محمود الوهب *
الوطن جغرافيا وتاريخ ولغة تجسد فكراً يرشد وثقافة عامة ترسخ علاقات أبناء الوطن الواحد وتقوي الروابط الإنسانية. ما يعني أنه أرض محددة يتوارثها الأبناء عن الآباء والأجداد ليشكلوا في النهاية شعباً وقوماً أو أقواماً يعيش أو يعيشون من خيراتها، وينمّون ثرواتها على اختلاف مكوناتهم، وتعدد مشاربهم، وأنماط تفكيرهم، وتباين معتقداتهم. والوطن تاريخ إذ هو تلك العلاقات العامة التي تنشأ بين أفراد مجتمع واحد يعيش على تلك الأرض الواحدة، مهما كانت حدودها.
والوطن كذلك ثقافة تتراكم على أمداء طويلة وتنطوي على كل ما يؤرخ لذلك الشعب من أنشطة مادية وروحية. وتتجلى الثقافة في الفكر الذي يعكس حركة الواقع ونشاط الإنسان، تمثله اللغة التي تؤالف بين المواطنين. وتجسد في سياقها العام قيماً وطنية واجتماعية وإنسانية عبر ألوان من الفنون والآداب وثمة ثقافة لا مادية تجسدها الأذواق في أناقة اللباس والمظهر العام وكذلك في العادات والتقاليد التي تمارس يومياً أو في مناسبات محددة وثمة ثقافة تتناقلها الأجيال شفاهاً لها دور في تكوين ذهنية الإنسان كالحكم والأمثال والحكايا التي تكرس قيماً أخلاقية وإنسانية.
ولا شك في أن مفهوم الوطن قد تطور منذ الماضي البعيد إلى الآن. فمن الوطن القبيلة التي هي الأرض والمرعى وبئر الماء، والولاء للقبيلة ولشيخها (زعيمها)، ثم ليتطور مفهوم الدولة خلال حقبتي الرق والإقطاعية، وليغدو الدين وطناً وملاذاً روحياً يؤطر وجود حياة الإنسان ويمكّن للحاكم الإقطاعي الذي يرعى عبر أوليائه، ولعل الوطن في مرحلة الإمبراطوريات قد غدا أوطاناً ليغدو وطن المواطن العادي بيته الذي يؤويه وحيّه الصغير وملكيته الصغيرة حرفة كانت أم أرضاً يعيش وأسرته منها إن وجدت ويدفع ما يدفع تحت اسم حمايته. ولعل القرية أو المدينة الصغيرة أو الحارة في المدن الكبرى تعد وطناً وملاذاً إذ كثيراً ما يولد المرء ويعيش ويموت ولا يغادرها.
في العصور الحديثة ومع صعود البرجوازية التي أتت مع نمو الحرفة وآلاتها أخذت الصناعة تطغى على الزراعة ويسود أقطابها وجدت الدولة القومية أو الوطن القائم على أساس قومي.
وعلى ذلك فقد نشأت حركات التحرر الوطني إذ أخذت تنسلخ عن الإمبراطوريات الكبرى بعد انهيارها نهاية الحرب العالمية الأولى، فانبعثت أوطان جديدة في أنحاء الكرة الأرضية لعب في حدودها المنتصر ما شاء له ولم تنف الوطنية الجديدة الأرض ولا اللغة ولا التاريخ المشترك. بيد أن رابط الحرية الذي ارتبط بحرية السلعة وتوسع الإنتاج وتحول القن والفلاح والحرفي إلى عمال ونزول المرأة إلى ميدان العمل.
كل ذلك احتاج إلى ثورات في الفكر والثقافة العامة من أدب وفن وقوانين جديدة ناظمة لشؤون الدولة، وهكذا تبدلت بنية الوطن ومفهومه ويمكن القول: إن الأوطان قد تأنسنت أو تعولمت فعلاً.. لكن هذه الحال لم تنسحب عليها جميعاً دفعة واحدة بل خضع التغيُّر إلى مستوى تطور الإنتاج في كل بلد على حدة، وإلى العوائق المحلية والخارجية التي رافقت ذلك.
وهكذا جاءت الثورات البرجوازية لتقطع مع الشكل السابق نهائياً، ولتعطي الوطن الجديد تعريفاً حديثاً تعززه القوانين التي يقرها الشعب مباشرة أو عن طريق ممثلين وفق ما يعرف بالديمقراطية متعددة الأشكال اليوم. وما يهم أن الوطن لم يعد ملكاً لسيد أو لأسرة مهما كانت صفته/ها بل الوطن هو الذي يتساوى فيه أبناؤه كافة ذكوراً وإناثاً ما يعني أنه، وبالقوانين التي تحكمه، فوق الكل من غير استثناء تحكمه الحرية والعدالة الاجتماعية، إلى درجة يمكننا القول معها إن الحرية هي الوطن..!
الهوية الوطنية السورية:
مما يؤسف له أن هويتنا الوطنية ظلت في وعينا ملتبسة منذ أن حدد لنا الأجنبي إطارها العام وفق حدود سايكس بيكو، صحيح أن المحتوى ظل موجوداً لكننا اختلفنا حوله، فالأحزاب السياسية فسرته بحسب التاريخ والإيديولوجيا إذ نظر “الحزب القومي السوري الاجتماعي” إلى الوطن السوري على أنه سوريا الكبرى بحدودها الطبيعية التي تضم بلاد الشام كلها إضافة إلى العراق والكويت والأرض بينما رآها حزب “البعث العربي الاشتراكي” على أنها البلاد العربية من المحيط إلى الخليج.
أما الشيوعيون والإخوان المسلمون، فرأوا الوطن فكرة ومعتقداً إيديولوجياً صحيح أن كلاً منهما يقول بالوطن لكنه يعدّه مرحلة سوف يلتقي بعدها ببعده الأممي. وهكذا جرى نوع من التشتت وحدها الكتلة الوطنية التي تكونت في سياق إخراج الفرنسيين، قد أقرته وطناً منذ أنْ استقل عام 1946 وأخذت ترتقي على أسس حديثة ذات بنية ديمقراطية رغم بعض الانقلابات العسكرية التي اعترضت وجودها، وقد غدا في مرحلة الخمسينيات منارة للمنطقة لا كنظام سياسي فحسب بل كبناء اقتصادي وتنمية اجتماعية قاربت الصحة والتعليم وإعطاء دور للمرأة بما في ذلك حقها الانتخابي. ووصفت تلك المرحلة بالذهبية، لكن صعود حزب البعث من جهة، والقوى اليسارية من جهة أخرى واحتدام الصراع على سوريا بعد انقسام العالم إلى كتلتين غربية وشرقية وبروز جمال عبد الناصر في مصر كشخصية قومية عربية حقق انتصارات سياسية واقتصادية في بلده ومع تنامي دور الضباط السوريين البعثيين في الجيش، وجدت كتلة منهم في قيام الوحدة إنقاذاً لسوريا، وقد تراءى لهم بأن حزبهم سيحكم البلاد.
وهكذا وخلال فترة وجيزة من عام 1958 قامت الوحدة لكن الحياة السياسية التي كانت في سوريا تراجعت كثيراً، ولم تمض ستة شهور أو أكثر قليلاً حتى انقلب البعثيون أو بعضهم على حكم جمال عبد الناصر، فيما كانت الطبقة البرجوازية والسياسية أيضاً مستاءة، وبخاصة بعد حلِّ الأحزاب السياسية، وتفاقمت المشكلات لدى صدور قوانين التأميم، وهكذا جرى الإعداد للانفصال الذي سيأتي في 28 أيلول عام 1961 وليعاد إلى الجيش بعض الضباط البعثيين المسرّحين فالانقلاب هو لإعادة الحياة السياسية إلى سوريا وفق مبادئ الديمقراطية التي كانت تحيا في رحابها. لكن البعثيين عادوا فغدروا بزملائهم الوحدويين بانقلاب 8 آذار من عام 1963 وليستمر حكمهم حتى تدمير سوريا بالكامل وبعد أن جرى نهب خيراتها الظاهر منها والباطن وتدمير بنيتها الاقتصادية على مدى خمسين سنة.
اليوم وبعد هذا الانبعاث الجديد للسوريين بعد قمع، ومصادرة حريات، واقتصاد، ومال، وحقوق شخصية، ومدنية استلبت منهم على مدى أربعين عاماً.. اليوم يجدون أنفسهم قوميات وأديان وطوائف ومناطق واقتصاديين ومثقفين أمام تحديد مفهوم للوطن وإعادة تأصيل لهويتهم السورية.. ودونما دخول في تفاصيل ما يطرح من أشكال لنظام الحكم القادم، لا بد أولاً من تأكيد موقف موحد تجاه وحدة الأراضي السورية. كذلك لا بد من الاستنارة بأنظمة الدول الأوربية التي تتسع لأقوام وأديان مختلفة تحكمها قوانين تراعي مصلحة الجميع دونما تطرف أو تمييز على أساس الجنس أو الدين أو القومية ولا من فيتو أمام أي نشاط سياسي أو اقتصادي أو فكري، وثمة لغات قومية عامة، وأخرى ثانوية غير محظور التحدث أو الكتابة بها أو تعلمها وتعليمها كل ذلك تحت سقف الدساتير التي يقرها الشعب وقوانين يضعها مختصون وترعى تطبيقها مجالس منتخبة وفق أنظمة ديمقراطية قد تختلف في أشكالها لكنها تتوحد أمام حرية المواطن واحترام إنسانيته قبل كل شيء وأي اعتبار آخر..
* باحث وكاتب سوري
المصدر: تلفزيون سوريا
التعليقات مغلقة.