماعي، والخوف من الاتهام بالرجعية خوف واهم لأن الرجعية هي الرجوع عن أهداف الأمة والارتداد بالأمة إلى الوراء وإلى مواقع الطائفية والرجعية والإقطاع السياسي المسيطر، ثم لا توجد رجعية أكثر من رجعية الاستبداد والحكم الفاشي.
والدعوة إلى التأليف والترابط بين الأفكار لا يعني أن يكون في إطار ديماغوجي كذاب لكسب الشعب وتملقه في مواقف ما، بل لا بد وأن يأتي هذا التأليف كعملية ترابط فعلي وعضوي للأصالة والتجديد في الفكر والممارسة، وهذا أيضاً من مواضيع الثورة الثقافية تدخل في إطار المراجعة والنقد التي تقع مهمة القيام بها على العناصر والمجموعات السياسية والثقافية الديمقراطية.
- إذا كانت إحدى إنجازات عبد الناصر هي محاولة توحيد قوى وتيارات الأمة عبر التأليف والترابط، وإذا كانت الثورة الثقافية الآن تتطلب هذا المنحى من التأليف والترابط، وإذا كانت هناك أخطاء في التيار الأصولي، كما توجد أخطاء في التيار القومي والتقدمي، وأن الدعوة للديمقراطية تعني إفساح المجال لتفاعل وعطاء الجميع، فهل هذا يعني إمكانية تفاعلها أم تحالفهما في هذا السياق؟ وما المطلوب من كل طرف أن يقدمه على هذا الطريق؟
□ المقصود بالنقد وبمحاولة التأليف والترابط في الثورة الثقافية أو النضال الديمقراطي ليس التحالف بين تيار إيديولوجي علماني وآخر ديني، فالتحالف إنما يقدم بين قوى سياسية واجتماعية تجمع بينهم مصالح مشتركة في مرحلة من مراحل التطور الاجتماعي والاقتصادي للوطن وتوحيدها أهداف سياسية وصيغة مشتركة لنظام الحكم الذي تطالب به وتريده..
ولكن المقصود بالنهج الديمقراطي في التفكير والممارسة هو أن نضع أمام أعيننا المهمة الأولى التي لا بديل عنها وهي صياغة الوحدة الوطنية لجماهير الشعب وبناء مقومات وحدة الأمة لتكون هناك ديمقراطية في الحكم ودولة للأمة تعبر عن مصالحها وتطلعات شعبها..
ومن أول مقدمات وحدة الأمة هي الثقافة المشتركة لشعبها. وهذا يتطلب من الفكر القومي العلماني أن يستلهم ثقافة الشعب الدينية لتأصيل قوميته وإغناءها بمضامينها الأخلاقية والروحية، إن مراجعة نقدية لكل الإيديولوجيات الجاهزة سواء التي تشكلت في مرحلة مضت أو التي استعارتها فئة أو حزب لتلبية حاجاتها مهمة عاجلة للقوى الوطنية الديمقراطية التي تقول بالتقدمية وينبغي بعدها أن تحدد الكثير من المضامين والمقولات التي تعبر عن التقدمية والعلمانية…. الخ على ضوء ثقافة الشعب الدينية وعلى أساس الإحاطة والإلمام بالأزمة والتعرف على حاجات الشعب الفعلية.
أما القوى السياسية حملة لواء الثقافة الدينية فمطلوب منها أن تكون وطنية وديمقراطية أولاً، وأن يصيغوا ثقافتهم وتطلعاتهم الإنسانية والشمولية والكونية في إطار الوحدة القومية للأمة وبروح الوطنية والمواطنة أي بروح المساواة بين فئات الأمة كلها على تعدد مذاهبها ومعتقداتها..
- هل هناك مبادرات على هذا الطريق- التفاعل بين التيارين؟.
□ المبادرات التي تمت قامت بها طلائع ثقافية من الجانبين وأخذت تعطي تعبيرها في كثير من الكتابات والندوات واللقاءات الثقافية، تلك التي تتناول موضوع العروبة والإسلام أو موضوعات الديمقراطية والوحدة والدولة والإسلام والأمة وتاريخها. الخ، وهذه المبادرات في الواقع تمهيدات وخطوات على طريق الأمل، لكنها ما زالت تشير إلى وجود أزمة في العلاقة بين الطرفين أكثر مما تضعنا على طريق التجاوز ولأن الحل والتجاوز لا يأتيان إلا عبر عمل سياسي مشترك للتغيير وتجربة عبد الناصر في هذا المجال تجربة معلمة ورائدة..
- ولكن هناك الكثيرين ممن يأخذون على عبد الناصر ضربه للقوى السياسية لا حشده وتعبئته لها.. فما قولكم؟.
□ الحقيقة أن عبد الناصر رصد مبكرا وفي فلسفة الثورة ظاهرة تصادم الثقافات- حتى داخل الأسرة الواحدة- وعلى مستوى الأمة كان نهج عبد الناصر واضحاً في تذليل أسباب التناقض والتصادم الكبيرين التيارات الأساسية- الثقافية والسياسية- في الوطن العربي، فقد حاول دائماً أن يضعها في إطار البناء الوطني والقومي على طريق التقدم والثورة.
صحيح أنه اصطدم في مراحل مختلفة مع هذه القوى أو تلك، وتعاون في مراحل أخرى وندد بقصور بعضها وسلبية بعضها الآخر، ولكنه حاول دائماً أن يشدها ويزيل من أمامها العقبات في طريق بناء المشروع الثوري المشترك وفي طريق توحدها وتحويل صراعاتها إلى الصدام الرئيسي مع القوى المضادة المعادية للأمة وفي الصدام مع التبعية والاستعمار وفي مواجهة التخلف، وكما قلنا فإن أروع ما في الفكر الناصري- على المستوى النظري- هي جدليته التأليفية بين العناصر الإيجابية في الأفكار والإيديولوجيات الأساسية في الساحة العربية.
- الآن وفي هذا الواقع العربي المتردي توجد تيارات أساسية ما زالت لم تلتق على مشروع نهضوي واحد، وبالرغم من ارتفاع أصوات وتعدد كتابات حول ضرورة وجود مشروع حضاري جديد..
المشكلة لدينا منذ جمال الدين الأفغاني وحتى الآن تتمثل في الصراع المرير بين تيارين رئيسيين- يزداد في فترة الانتكاسات حدته- تيار التقليد للحضارة الأوربية بشقيها الغربي والشرقي، وتيار الرفض الكامل والنفي لكل ما هو أوربي وافد.
- أين منظورنا الناصري في مسألة النهوض الحضاري أو ما هو تصوركم في هذا الصراع الدائر بين الوافد والموروث وكيفية تجاوزه؟
□ الأمة العربية تمر الآن بمرحلة الجمود التاريخي، والضياع بعد ضرب الحركة الجماهيرية وتشرذم طلائعها الثقافية والسياسية، وتطاحن وصراع الثقافات والتأثيرات المختلفة بما فيها الغزو الثقافي الذي مهدت له التبعية وهيمنة التخلف والاستبداد..
في هذا الوضع لا يمكن أن نبدأ عملية النهوض، فالنهوض الحضاري يحتاج لعملية تفتح تاريخي وثقافي، تفاعل وحوار في مناخ ديمقراطي من أجل الوحدة الثقافية، نحن في حاجة كرحلة أولى وأساسية لعملية سياسية… لتحقيق مرحلة التحرر السياسي..
إذا نظرنا إلى التيارات السياسية الأساسية في الوطن العربي، نجد منها من ينطلق بمنظور قومي ثوري ديمقراطي ومنها من يأخذ بمنظور ماركسي أو ليبرالي ومنها من ينهل من فكر إسلامي مستنير، هذه التيارات التي نطلق عليها تعبير الوطنية والتقدمية لها من الاختلافات والتقاطعات فيما بينها ما يقف حائلاً دون الوحدة الفكرية والثقافية كعامل هام من عوامل اندماج الأمة، ولا يمكن أن نطالب هذه التيارات بالمنظور الإيديولوجي الموحد، لكننا نقدر على دعوتها إلى مواقف سياسية موحدة إن أول مهمة على هذا الطريق- تحقيق التحرر السياسي- هي الأخذ بالنهج الديمقراطي، القبول بمبدأ التعددية وبالحوار المفتوح، وأيضاً بالعمل في الإطار القومي في التوجه والممارسة، ولا يعني هذا بالنسبة للقوى ذات المنظور الإنساني أو الكوني أن تتخلى عن منظوراتها الأممية، ولكن أن يكون توجهها الأساسي تأكيد وحدة الأمة والانطلاق، فتوجهها الإنساني والعالمي يتم عبر الأمة وليس عبر تجاوزها.
هذا في رأيي هو الممكن الوحيد في إنجاز المرحلة الأولى، وسوف يفتح الأفق أمام المراحل التالية لعملية النهوض الحضاري، وهي عملية تاريخية تأتي عبر التطور السياسي والاجتماعي ولا يستطيع إنجازها حزب أو تيار أو جبهة منفردة بقدر ما يقوم بها جهد جماعي شامل للمفكرين وللتنظيمات وللجبهات… الخ.
أما المنظور الناصري فنجده في مقولات وممارسات عبد الناصر، فتركيزه على احتياج الثورات لكل زاد فكري شريطة هضمه وصياغته وفق خصوصيتها، وفكر مفتوح لكل التجارب الإنسانية يأخذ منها ويعطيها، وكان يحتكم دائماً لجدلية العلاقة بين الأصالة والمعاصرة، وظهر الجدل بين الخصوصية والنقل… الصراع ضد الغزو الثقافي والدفاع عن الإيجابي من الموروث وإبرازه وإذا عدت بذاكرتك إلى الستينيات- الطور الثاني من النهوض الناصري- تكتشف أن كل شيء يطفح كلما اتيح له مجال من الحرية والديمقراطية: الكتابة، المسرح، الأدب، الموسيقى… الخ، انفتاح على تجارب العصر مع وعي بخصوصية وثقافة الأمة وتفاعل جدلي خلاق من أجل صياغة جديدة ومنظورة.
يتبع..
التعليقات مغلقة.